الشباب وقضية الهوية:
إن أقوى ما تكون الشمس إشعاعاً وضياءً حين تتوسط
السماء، وينعدم الظل الأسود على الأرض ليغطي نورُ الشمس كلَّ ذرة تحتها، وكذلك
الشباب؛ واسطة العمر وأقوى مراحله، تنعدم عنده أو تكاد سكنات الشرود والانصياع
ليحلّ مكانها حركات العزيمة والاندفاع. ولذلك كان الشبابُ عمادَ كلِّ أمة ومكنِزَ
كلِّ نهضة وحصنَ أي حضارة، ولأنهم معقد الآمال فقد كانوا محل اهتمام المصلحين
الأَول لسرعة استجابتهم وصلابة تبنّيهم. وفي الحديث: "أوصيكم بالشباب خيراً
فلقد بعثت بالحنيفية السمحة فحالفني الشباب وخالفني الشيوخ".
من هنا كان الشبابُ أولَ الحصون التي يستهدفها الأعداء
تارة بالقوة والبطش والاستبداد، وأخرى بإثارة الشبهات وتسعير الشهوات.. وأبرز
معالم استهداف شبابنا اليوم ما يتهدد هويتهم الإسلامية.. الهوية التي يمكن تعريفها
باختصار على أنها السمات الخاصة التي تميّز أمة عن غيرها من الأمم، أو شخصاً عن
غيره من الأشخاص.. ونحن نعني هنا السمات الخاصة التي تميّزنا كمسلمين عن غيرنا من
الملل والأمم.
الشبابُ أولَ الحصون التي يستهدفها الأعداء تارة بالقوة والبطش والاستبداد، وأخرى بإثارة الشبهات وتسعير الشهوات.. وأبرز معالم استهداف شبابنا اليوم ما يتهدد هويتهم الإسلامية
فهويتُنا التي صاغها الإسلام لأتباعه؛ هويةٌ جامعةٌ،
تستوعب الهويات الفرعية في إطارٍ جامع يسمح بتعدد الانتماءات الإثنية والقومية
والقطرية والحزبية والمذهبية، وينظر لها من باب التنوع لا التعارض، بل يوظفها
كعنصر إثراءٍ في عملية النهوض والانبعاث الحضاري. وهي هوية مستقلة مستغنية عن
الحاجة إلى أي عنصر خارجي فعناصرها خاصة ومقوماتها ذاتية.
ولعل أبرز عناصر هذه الهوية الفريدة الراشدة؛ أولاً:
الإسلام باعتباره الدين الذي ارتضاه الله لعباده أجمعين، توحيداً خالصاً وشريعةً
شاملةً، وضمَّنه تصوراً يقينياً عن حقائق الوجود الكبرى، وثانياً: اللغة العربية
باعتبارها اللغة التي اختارها ربنا لتكون لسان وحيه ولغة عبادته، وثالثاً: التاريخ
والتراث بما يشتمل عليه من القيم العالية والمبادئ السامية والتجارب الثرية.
ميادين استهداف الهوية الإسلامية:
وبعبارة مركّزة يمكن أن نقول: إن الهوية الإسلامية
تمتاز بأنها هوية التوحيد الخالص، والتشريع الإلهي، والأمة الواحدة، والفطرة
السليمة، والقيم السامية، والثقافة الرائدة. وباعتبار أن أكثر ما تتجسد فيه معالم
الهوية الإسلامية هو عنصر الشباب، فقد صار الشباب المسلم ميداناً مستهدفاً لتفكيك
وتشويش هويته فكرياً وسلوكياً.
ففي ميدان التوحيد الخالص؛ يُستهدف الإيمان في أعظم
أركانه من خلال نشر الإلحاد المعاصر وما يسمى بالديانة الإبراهيمية وما يلحق بذلك
من شبهات فكرية، وذلك بطريقة منظمة من قبل مؤسسات متخصصة مدعومة بمبالغ مالية
مذهلة، ومن ذلك تخصيص وزارة الخارجية الأمريكية مؤخراً وبشكل معلن عبر مكتب
الديمقراطية وحقوق الإنسان والعمل (DRL) مئات آلاف الدولارات لدعم المنظمات التي
تروّج للإلحاد في البلدان ذات الأغلبية المسلمة في آسيا والشرق الأوسط على وجه
التحديد!!
وفي ميدان التشريع الإلهي؛ تُستهدف أصول الدين ومصادر
التشريع من خلال إنكار حجية السنة، وإثارة الدعاوى الباطلة والشبهات المتجددة حول
كتابة السنة وكُتبها وفي مقدمتها صحيح الإمام البخاري، وادعاء الالتزام بالقرآن
وحده، ودعوى تاريخية النص لزمن التنزيل، وأن الفقه الإسلامي متحيّز للرجال على
حساب النساء، وعدم صلاحيته لزماننا المعاصر، وإحلال الفكر العلماني مكان النظام
الإسلامي مع ادعاء عدم كفاءته لمسايرة المنظومات المعاصرة على المستوى السياسي
والقانوني والاقتصادي والاجتماعي، إلى غير ذلك مما يثيره الحداثيون وغيرهم تحت
ستار العقلانية والواقعية.
وفي ميدان الأمة الواحدة؛ تستهدف الرابطة الأخوية
الإيمانية بين المسلمين من خلال إثارة النزعات القومية والقطرية والطائفية، وتعميق
الحزبية والمذهبية والفصائلية، وإطلاق يد أصحاب المشاريع الطائفية للعبث بهوية
الشعوب وديموغرافية السكان، ومن خلال بثّ الفرقة والأنانية في الصف الإسلامي،
والسعي لتعميق الخلاف بين تيارات العمل الإسلامي، ومن خلال تحجيم قضايا المسلمين
الكبرى وفي صدارتها القضية الفلسطينية التي يُراد تسويقها كقضية خاصة
بالفلسطينيين.
وفي ميدان الفطرة السليمة؛ تستهدف صبغة الله في
الإنسان من خلال الشهوات المستعرة والإباحية المنتشرة، وتمريد الإنسان على خلقة
الله التي اختارها له، وعلى فطرته التي فطره عليها، فالشذوات المتعددة وتغيير
الجنس ومثلية الميول والممارسة.. كلها مظاهر للحرب على فطرة الإنسان من حيث هو
إنسان. واليوم التزمت المفوضية السامية لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة بمنع تجريم
المثلية، واعترفت بما أسمته "مجتمع الميم" الذي يصنّف البشر وفق ميولهم
الجنسي إلى تسعة أنواع لا إلى نوعين؛ ذكر وأنثى كما خلقهم الله تعالى، وانبرت عبر
وثائقها وبياناتها المنشورة على مواقعها الرسمية للدفاع عن حقوق من أسمتهم
المثليين والمثليات ومزدوجي الميل الجنسي ومغايري الهوية الجنسانية وحاملي صفات
الجنسين!!
جملة هذه التحديات لا تتعلق -فقط- بما يخططه ويفتعله أعداء هويتنا الإسلامية، بل ثمة عنصرٌ داخلي آخر لا يقلّ خطورة في هذا الإطار، وهو متعلق بأبناء الأمة ذاتها، ذلك هو الجهل البسيط أو المركب في التعامل مع هذه الظواهر وتلك التحديات
وفي ميدان القيم السامية؛ تُستهدف أبسط مقومات المجتمع
المستقر، من خلال ضرب المفاهيم ومسخها؛ فصار الشرف والكرامة والغيرة والحياء
وغيرها من القيم الفاضلة مُستهجَناً عند بعض الشباب في ظل علمنة ولبرلة المفاهيم،
ومن خلال استهداف أولى ركائز المجتمع المتمثلة بالأسرة، عبر تمريد المرأة على
قوامة الزوج، وحثها على صراعه لتحصيل مكانة موازية -باعتقادهم- على جميع الأصعدة
والاختصاصات، أو استغناء المرأة عن الرجل، وغير ذلك مما تثيره دعوات النسوية
والجندرة وغيرها، مما يتهدد الأسرة التي تمثّل أمتن لبنات مجتمعاتنا وأمنع حصون
أولادنا وشبابنا.
وفي ميدان الثقافة الرائدة؛ يُستهدف انتماء أجيالنا
إلى حضارتهم الرائدة وثقافتهم الأصلية، من خلال قطع صلة الشباب بتاريخهم وتراثهم،
وتشويه ماضيهم والتركيز على النقاط المظلمة والصراعات العابرة والخلافات العادية
في مقابل تغييب المحطات المشرقة فيه، وتحطيم الرموز وتنقيص المرجعيات.. ومن خلال
تزوير التاريخ والإساءة لرموز الأمة ومحاولة العبث بهوية المقدسات وفي مقدمتها
القدس والمسجد الأقصى المبارك. وبحكم تأثّر المغلوب بثقافة الغالب وفشوّ ظاهرة
التغريب أصبح بعض شبابنا يحاكي النموذج الغربي في أبرز معالم هويته الذاتية،
ابتداءً من تسمية المواليد، ومروراً بالهيئة وأسلوب الحياة، وصولاً إلى الأفكار
والقناعات.
معركة الهوية بين مكر الأعداء وجهل الأبناء:
وتجدر الإشارة إلى أن جملة هذه
التحديات لا تتعلق
-فقط- بما يخططه ويفتعله أعداء هويتنا الإسلامية، بل ثمة عنصرٌ داخلي آخر لا يقلّ
خطورة في هذا الإطار، وهو متعلق بأبناء الأمة ذاتها، ذلك هو الجهل البسيط أو
المركب في التعامل مع هذه الظواهر وتلك التحديات..
وأعني بالجهل البسيط؛ غياب التصوّر الصحيح لبعض
القضايا، وتسطيح بعض الإشكالات وسيولة الكثير من المفاهيم على المستوى الفكري،
وكذلك الارتجال والاندفاع العاطفي وغياب الاستراتيجية والعرض المنطقي على المستوى
السلوكي.
هكذا تتهدد حصوننا اليوم من داخلها باستهداف شبابنا وأجيالنا الصاعدة، وهذا يستوجب استنفاراً شاملاً على مستوى الأفراد وكافة الصُعُد لتعزيز عناصر الهوية الإسلامية بين شبابنا وداخل أُسرنا ومجتمعاتنا
كما أعني بالجهل المركّب؛ انقلاب أو تشوّه بعض
المفاهيم الأساسية، وتبنّي تصوّرات خاطئة والدفاع عنها والبناء عليها، والتصالح مع
بعض ما يضاد الهوية في الوقت الذي يسود النفور من بعض ما يعتبر من عناصر وأصول
الهوية، وهذا على المستوى الفكري، وكذلك التصدّي لتبني الأفكار الوافدة والشبهات
الجارفة على المستوى السلوكي. وكثيراً ما يروج البعض لأفكار الحداثة وما بعدها
وللشبهات الفكرية والسلوكية بدافعٍ طيبٍ، ونيةٍ صادقةٍ لا تُعفي صاحبها من
المسؤولية.
الشباب العظام للمخاطر الجسام:
هكذا تتهدد حصوننا اليوم من داخلها باستهداف شبابنا
وأجيالنا الصاعدة، وهذا يستوجب استنفاراً شاملاً على مستوى الأفراد وكافة الصُعُد
لتعزيز عناصر الهوية الإسلامية بين شبابنا وداخل أُسرنا ومجتمعاتنا.
ولا بد في سبيل ذلك من عملٍ منظم؛ منضبطِ الأفكار
واضحِ الأهداف متعددِ الوسائل متنوعِ الأساليب، منفتحٍ في أفكاره دقيقٍ في أهدافه
مبدعٍ في وسائله جذابٍ في أساليبه، فلم تعُد الخطابات المجرّدة والطرائق التربوية
التقليدية كافيةً في سدّ الاحتياج المتزايد في ظل المتغيرات المعاصرة والتزاحم
الشديد. وليوازن الشباب في سبيل ذلك بين التلقي المعرفي وبين الحوار الإقناعي،
وبين التربية الإيمانية وبين التقويم السلوكي، وبين التربية الأُسرية والصياغة
المسجدية وبين التحذير من الشبهات ومناظرة المنحرفين، وبين البرامج المنهجية
والملتقيات العلمية والدورات التدريبية وبين اقتحام وسائل التواصل والسوشيال ميديا
والعوالم الافتراضية لصناعة وتقديم المحتوى الهادف.. إلخ.
وليست هذه مهمة المؤسسات والعلماء والدعاة فقط، بل هي
مسؤولية كل مسلم من موقعه وقدر إمكانه، والتحديات الخطيرة تستلزم الهمم الوفيرة،
والمهام الكرام للشباب العظام..