هل اليسار على حق؟

طوال عقود الخمسينيات والستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، كان اليسار هو الأجهر صوتا في المنطقة العربية، فقد كانت هناك أحزاب شيوعية قوية في العراق وسوريا والسودان، ثم كان ما يمكن أن يسمى باليسار الناعم الذي كان يرى في الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، أمل الخلاص من الاستعمار القديم والحديث وتحرير فلسطين، ونجحت قوى اليسار في معظم الدول العربية في إجهاض مشروع الرئيس الأمريكي الأسبق دوايت آيزنهاور، الذي كان يقدم طُعم المعونة الأمريكية متبوعا بالعون من القوات المسلحة الأمريكية "لأي دولة في الشرق الأوسط إذا تعرضت للتهديد من دولة أخرى".

وكان اليسار، وما زال، يرى في البنك وصندوق النقد الدوليين مخلبي قط للإدارة الأمريكية، للتسلل إلى دول العالم الثالث واستحواذ مواردها تحت غطاء تقديم المنح والقروض، وكثيرا ما تعالى هتاف "لن يحكمنا البنك الدولي" في المواكب الرافضة لخضوع الحكومات العربية لسطوة واشنطن، ثم وجدت الجماهير العربية في تنصل البنك الدولي من تعهداته بتمويل أهم مشروع تنموي في تاريخ مصر (سد أسوان العالي)، دليلا قاطعا على ان البنك أداة في يد الحكومة الأمريكية تستخدمها لتطويع أو تجويع الشعوب، حسب مقتضى الحال، وهذه حكاية خلدها المطرب الراحل عبد الحليم حافظ في أنشودة سارت على كل لسان:

بص الاستعمار / صعب حالنا عليه / ليه نرجع مجدنا ونعيده ليه؟/  يعمل إيه /......
راح على البنك اللى بيساعد ويدى / قاله: حاسب / قالنا: مالكمش عندى

وبتنصل البنك وجدها السوفييت فرصة لاحتضان مصر عبد الناصر، وتولوا تمويل السد العالي، وتعززت يسارية عبد الناصر بالمزيد من إجراءات التأميم وكانت أقسى صفعة من نصيب فرنسا وبريطانيا بتأميم قناة السويس:

كانت الصرخة القوية / من ميدان في اسكندرية / صرخة أطلقها جمال: احنا أممنا القنال / ضربة كانت من معلم / خلى الاستعمار يسلِّم (واقع الأمر هو ان الاستعمار لم يسلِّم، لأن فرنسا وبريطانيا اتخذتا تأميم قناة السويس ذريعة لشن عدوان على مصر بمشاركة إسرائيل في عام 1956، لم يكتب له النجاح بسبب انذار الاتحاد السوفييتي للأطراف المعتدية، وبعدها وضع ناصر كل بيضه في السلة السوفييتية).

في عام 2004 اصدر الأمريكي جون بيركنز كتابه "قاتل مأجور اقتصادي"، ثم أصدر قبل حين قصير من الزمان نسخة منقحة منه، يحكي فيهما كيف أنه ساهم في نشر ما أسماه هو خلايا سرطانية سريعة الانتشار والفتك في أوصال العديد من الدول، حتى تستوجب حالتها "العناية والرعاية" الأمريكية؛ ويروي بيركنز في كتابه هذا تفاصيل العديد من المهام التي اضطلع بها منذ ستينات القرن الماضي لإقناع قادة الدول النامية بتنفيذ مشاريع إنشائية وهندسية ضخمة، بتمويل من البنك الدولي وهيئة العون الأمريكية، على ان تتولى التنفيذ شركات أمريكية، ولا تستفيد الشعوب من تلك المشاريع لأن معظم الأموال الأمريكية تذهب الى جيوب النخب الحاكمة والمتنفذة، وبالتمويل والتنفيذ يتعزز نفوذ واشنطن في تلك الدول التي تعجز عن سداد الديون التي تتراكم عليها الفوائد حتى تفوق أصول القروض، فتصبح رهينة في يد وزارة الخارجية والمخابرات الأمريكية.

والقاتل المأجور الذي يتحدث عنه الكتاب هو المؤلف نفسه، الذي يقول إن أول وظيفة حصل عليها في شركة هندسية عملاقة، جاء بتزكية من وكالة الأمن الوطني الأمريكية، التي أجرت معه مقابلة شخصية وهو بعد طالب جامعي، لينتهي به الأمر موظفا لدى عدد من الشركات الكبرى ذوات الأذرع الطويلة والمتعددة في قارات أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، ومكلفا بغواية العديد من الحكومات لقبول التمويل لمشروعات يقترحها هو بإيعاز من رؤسائه، لضمان إغراق الدول في الديون فيصبح قادتها أراجوزات في يد الولايات المتحدة، ويقبلون برهن موارد بلادهم الطبيعية للشركات الأمريكية، ويقول بيركنز ان وزارة الخارجية الامريكية ضالعة في تحديد من يحصل وكيف يحصل على القروض التمويلية، ثم تتولى أمر ترويض وتطويع النخب الحاكمة المستفيدة من الأموال الأمريكية.

وما يريد بيركنز قوله هو أنه عمل كقاتل اقتصادي مأجور شأنه في ذلك شأن آلاف الأمريكيين، الذين يجوبون العالم مسلحين بمسميات وظيفية من شاكلة خبراء واستشاريين ،لقتل اقتصادات الدول الأخرى بمص دمائها ودماء شعوبها دون الحاجة الى إجراءات عسكرية تسفر عن سيلان الدماء الحمراء، ويورد مثالا على ذلك كيف ان كيرمت روزفلت حفيد الرئيس الأمريكي الأسبق تيدي روزفلت، والذي يعتبر أول قاتل اقتصادي مأجور في التاريخ الأمريكي، تولى أمر شراء الذمم في ايران في خمسينات القرن الماضي، ونجح في الإطاحة بحكومة محمد مصدق وتنصيب الشاه محمد رضا بهلوي، دون إراقة دماء على نحو مكشوف، وكانت جريرة مصدق أنه قام بتأميم نفط بلاده وتخليصه من قبضة الشركات الأمريكية والبريطانية.

يقول بيركنز إنه شرع في تأليف كتابه الذي يفضح فيه القتلة الاقتصاديين في عام 1980، ولما علمت أجهزة المخابرات بالأمر أغدقوا عليه الأموال لشراء صمته، فصمت زهاء العشر سنوات ثم استأنف الكتابة، وعندها تلقى التهديدات بـ "سوء المصير"، فانصرف عن الكتابة حينا من الدهر ثم استجمع شجاعته وأصدر الكتاب بعد زهاء ربع قرن من الشروع في تأليفه.

بعد سقوط حكومة عمر البشير في السودان في نيسان/ أبريل 2019، وتشكيل حكومة برئاسة عبد الله حمدوك، تلقى السودان منحا ووعودا بالقروض التمويلية من البنك الدولي، فثارت ثائرة اليسار باعتبار أن وصفة ذلك البنك مجربة: "لا دعم حكوميا لأي سلعة أو خدمة"، واستعاد السودانيون ذكرى آخر مرة قدم فيها البنك تمويلا لمشروع سوداني، وهو السكك الحديدية، التي قرر البنك في ثمانينيات القرن الماضي تأهيلها بـ 80 مليون دولار، ودرس السودان العرضـ ورفضه لأن 64 مليون دولار من ذلك القرض كانت مخصصة كأجور وأتعاب لـ "الخبراء" الأمريكان الذين كانوا سيتولون تنفيذ عملية التأهيل.