سرنا يوم السبت (15 تشرين الأول/ أكتوبر) يوم ذكرى الجلاء ضد الانقلاب، وقد
قادنا شعور بالواجب أكثر مما حركنا شعورنا بالأمل في
زعزعة الانقلاب. نستشعر في
سياق الحركة حاجزا فاصلا بين مطالب الحرية والديمقراطية ومطالب الخبز والمواد الحيوية،
أي بين مطالب النخب ومطالب العوام. لقد حفر الانقلاب أخدودا عميقا بين نخبة تعشق
الحرية ولا تخشى فقدان خبزها، وبين عوام الناس الذين يخشون الجوع ولا يهتمون
للحرية؛ نستدرك بأنه كان الأخدود قديما وقد عراه الانقلاب، وقد كان رُدم بحديث الدستور
قبل إعادة توزيع الثروة. لكننا لن نكتب أن الانقلاب كان حركة تصحيح لمسار خاطئ لقد
كان خطأ أكبر من الأخطاء التي سبقته، وقد أحدث بالبلد أضرارا لم تحدثها السنوات
العشر المتهمة بالضلال.
هل يقدر معارضو الانقلاب على إعادة رسم خريطة تحركات تجمع مطلب الحرية إلى
مطالب الخبز فتجمع النخبة والعوام في سياق نضالي؟.. لن نبث تفاؤلا مزيفا.
جبهة الخلاص عنوان نضال نخبوي
ولدت في مكاتب مكيفة بعيدا عن هموم الناس التي كانت تنكشف وتتعمق بفعل
الانقلاب. الشخصية القيادية الأولى تختصر النخبة
التونسية فهي نموذجها الدال،
السيد نجيب الشابي بدأ النضال السياسي حتى قبل أن تتشكل طبقة عمالية في تونس ولم
يخرج من مقولاته الاشتراكية ثم الاجتماعية حتى الساعة، لكننا اكتشفنا أنه لا يعرف
البلد ولا يتكلم لغة الناس، لكنه يطوف حول دوره في مشهد بلا أدوار، مشهد لم يعد
يمنح بطولة لأحد.
فكرة ردم الهوة الاجتماعية التي كانت في عمق النصوص المؤسسة لـ"مواطنون ضد الانقلاب" اختفت ليعود خطاب الجبهة إلى قضايا الحريات كقضايا مركزية، وهي قضايا حق لا يراد بها باطل لكنها لا تحرك الشارع العميق ضد "المنظومة العميقة"
لقد عرض السيد نجيب نفسه على الناخبين قبل الانقلاب لكنه رُفض رفضا مخجلا
لكل سياسي، لكن السيد نجيب استعاد الأمل ليسترق من الشباب الذين أعلنوا أنفسهم "مواطنون
ضد الانقلاب" فكرتهم، وامتص رحيقها في جبهة تسير تحت ظله الطويل لكن في أرض
بلا مجد ولا أفق. وفي تحرك الخامس عشر من تشرين الأول/ أكتوبر اختفت كل وجوه
المواطنين ضد الانقلاب، وهيمن آخرون ممن اعتادوا ركوب الموجة عند توهم الغنائم.
فكرة ردم الهوة الاجتماعية التي كانت في عمق النصوص المؤسسة لـ"مواطنون
ضد الانقلاب" اختفت ليعود خطاب الجبهة إلى قضايا الحريات كقضايا مركزية، وهي
قضايا حق لا يراد بها باطل لكنها لا تحرك الشارع العميق ضد "المنظومة العميقة".
هنا لا يمكننا أن نتحدث عن تحركات واعية ببقية مراحل الطريق، فالقائد غير مشغول
بحالة الفقراء إلا في المجاملات الخطابية المسجلة. وهذه الغربة عن هموم الناس تحت
الانقلاب وقبل الانقلاب يعيشها شريك الشابي أيضا، السيد راشد الغنوشي الذي لم يجد
نقطة استئناف ليخرج بوجه جديد للناس.
النهضة جمهور للإيجار
عنوان يوجع أصدقاء، لكني سأكتب تحته ما أراه منذ انطلاق التحركات ضد
الانقلاب. وضعت قيادة النهضة أنصارها في الشارع ضد الانقلاب، لكنها ارتبكت فبحثت
عن غطاء سياسي لكي تخفف من الوصم الذي طاردها دوما. النهضة ضد الدولة كأن الانقلاب
هو الدولة فعلا (أو كأن نظام ابن علي عام 1990 كان الدولة فعلا). هذا الخوف جعل
الحزب قيادة وجمهورا يقف خلف من يزعم المعارضة وهو يتوهم أنهم طاقية إخفاء جيدة، وهذا
خطأ في التقدير جعل الجمهور بمثابة جمهور الشعب الحزبية البورقيبية عام 1960،
جمهور بلا قرار ولا سلطة على أي تحرك، وإنما مهمته فقط ملء الشارع والاستماع إلى
الخطباء ثم العودة إلى دياره البعيدة.
ما من جمهور يستحق أن يقود معركة اجتماعية ضد الانقلاب وضد الدولة نفسها في كل مراحلها حتى عشرية الديمقراطية مثل جمهور النهضة؛ لأنه لا جمهور أفقر من جمهور النهضة. لقد عاشوا ربع قرن خارج الدولة بين هارب وسجين ومطارد فلما حدثت الثورة تعرى فقرهم، لكن عوض أن تقود بهم قيادتهم معركة اجتماعية وقعت تحت تأثير خطابات اليسار النخبوي
إن مشهد عجائز النهضة وشيوخها برؤوسهم البيضاء والذين مر أغلبهم من سجون ابن
علي والذين يأتي كثير منهم على عكاز ليؤثثوا شارع نجيب الشابي يرمم زعامته الكاذبة؛
لا يثير الشفقة، بل يثير غضبا كبيرا ضد السيد نجيب الذي قضي أكثر من سبعين عاما في
السياسة ولم يؤلف جمهورا يتبعه وقبل بمهمة الستارة المثقوبة، وعلى الغنوشي نفسه الذي
لا يبتكر لجمهوره طريقا لا تذله خلف زعامات تحسبه بالرأس كأنه قطيع أغنام.
سنذهب أبعد من ذلك، ما من جمهور يستحق أن يقود معركة اجتماعية ضد الانقلاب
وضد الدولة نفسها في كل مراحلها حتى عشرية الديمقراطية مثل جمهور النهضة؛ لأنه لا
جمهور أفقر من جمهور النهضة. لقد عاشوا ربع قرن خارج الدولة بين هارب وسجين ومطارد
فلما حدثت الثورة تعرى فقرهم، لكن عوض أن تقود بهم قيادتهم معركة اجتماعية وقعت
تحت تأثير خطابات اليسار النخبوي، فانخرطت في معركة الدستور وجرت جمهورا مفقرا
خلفها لتجد نفسها في ماكينة الحكم دون أفكار ودون خطة وبجمهور مفقر ومطارد من
النقابة، حتى أن الذين استفادوا من العفو العام طوردوا في عودتهم من قبل نقابات
اليسار. ولا يختلف وضعهم الآن وراء نجيب الشابي وعصابته الأنيقة عن وضعهم خلف مطلب
الدستور وهم جياع بل حفاة وعراة.
هل هي أخطاء تقدير من القيادة أم هو إخلاص الجمهور الطيب؟ جزء كبير من هذا
الجمهور سيجد في هذا المقال دسيسة بينه وبين قيادته، ولن يرى كثيرا من قيادته غير
مشغولة بفقره، وهي لا تختلف في أناقتها عن أناقة السيد نجيب، وهذا الجمهور للإيجار.
تحول كل مرة بين مواطنين ضد الانقلاب بخطتهم الاجتماعية وبين جمهور النهضة المفقر. إنها الخطة التي تحفظ للنخب مساحة فعلها النخبوي بقطع النظر عن حاجة الشارع إلى قيادة واعية بمشكله الاجتماعي الحقيقي
خطة جبهة الإخلاص لن تسقط الانقلاب
كما لم يسقط السيد نجيب الشابي شعرة واحدة من رأس ابن علي في ربع قرن من
المعارضة، لن يوجع الانقلاب قيد شعرة. مجال تخصصه ليس القضية الاجتماعية التي تهم
الفقراء وقود المعارك الحقيقية، فمعارك الحرية الأنيقة والتوريط القانوني للسلطة
في تجاوزات حقوق الإنسان لا تزعج الانقلاب كما لم تزعج ابن علي (المنظومة واحدة في
الحقيقة). إن السيد نجيب يقوم بالتعاون مع السيد الغنوشي بتحييد جمهور النهضة
المفقر وكل جمهور فقير قد ينضم إليه بعيدا عن معارك النخب، كي لا يقود من مواقعه
الطرفية ثورة اجتماعية حقيقية بلا شعارات دينية ولا شعارات سياسية تتغير مرحليا.
فالثورة الطرفية لن تستهدف الانقلاب وحده، بل كل القيادات السياسة النخبوية
المشغولة بأناقتها قبل المظاهرة.
خطة تحرك جبهة الخلاص الجارية كانت مناورة ذكية (يمكن وصفها بالخبيثة) لمنع
احتمال استعادة الثورة للشارع بجمهور يعرف ما يريد، وهي تحول كل مرة بين مواطنين
ضد الانقلاب بخطتهم الاجتماعية وبين جمهور النهضة المفقر. إنها الخطة التي تحفظ
للنخب مساحة فعلها النخبوي بقطع النظر عن حاجة الشارع إلى قيادة واعية بمشكله
الاجتماعي الحقيقي. (كان هذا هو مشكل النخب التي لم تنجز الثورة لكنها أفلحت في
ركوبها، ومسار معارضة الانقلاب يجري الآن بنفس الطريقة وبنفس الشخصيات تقريبا وفي
عزلة تامة وربما في جهل تام بحاجة الفئات الشعبية أو العوام بمن فيهم جمهور
النهضة). ونظن محاولات الاستدراك (بركوب احتجاجات موضعية مثل احتجاجات أهالي جرجيس
في الجنوب على ضحايا الهجرة السرية) ستكون مفضوحة ولن تجر إليها خلقا كثير.
نختم ولن ينتهي الكلام.. الوضع يقتضي البحث عن نقطة بداية مختلفة وبوجوه
مختلفة، لا تنافق الشارع ولا تستغل حماسه وغضبه لإعادة تدوير نفسها، متجاهلة أنها
صارت من النفايات السياسية تجر الناس على طرق بلا مخارج.