كتب

صفحة من تاريخ المذاهب في المغرب الإسلامي..التشيع نموذجا

يعتبر المغرب الإسلامي فضاء مثاليا للمذاهب المناوئة للسلطة المركزية
يعتبر المغرب الإسلامي فضاء مثاليا للمذاهب المناوئة للسلطة المركزية

الكتاب: التشيع في بلاد المغرب الإسلامي حتى منتصف القرن الخامس هجري
الكاتب: محمد بركات البيلى
الناشر: دار النهضة العربية القاهرة
عدد الصفحات: 194 صفحة


1 ـ بين يدي الكتاب: 

عدّ المغرب الإسلامي، بما هو إقليم هامشي، فضاء مثاليا للمذاهب المناوئة للسلطة المركزية؛ ففيه تجد أريحية لتنشط بأريحية بعيدا عن المراقبة، بعد أن جرّبت مواجهتها في الشرق وتلقت الهزائم الكبيرة. فتمكنت من بناء دويلات في الأطراف تضمن استمرار المذهب، وتخول له ممارسة الحكم وفرض تصوره في أقاليم محدودة، وإن لم ترتق إلى منزلة الخلافة المركزية ولا تؤسس تشكيلا موازيا لها. كذا الشأن بالنسبة إلى الخوارج والعلويين؛ فظهر بنو رستم من المذهب الإباضي في تاهرت وبنو مدرار عن الصفرية في سجلماسة، وأقام الأدارسة العلويون دولتهم في فاس.

وعلى منوالهم، اتجه الشيعة غربا بحثا عن دور سياسي. وأمكن لهم، في سياق مناوئ لتمكن المذهب السّني المالكي، خاصة من السلطة ومن القلوب هناك، أن يرتقي إلى سدّة الحكم بداية، في نهاية القرن الثالث للهجرة. ولكن التأريخ إلى هذه المرحلة ظل يُقدّم دائما من وجهة نظر سنية. وهذا ما دفع الباحث محمد بركات البيلي أن يبحث ضمن مؤلفه "التشيع في بلاد المغرب الإسلامي حتى منتصف القرن الخامس هجري"، في تاريخ التشيع بمحاورة الرؤية السنية من داخل المصادر الشيعية، وأن يعمل على حسم مسألة انتماء العبيديين وانتسابهم إلى نسل فاطمة، خاصّة أنهم كانوا يحشدون الولاء لدولتهم ويعملون على كسب الشرعية بالاستناد إليها. ويختبر بالنتيجة مدى صلابة الروايات السائدة بالعودة إلى صفحات من تاريخ المغرب لم تدرس بالحياد الضروري.
 
2 ـ التشيع في بلاد المغرب قبل قيام الدولة العبيدية

أخذ العلويون الطريق إلى المغرب الإسلامي بعد أن قامت الدولة العباسية وتضييقها عليهم التضييق الشديد، فأمكن لهم بسط سلطانهم في الكثير من المدن في المغربين الأوسط والأقصى، ضمن مراكز حكم صغيرة وغير فاعلة شأن مليانة وشلف وتلمسان. وأشهر العلويين عنده إدريس بن عبد الله الحسني العلوي، الذي نزل بمدينة وليلي بالمغرب الأقصى بعد نجاته من مذبحة فخ 169هـ، فأقام دولة الأدارسة هناك، التي أرسى دعائمها لاحقا ابنه إدريس الثاني.
 
يخلص الباحث بعد عرض وقائع كثيرة وتشقيق فروع العلويين والاختلافات بينهم، إلى أنّ التشيع لم يكن إسماعيليا أول وصوله إلى بلاد المغرب، وإلى أنّ قيام دولة الأدارسة التي غدت لاحقا سنية، قد هيأت أذهان البربر للقبول بالدعوة إلى آل البيت. ويشير كذلك إلى "أنّ غالبية العلويين النازحين إلى بلاد المغرب قبل التوسّع الشيعي، كانوا من الحسينين، ولا نكاد نعثر بينهم على حسني إلا نادرا، وذلك لأن الفرع الحسني (أحفاد الحسن) كانوا أميل إلى الثورات المعلنة التي تتعرض إلى انتقام العباسيين، بينما كان الفرع الحسيني (أحفاد الحسين) –كم سبق أن ذكرنا- أميل إلى الدعة والسكينة، وإن كانت له مطامح سياسية، فقد عمل على تحقيقها سرّا في طي الكتمان والتّخفي". ثمّ كان قيام الدولة العبيدية سنة 297هـ مرحلة فارقة في حياة المذهب الشيعي ببلاد المغرب الإسلامي، وكان عبد الله الشيعي صاحب الفضل في نشأتها.
 
ويجد شبها له في أبي مسلم الخرساني، وكأنه يرصد شيئا من مشيئة القدر؛ فلكليهما الفضل في قيام الدولة؛ الفاطمية في المهدية والعباسية في بغداد. وكلاهما وجد بالمصير التراجيدي نفسه؛ فكوفئ بالقتل. وفي الحالين، أثار الجحود والقتل ردود فعل عنيفة هددت عرش الدولة الفتية.
 
وانطلاقا من المصادر الإسماعلية، يكمل الباحث فراغات معرفتنا بشخصية أبي عبد الله الشيعي، فينقل عنها أنّه "كان ذا علم وعقل ودين وورع وأمانة ونزاهة وكان أكثر علمه الباطن". وأنّه التحق بمدرسة لإعداد الدعاة الإسماعيليين وتدريبهم في اليمن، وأُوِصي بأن يمتثل سيرة أبي القاسم بن حوشب هناك وأن يعمل بها. ثم أُرسل إلى المغرب وأُرسل معه عبد الله بن أبي الملاحف، الذي تذكر حوله روايات مضطربة، بعضها يؤكد أنه أخوه ليؤازره. وقبل ذلك بدأ اتصاله بحجيجها في مكة. ثم قصد، عبر طريق لا يتفق عليه المؤرخون، إلى أرض كتامة في الشمال المغربي لما سمعه من شده أهلها على السلطان. ولا تعنينا الوقائع الصغيرة من هذه الروايات، بقدر ما يعنينا معرفة سعي الإسماعيليين لوضع قدم في المغرب الإسلامي عامة، وتخطيطهم لذلك التخطيط المحكم.

3 ـ الطريق إلى تأسيس الدولة الفاطمية:

ويؤثر على أبي عبد الله الشيعي، تنظيمه للدعوة الإسماعلية في المغرب الأقصى وجذب الناس إليها بصيغ وعبارات خطابية مؤثرة، فمثلا سمىّ الفج الذي مر منه بفج الأخيار، قائلا للكتاميين بأنّ اسم مدينتهم مشتق من الكتمان وهم كتامة، وأطلق على تارزوت التي لجأ إليها لاحقا بدار الهجرة تشبيها لها بدار هجرة الرسول. وتدرّج في دعوته من السرية إلى العلنية لمّا اكتسب أسباب القوة. وبعد أن أخضع كتامة، بدأ مرحلة الإعداد للاستيلاء على أفريقيا؛ فاتجه شرقا حتى اصطدم بجيش الأمير الأغلبي أبي العباس بن إبراهيم بن أحمد، ولكنه هُزم وظل مرابطا قريبا يتحيّن الفرصة للزحف من جديد. 

ولمّا انتفض زيادة الله الثالث على والده وقتله ليستولي على الحكم من بعده ويقتل أخاه أبا حوّال، قائد الجيش الذي واجهه، أضحى الطّرف المهيمن في النزاع بين الطرفين. ولم يوفق جيش زيادة الله في صد زحفه، ولم يفق الأمير الأغلبي في حشد دعم الأهالي ضد "الكافر الصنعاني المبدل لدين الله المحرّف لكتابه المستحيل لدماء المسلمين، بغير حقّها المبيح للفروج بخلاف حلّها، مرتكبا للمحارم فيها، الآكل أموالهم، مستلبا لها". واضطر بعد هزائمه المتعاقبة إلى الهرب إلى الشرق، فاستسلمت القيروان دون مواجهة للداعية الشيعي. وحالما أرسى دعائم الدولة ونصّب أتباعه على القضاء وأجهزة الإدارة، عاد إلى سجلماسة ليحرر الإمام الإسماعيلي المسجون هناك. وبتأسيس الدولة الفاطمية، شهدت أفريقيا تحولا في الصراع المذهبي من الصدام بين الفرعين السنيين المالكي والحنفي إلى الصراع بين السنة والشيعة. وكثيرا ما اتخذ شكل الصّدام الدامي في العهدين العبيدي والزيري.

4 ـ فاطميون أم عبيديون: انتساب العبيديين في المصادر الإسماعيلية:

من الأسئلة الكبرى التي دار عليها كتاب "التشيع في بلاد المغرب الإسلامي حتى منتصف القرن الخامس هجري"، نسب الإمام عبد الله المهدي أول خلفاء الفاطميين في أفريقيا ومدى صحة انحداره من سلالة النبي صلى الله عليه وسلّم. والثّابت في المسألة، قولٌ يرى صحة انتساب تلك الأسرة الشيعية إلى البيت العلوي، وآخر يدحض هذا الانتساب ويجد فيه ادعاء حتى يضمن العبيديون شرعية الحكم باسم فاطمة. 

ولم تتشكك المصادر السنية كثيرا في حقيقة انتساب العبيديين إلى نسل فاطمة، فقد كان من المتعذّر على أهل السنة معرفة النسب الحقيقي للأئمة الإسماعلية. فحركتهم في طور التكوين بعد، وأئمتها يتسترون وراء التقية والترحال. 

 

لما أوجد الفاطميون لأنفسهم نقطة ارتكاز في مصر، انتقلوا إلى هناك وبنوا القاهرة ومنها أخذوا يشاغلون الخلافة العباسية في بغداد. وعليه فالمغرب الإسلامي برمته كان عندهم دار هجرة لا غير، تستبع العودة إلى الدار الأصلية جريا على سنة الرسول بهجرته من مكة إلى المدينة، ثم عودته لها فاتحا لمّا اكتسبت دولته أسباب القوة والمواجهة.

 



وينقل عن المؤرخ كانار قوله: "يرفع الفاطميون نسبهم إلى إسماعيل بن جعفر. وبما أنهم لم يصرحوا حقبة من الزّمن وبصفة رسمية وعلنية بنسبهم، وأنّ أسماء الأئمة في دور الستر من محمد بن إسماعيل إلى عبد الله المهدي بقيت قصدا في طيّ الخفاء، فقد وردت سلسلة نسبهم بصور مختلفة؛ مما جعل أصل الفاطميين لا يزال حتّى الآن يحوطه الغموض، وقد أنكر خصوم الفاطميين انتسابهم إلى علي وقالوا إنهم أدعياء، حتى إنّ عبد الله اعتبر ابنا ليهودي حسب العادة العربية القديمة التي تنسب الأشخاص المكروهين إلى أصل يهودي". ولذلك؛ يبحث الكاتب عن ضالته في المدونة الشيعية التي بدا مطلعا عليه اطلاعا وافيا.

5 ـ بحث في أنساب العبيدين إلى الفواطم من خلال المصادر الشيعية

يعرض محمد بركات البيلي تفاصيل دقيقة حول جدل أحقية الخلافة داخل البيت الشيعي نفسه. ويذكر الخلافات الجوهرية والانقسامات بين فروعه وأسبابها ومختلف الأقوال فيها. ولكنّ عودته إلى هذه المصادر ومقارنة بعضها ببعض، يفضي به إلى مأزق حقيقي؛ فعمله المضني يكشف له أن سلاسل الأئمة تشتمل على حلقات كثيرة ضعيفة، يحيط بها الشكّ والاختلاف والتناقضات العديدة في الروايات. وانفصام الواحدة منها وعدم صمودها أمام التحقيق، يقطع السلسلة بأسرها ويسقط زعم انتماء العبيديين إلى البيت الفاطمي. فكيف بالأمر إذا كانت الحلقات الواهنة كثيرة؟ 

ويطمئنّ الباحث، ويطمئن قارؤه أيضا متى سلّم بكل المعطيات التي قدّمها إلى أنه "مهما رأينا في هذا الخلط في الرواية الإسماعيلية، فإنه قد يعدّ شيئا يسيرا إذا قورن بخلط الإسماعيلية فيما كتبوه عن عبد الله المهدي. ويمكن القول بأنّ الرواية الإسماعيلية واجهت مأزقا حقيقيا حينما أصبح لزاما عليها إثبات نسب المهدي وبيان شخصيته". و"هكذا يتّضح لنا أن انتساب العبيديين للبيت العلوي مشكوك في صحته، ولم تستطع الرواية الإسماعيلية نفسها أن تذهب عنّا هذا الشكّ، بل إن خلطها واضطرابها أدعى لزيادة الشكّ وعدم نقصانه".

6 ـ "التشيع في بلاد المغرب الإسلامي حتى منتصف القرن الخامس هجري".. وبعد؟

لهذا الأثر مزية لا تنكر. فهو يعود إلى مصادر شيعية تهملها القراءات السنية، ويقارنها فيما بينها ثم يقارنها بوجهة النظر السنية بكثير من الحياد الصارم؛ ليؤكد فرضيات قائمة بالحجة القوية لا بالتخمين والتقدير. ولكنه يذهب إلى أنّ اكتشاف المغاربة لحقيقة الدولة العبيدية الشيعية ورفضهم لها، جعلها تتجه شرقا؛ فقد "لقيت منذ الوهلة الأولى معارضة سنية قوية، جعلت العبيديين أصحاب هذه الدولة لا يشعرون بالاستقرار على الساحة المغربية وتطلعوا إليها، منذ خليفتهم الأول، إلى مصر، يأملون أن يستولوا عليها لينقلوا إليها قاعدة دولتهم وحاضرتها". وفي تقديرنا، لا تخلو هذه المصادرة من تعجّل. فأعين العبيديين كانت مسلّطة على مركز الخلافة في الشرق منذ البداية. 

وضمن عملهم على التخفي بدؤوا زحفهم نحوها من كتامة إلى أفريقيا. وبعد أن فرض أبو عبد الله قبضته على رقعة جغرافية كبيرة في بلاد المغرب في فترة، وانضمت إليه قبائل البربر، وبعد أن تمّ له ما أراد: "قاد الأجناد والأنجاد، واستفتح المدن وملك البِلَاد، وبنى بموضع يعرف بإيكجان على مقربة من قسنطينة مدينة وسماها دار الهجرة، وسمى أتباعه وأشياعه من كتامة وغيرهم المُؤمنِين، وإذا ركب نادى مناديه في الجيش: يا خيل الله اركبوا" يقول القلعي في كتابه "أخبار بني عُبيد": ولم يعد أبو عبد الله الشيعي من القيراون إلى سجلماسة في المغرب الأقصى، إلا ليحرر إمامه عبيد الله المهدي بعد أن سجنه بنو مدرار. 

ثم لما أوجد الفاطميون لأنفسهم نقطة ارتكاز في مصر، انتقلوا إلى هناك وبنوا القاهرة ومنها أخذوا يشاغلون الخلافة العباسية في بغداد. وعليه فالمغرب الإسلامي برمته كان عندهم دار هجرة لا غير، تستبع العودة إلى الدار الأصلية جريا على سنة الرسول بهجرته من مكة إلى المدينة ثم عودته لها فاتحا، لمّا اكتسبت دولته أسباب القوة والمواجهة.


التعليقات (0)