هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
تمتاز مواقف الشيخ أحمد الخليلي، مفتي سلطنة عُمان، بانحيازها الدائم لقضايا الأمة، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، فقد كان الشيخ على الدوام منحازا لها ومنافحا عنها، ومؤيدا وداعما لها، ومشيدا بمواقف المرابطين في المسجد الأقصى ومطالبا بمساندتهم، ومسارعا إلى ذم التطبيع ومهاجمة المطبعين.
وكذلك كانت مواقفه الجريئة في الذب عن الرسول صلى الله عليه وسلم في مواجهة حملات الإساءة له، كانتقاداته اللاذعة والشديدة للمتحدث باسم حزب بهاراتيا جاناتا الحاكم في الهند، الذي يتزعمه رئيس الوزراء الهندي، بعد تصريحاته المسيئة للرسول عليه الصلاة والسلام، وما إلى ذلك من مواقف جريئة ومشرفة في الدفاع عن قضايا الأمة ومناصرتها.
ووفقا لمراقبين فإن مواقف الشيخ الخليلي، توصف بالمواقف النادرة والجريئة في أوساط طبقة المفتين الرسميين، لأنها تغريد خارج سرب الإفتاء الرسمي العربي، ما يثير تساؤلات حول مدى توافقها مع الموقف الرسمي لدولته، واستكناه الدوافع الكامنة وراء تلك المواقف، ومن أين يستمد تلك الشجاعة الفائقة في اتخاذها، وهل تأتي بتنسيق مع أجهزة الدولة الرسمية أم إن الشيخ يتمتع باسقلالية تامة في آرائه ومواقفه؟
في مقاربته للموضوع رأى الكاتب والباحث العماني، الدكتور محمد بن سعيد الحجري، أن "محاولة فهم هذه المواقف ومقاربتها من زاوية أنها تتعارض أو تتوافق مع سياسة بلده أو البلدان الأخرى مقاربة غير مناسبة، ولن تؤدي إلى فهم دقيق لها، أقصد هنا أنها ليست متعارضة أو متوافقة، ولا يقصد منها في الأساس المعارضة أو الموافقة، إنها باختصار مواقف مستقلة، والشيخ الخليلي أشار إلى ذلك بوضوح في مقابلته التلفزيونية الأخيرة بأن (الدين له استقلاليته)".
وأضاف مجيبا عن سؤال "كيف يقوى على اتخاذ تلك المواقف الجرئية؟" أن "هذا في نظري يحسب للدولة في السلطنة، يحسب لها أنها تقدّر في عالم الدين رأيه وموقفه المستقل، إنه نوع آخر من التعاطي العماني المختلف الذي لا يضع نفسه أمام خيارات متقاطعة دائما، وكأنه ليس هناك خيار إلا المنع والحجب".
وتابع حديثه لـ"عربي21": "هذا عدا عن وجود توافق واضح في كثير من الأحيان ربما لا ينتبه البعض له، ومن ذلك مثلا الموقف من العدوان الأخير على غزة، والموقف من الإساءة إلى الرسول الكريم من قبل بعض الشخصيات السياسية الهندية، فالمواقف واحدة في كثير من الأحيان وإن اختلفت طريقة التعبير عنها بطبيعة الحال".
محمد بن سعيد الحجري.. كاتب وباحث عماني
وعن منطلقات الشيخ الخليلي في مواقفه تلك، قال الحجري: "في تقديري أن الشيخ الخليلي له منطلق واحد، وهو أن يبرئ ذمته أمام الله، وأن يقوم بواجبه باعتباره عالما عليه مسؤولية تجاه مجتمعه وأمته، ليس له هدف غير ذلك في هذا العمر، وبعد هذه التجربة الممتدة، والحرص الشديد على وحدة الأمة، وسلم المجتمعات".
وتعليقا على توصيف مواقف الشيخ بأنها تغريد خارج سرب الإفتاء الرسمي العربي، رأى الحجري أنها "تعود لحالة استمرت طويلا اعتدنا فيها على دور إفتاء ومؤسسات دينية تقصر معالجاتها ومواقفها على قضايا جزئية، فضعف دورها الاجتماعي، وفي نظري أن مؤسسة الإفتاء في عمان كانت دائما في صميم الشأن الاجتماعي، وساهمت في دفع المجتمع إلى الأمام مع حماية هويته منذ انطلاق الدولة الحديثة في عمان في 1970م".
وأردف: "كما أنها كانت معنية دائما بقضايا الأمة، لكنها في مراحل ماضية ركزت على قضايا الوحدة والتقريب بين المسلمين خاصة عبر مؤتمرات الدراسات الفقهية السنوية منذ الثمانينيات حيث كانت قناة التعبير الرئيسة عن تلك المواقف".
وأكد الباحث والأكاديمي العماني، الحجري أنه "ليس للشيخ الخليلي من دافع إلا ما سبق ذكره من قبل، ألا وهو إبراء ذمته أمام الله، والقيام بواجبه الديني، أما التساؤل حول التنسيق فما هو إلا محاولة للبحث عن تفسير لهذه المواقف لأنها في نظر البعض أصبحت غير معتادة من علماء الدين، خاصة من يحملون صفة الإفتاء".
وأوضح أن "الخطاب الديني في عمان غير مسيّس، وليس جزءا من أدوات السياسة، بمعنى أن منطلقاته ليست سياسية، إنها منطلقات شرعية دينية حتى وإن كانت لها تجليات سياسية أحيانا بحكم تقاطع الأحوال وتداخلها، وفي تصوري أن المحافظة على استقلال الخطاب الديني لأي مجتمع أمر مهم جدا، حتى وإن كانت له أحيانا بعض التجليات السياسية، إنه شبيه باستقلال القضاء مثلا أو الاستقلال النسبي للإعلام، إذ تبقى مصداقيته والثقة به وتأثيره ناتجة عن المحافظة على هذه الاستقلالية" على حد قوله.
ولفت إلى أن "بقاء الخطاب الديني مستقلاً وذا مصداقية هو نوع من القوة الناعمة لأي مجتمع؛ وهناك مجتمعات ونظم سياسية سحقت مصداقية الخطاب الديني فيها باستتباعه لها، فلم يعد قادراً على التأثير الاجتماعي ولا قادراً حتى على خدمة أهداف تلك النظم، وهذا مضر بل وخطير من ناحية حاجة المجتمعات دائماً لخطاب رشد وتعقل موثوق يحميها من خطاب التطرف والكراهية، فبقاء هذه الاستقلالية الراشدة للخطاب الديني يعمق الثقة ويحمي المجتمعات".
من جهته علق الباحث في العلوم الشرعية، المتخصص في النقد الحديثي، الدكتور عداب الحمش على مواقف الشيخ الخليلي، بالقول: "نظام الحكم في سلطنة عمان نظام ملكي فردي، يملك السلطان فيه جميع السلطات، وهو نظام علماني براغماتي ليس عدوا للدين بكونه دينا، إنما هو نظام بوليسي قمعي تجاه أي معارضة".
عداب الحمش.. كاتب وباحث سوري
وواصل: "وشيخنا الخليلي عالم جليل، وصالح نبيل، لا يتدخل بالسياسة، ولا يحرض الناس على السلطة القائمة قطعا، والسلطة تعرف ذلك تماما، ومواقفه تنطلق من إيمانه وتدينه وما يوجبه عليه علمه وموقعه، وليس بتنسيق مع السلطة الحاكمة قطعا، والذي يجعله جريئا إلى حد التصريح بما يناقض سياسة دولته التي هو مفتيها؛ قوة إيمانه".
وأردف في حديثه لـ"عربي21": "ويدعمه في هذا الاتجاه أن المجتمع العماني مجتمع متدين من جهة، ومجتمع مرجعي من جهة أخرى، فالشعب العماني يرى في الشيخ الخليلي الوالد والمربي والمرشد، ولا يزال العلمانيون في السلطنة قلة قليلة، لا تستطيع مواجهة الغالبية المتدينة بالفطرة".
وخلص المحقق والباحث السوري الحمش إلى القول: "من وجهة نظري التحليلية الخاصة فإن السلطة في سلطنة عمان واعبة عاقلة، ولأن يكون شعبها متدينا ملتزما بدينه وأخلاقه، خير من أن يكون شعبها متحللا من الدين والأخلاق، وبالتالي يمكن أن يغدو عميلا للخارج، عدوا لبلده وسلطانه".
وفي ذات الإطار وصف الباحث المصري في الفكر الإسلامي، أحمد المنصور، الشيخ الخليلي بأنه "من أقدم المفتين في العالم الإسلامي، وله مكانة في عُمان قل نظيرها، فلا يعرف أكثر العمانيين مفتيا غيره في كل حياتهم، أما خارج عمان فالشيخ هو أشهر شخصية عمانية بعد سلطان عمان، لكثرة اتصالاته بقادة الرأي في البلاد العربية والعالم الإسلامي، وكذلك مشاركاته في المؤتمرات العلمية، والاجتماعات الإسلامية الهادفة لتعضيد التعاون الإسلامي".
وتابع: "ولا شك أن ذلك يعطيه نوعا من الحصانة والثقة بالنفس لا توجد عند غيره من الشيوخ والمفتين، وقد يُضاف إلى ذلك أمور ساعدت على وقوف الشيخ هذه المواقف، منها الصراع في منطقة الخليج ووجود عدد من المحاور في المنطقة؛ ما يفسح المجال لأن يكون لعمان صوت مستقل معبر عن شخصيتها وقناعة أبنائها دون الالتزام بخط المؤسسات الرسمية في الدول العربية".
وأردف: "ومنها انتقال السلطة إلى سلطان جديد، ومثل هذا الأمر يصحبه تجديد السياسات وإعادة رسم الضوابط، لكن الأصل في تميز الشيخ عمن عداه هو شخصيته وقناعاته واستعداده للجهر بما يراه من الحق".
وفي رده على سؤال "عربي21"، "إلى ماذا تُرجع مواقف الشيخ الجرئية بشأن تلك القضايا؟" فإن المنصور أرجعها إلى "قوة شخصية الشيخ، وعزة نفسه، فقد تبوأ منصب الإفتاء في سن صغيرة، وعاصر خلال عقود من حياته في هذا المنصب أحداثا جساما زادت من رباطة جأشه، وسهلت له قول ما يريد معبرا عن المذهب الإباضي الذي يعتقد أصحابه أنهم أصحاب رسالة ضد الظلم سواء صدر من المسلمين أو من غيرهم".
ونبه إلى أنه "لا تنبغي الغفلة عن أن الشيخ بحكم بيئته العمانية المتمسكة بالتقاليد العلمية والثقافية والاجتماعية -كما يلاحظ في تمسك أكثرية العمانيين بالزي والأدب العمانيين في طريقة الحديث والمعاملات والضيافة- وكذلك بحكم سنه، يمثل طبقة لم تتغرب ولم تتأثر كثيرا بالأهواء السياسية والثقافية، كما حدث لمشايخ آخرين في البلاد العربية الأخرى".
وعن دوافع الشيخ في مواقفه تلك أكدّ المنصور أن "دوافع الشيخ هي الرغبة في الصدع بكلمة الحق، وألا تخلو الساحة من شعاع نور يحيي في قلوب المسلمين الأمل، كما أن الشيخ كما علمت ممن تأثروا بمدرسة المنار التي كان نظارها الشيخ محمد رشيد رضا، وهي مدرسة تجمع بين الإصلاح الديني ومحاربة الخرافات، وبين الاهتمام بأحوال المسلمين وقضاياهم في كل أنحاء المعمورة".
واستبعد في ختام حديثه أن تكون مواقف الشيخ الخليلي بإيعاز مباشر من أجهزة الدولة، مستدركا بالقول: "لكنني أظن أن الشيخ يعلم الحدود التي لا ينبغي له تجاوزها، حتى لا يصطدم بالدولة مباشرة، وهو يحاول أن يستغل المساحة المتاحة له، للتعبير عما في ضميره، وإحياء الأمل في نفوس المسلمين، وترك أثر طيب عن المذهب الإباضي".