هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
"لدينا من الحقائقِ ما يكفي لإدانةِ الاحتلال، فلماذا نبالغُ ـ وأحياناً نكذب ـ في حكاياتٍ غير موثقة.. الحقيقةُ سلاحٌ أمضى من الاستعطاف".. كلمات سمعتُها منذ عشرين عاماً من د. أنيس صايغ ما زالت أساساً في كتابتي عن أي موضوع فلسطيني.
ما الذي أحضر هذه المقولة الآن إلى خاطري؟
حضَرت في أسبوع ذكرى مخيم تل الزعتر، حيث قرأت الكثير من المغالطات في ذكر تفاصيل الملحمة، وأكثر ما كان يزعجني ترديد عبارة ".. واغتصاب النساء"، علماً أن هذا الأمر لم يحدث كما يصوره من يبالغون في الكلام من أجل الإدهاش والاستعطاف. وكذلك خلْطُ البعض بين حصار تل الزعتر 1976 وحرب المخيمات 1985، والحديث عن طلب فتوى تسمح بأكل لحوم الموتى، وهذا ما لم يحدث ولم يخطر ببال أحدٍ في الحصار.. السؤال هنا: ألا تكفي حقيقةُ قَتلِ أكثر من 4000 شهيدٍ لتدلَّ على وحشية المجرمين؟!
أذكر أنني في ندوة مشتركة في الجامعة الأمريكية في بيروت عن أوضاع اللاجئين الفلسطينيين في لبنان مع المرحوم الدكتور حسين أبو النمل، ذكرتُ أن من تجاوزات "المكتب الثاني ـ المخابرات" حين كان يحكم المخيم، تَحرُّشَهم بالنساء الفلسطينيات في المخيمات، في ظل سيطرتهم المطلقة.. فرفض أبو النمل هذه المقولة، وقال: لقد عاصرتُ تلك المرحلة بتفاصيلها، وأتحدى أن يُثبت أحدٌ حادثة كهذه وقعت ولم تقم قائمة رجالهم!!
لدينا 900 ألف لاجئ في عام 1948، يعني 900 ألف نكبة، و900 ألف قصة كافية لتهزّ العالم وبعضاً من ضميره، وكافية لتسطع في سماء الإعلام، وتفضح الجريمة والكارثة.. فلا داعي لأن نزيد على هذه القصص قصصاً من تأليفنا، فالنكبة هي أكبر راوٍ واقعي للتراجيديا الفلسطينية بدون إضافات أو توابل.
وهذا الأمر ينطبق أيضاً على المبالغة بالبطولات والحكايات الغريبة عن الالتحامات مع العدو، ومنها ما حدثني به أحد الكتّاب الفلسطينيين بأن الصحفي الفلسطيني "فلان" قال له: أنا أكثر مَن قتَل من العدوِّ ودمّر آلياتِهِ وكدتُ أحرّر أجزاء من الأرض المحتلة!! فسأله صديقي: كيف ذلك؟ قال: كنت أعمل في "الإعلام الموحّد" في منظمة التحرير، وكان مطلوباً أن أكتب التقارير عن العمليات العسكرية في الداخل المحتل. فكنت أدمّر الآليات وأقتل الجنود وأنا في مكاني.
وقد عزَّز هذه السقطاتِ إعلامُ العدو، الذي كان يخضع للرقابة العسكرية، فكان يخفي خسائره مهما بلغت، وهي لم تكن قليلة، وبات الشك بإعلامنا والرقابة على إعلام العدو يساهمان في الإحباط وروح الهزيمة من عدم جدوى العمل المقاوم ضد الاحتلال. فلو كان إعلامُنا خالياً من المبالغة لاستطعنا أن نكرّس صدق بياناتنا.
ولم يستطع إعلامُنا إثباتَ كذبِ العدو إلا عندما صار يوثّق عملياتِهِ بالتصوير والتوثيق، وصارت الصورة مثل "الميّ اللي بتكذّب الغطاس"، ولم يعد يجرؤ الاحتلال على الإنكار قبل أن يتأكد إذا ما كانت العملية مصورة أم لا!
وينطبق هذا الأمر أيضاً على الاقتباسات التي ينقلها كثير من المحللين عن قادة العدو، وبعض الأكاذيب التي تستعطف الآخر مؤقتاً، وعند انكشاف الحقيقة تنقلب إلى ضدها (المقال القادم ـ إن شاء الله ـ سيتضمن عدداً من الأمثلة المفاجئة للقرّاء).
وهذا ما ذكره صايغ في مذكراته، عند الحديث عن المنهجية في التعامل مع الوقائع، والتزام الموضوعية والابتكار والجدية والدقة والأمانة في نصوصنا. أنه عانى من المنهجية المضادة في هذا المجال ضد منهجية مركز الأبحاث والموسوعة الفلسطينية، فقال: إننا نتعامل مع الحقائق ونرفض الأقاويل والاقتباسات ما لم تكن مثبتة علمياً ومنقولة حرفياً وتعتمد على أصول ومصادر موثوقة.. إنك تشكك بحقنا في فلسطين إذا شككتَ بقول غير مسؤول. إنك تحيد عن طريق النضال إذا رفضتَ تحليلاً سقيماً وتفسيراً عليلاً، بل أنت تمارس الخيانة عينها إذا لم تزايد مع المزايدين في شتم العدو ورميه بأية تهمة تخطر على بال وتكون من بنات الخيال. أما نحن في المركز والموسوعة فنؤمن بأن المادة التي تصلح للاستعمال في حربنا الإعلامية هي فقط المادة الصحيحة والدقيقة والتي هي فوق الشكوك. الإعلام الصحيح هو الإعلام الصادق. ونترك للعدو أن يستعمل إعلامه الكاذب وما علينا إلا أن نتولّى فضحه وكشف مغالطاته".
وللدكتور أنيس قصة مثيرة مع قصة "وثيقة كامبل" والمؤتمر الاستعماري والدولة الحاجزة، جديرة بأن تروى في مقال الأسبوع القادم.
لدينا 900 ألف لاجئ في عام 1948، يعني 900 ألف نكبة، و900 ألف قصة كافية لتهزّ العالم وبعضاً من ضميره، وكافية لتسطع في سماء الإعلام، وتفضح الجريمة والكارثة.. فلا داعي لأن نزيد على هذه القصص قصصاً من تأليفنا، فالنكبة هي أكبر راوٍ واقعي للتراجيديا الفلسطينية بدون إضافات أو توابل.
فهل نعي أهمية هذا الأمر؟!