صرح رئيس نظام
الثالث من تموز/ يوليو مؤخرا، أن "بلاده لا تواجه تحديات كبيرة مثل دول أخرى،
بسبب نجاحها في تحقيق
الأمن والاستقرار"، مشيداً بما وصفها بـ"جهود قوات
الجيش والشرطة في الحفاظ على الدولة، ونجاحها في مواجهة الإرهاب، ما يمنح الأمل في
غد أفضل لنحو 104 ملايين شخص وأكثر يعيشون على أرض
مصر".. وقد ذكرني ذلك
بتصريحات سابقة له منذ ما يقرب من ثلاث سنوات حيث قال: "أقسم بالله أنا قعدت
50 سنة اتعلم يعنى إيه دولة ولسه بتعلم"، وأضاف: "إن تعلم معنى كلمة
الدولة سيعطينا الاستقرار".
هكذا يريد
السيسي
أن يغتصب مفهوم الدولة أكثر من جملة ما اغتصبه، في فترة حكم المخلوع مبارك كنا
نقول إن نشأة الدولة في بلداننا مشوهة، وأنها دولة حابسة لا حارسة، وأنها الدولة
المركزية التي تحرك عناصر سيطرة تؤمم فيها مساحات الفاعلية للمجتمع وما يمكن
تسميتها فعاليات الأمة وأطلقنا عليها "دولة كأن". الدولة في عهد المنقلب
السيسي تحولت إلى "دولة الضد"، قامت
فيها المؤسسات بضد جوهر الوظائف المفروض أن تقوم بها وعليها، وتحولت كذلك إلى "الدولة
المعسكر" على طريق "الدولة السجن"، تلك التي يخضع فيها الجميع
للمؤسسات الأمنية، يأتمرون بأمرها وينفذون أوامرها في السياسة الداخلية والخارجية
وتهيمن على كل شئونها، فكلمة الأجهزة الأمنية هي الحاكمة والمهيمنة.
الدولة في عهد المنقلب السيسي تحولت إلى "دولة الضد"، قامت فيها المؤسسات بضد جوهر الوظائف المفروض أن تقوم بها وعليها، وتحولت كذلك إلى "الدولة المعسكر" على طريق "الدولة السجن"، تلك التي يخضع فيها الجميع للمؤسسات الأمنية، يأتمرون بأمرها وينفذون أوامرها في السياسة الداخلية والخارجية وتهيمن على كل شئونها
لم يعد يرى
السيسي إلا الأمن كوجه أساسي لهذه الدولة طبقا لمفهومه للأمن ومركزية النظرة
الأمنية في رؤيته لوظائف الدولة. كل وظائف الدولة مسكونة
بالهاجس الأمني، وبعد أن
كان مفهوم السيادة يعني أن سلطة الدولة هي السلطة العليا التي لا يوجد أعلى منها
أو مواز لها وهي تسمو فوق الجميع وتفرض ذاتها، باتت هذه السيادة مرادفة فقط للأجهزة
الأمنية وسطوتها. وبات هاجس السيسي الأمني هو المهيمن على الدولة والمتحكم فيها،
بدءا من القيم والمبادئ والعقيدة والسياسة والممارسة والإجراءات والقواعد وصولا
إلى الوظيفة والدور، ومن ثم لا نتعسف عندما نؤكد أن هذا النظام يفتقد لرؤية الأمن
في منظوره الشامل، أي الأمن الإنساني ويحصر مفهوم الأمن في الأمن السلطوي (أمن
السلطة) وتجاوزا بمفهومه هو للدولة "أمن الدولة واستقرارها"؛ وهو بذلك
يتراجع خطوة بل خطوات للخلف عن هؤلاء الذين يحصرون المفهوم الأمني في المجال
العسكري، مثلما ترى المدرسة الواقعية في العلاقات الدولية في رؤيتها للأمن.
ومن المهم
التأكيد على أن النظر إلى مفهوم الأمن الإنساني يجب أن يكون باعتباره من المفاهيم
المنظومة، بنية ومستويات وعناصر وعلاقات، وهو كذلك من المفاهيم المركبة بين مفهوم
الأمن ومفهوم الإنساني. هذا التركيب إنما يشير إلى الشمول وإلى كلية وتعدد الأبعاد
وإلى تحديد الغاية
الإنسانية التي ترتبط به وإلى جوهر حقيقة الإنسانية فيه
وتكريمها، بما يؤكد أنسنة مفهوم الأمن وليس عسكرته أو بوليسيته. هذا التركيب إنما
يعكس ارتباطا برؤية العالم ومنظومة القيم، وكذلك النموذج المعرفي الذي يكرم
الإنسان والمواطن.
يركز مفهوم الأمن
الإنساني على الإنسان الفرد وليس الدولة كوحدة تحليل أساسية؛ فأي سياسة أمنية يجب
أن يكون الهدف الأساسي منها هو تحقيق أمن الفرد بجانب أمن الدولة (الأمن القومي)؛
إذ قد تكون الدولة آمنة في وقت يتآكل فيه أمن مواطنيها. بل إنه في بعض الأحيان
تكون الدولة مصدرا من مصادر تهديد أمن مواطنيها، كما هو الحال في عهد نظام الثالث
من تموز/ يوليو الانقلابي ومن ثم يجب عدم الفصل بينهما. ولا يعد ذلك تهوينا من
مفهوم الأمن القومي، فليس الحفاظ على أمن الفرد الانسان المواطن داخل الدولة بنقيض
لمسألة الأمن القومي أو بالخصم منه، بل هو من المقدمات لجعل الأمن القومي للدولة
أكثر رسوخا في نفوس المواطنين وعلاقاتهم بما يضمن فاعليته.
ومن هنا وجب
علينا ألا نرى أن الأمر في مجال الاختيار بين هذا وذاك، ولكن مفهوم الأمن الإنساني
يتضمن أمن الدوائر المختلفة بما فيها دائرة الدولة في شأن علاقاتها مع دول أخرى
وكيانات الدوائر المختلفة.
في إطار تأكيدنا على مفهوم الأمن الإنساني المناقض لمفهوم الأمن في رؤية السيسي المستبدة، نتأمل مشهد إعدام الكتاكيت في مصر نتيجة نقص الاعتمادات المالية لشراء الأعلاف التي تشكل غذاء أساسيا لها، ذلك المشهد المرعب الذي لا يمكن تفسيره أو تبريره إلا أنه يقع على عاتق السلطة الانقلابية التي تحدث في عهدها تلك المشاهد ومثيلاتها وتخلق حالة من الاعتياد عليها من كثرة تكرارها، وهي تعكس استخفافا بالحياة والأحياء
هكذا نجد أن مفهوم
الأمن الإنساني يرتكز بالأساس على تكريم البشرية وكرامة الإنسانية، وكذلك تلبية
احتياجات الإنسان/ المواطن المعنوية بجانب احتياجاته المادية والأساسية، والاقتراب
الرئيسي هنا هو أن الأمن يمكن تحقيقه من خلال اتباع سياسات تنموية رشيدة، وأن
التهديد العسكري ليس الخطر الوحيد، لكن يمكن أن يأخذ التهديد شكل الحرمان
الاقتصادي، وانتقاص المساواة المقبولة في الحياة أو نقضها، وعدم وجود ضمانات كافية
لحقوق الإنسان الأساسية، فتحقيق الأمن الإنساني يتطلب تحقيق التنمية الاقتصادية
المستدامة، وصون حقوق الإنسان وحرياته، والحكم الرشيد، والمساواة الاجتماعية،
وسيادة القانون.
على هامش ذلك وفي
إطار تأكيدنا على مفهوم الأمن الإنساني المناقض لمفهوم الأمن في رؤية السيسي
المستبدة، نتأمل مشهد
إعدام الكتاكيت في مصر نتيجة نقص الاعتمادات المالية لشراء
الأعلاف التي تشكل غذاء أساسيا لها، ذلك المشهد المرعب الذي لا يمكن تفسيره أو
تبريره إلا أنه يقع على عاتق السلطة الانقلابية التي تحدث في عهدها تلك المشاهد ومثيلاتها
وتخلق حالة من الاعتياد عليها من كثرة تكرارها، وهي تعكس استخفافا بالحياة
والأحياء، وتصنع صورة جديدة لمعالجة مثل هذه الأزمات بالتخلص من الكائن الحي مهما
كان طيرا أو إنسانا، في سبيل استمرار السلطة وتنفيذ مخططاتها غير المدروسة وتغطية
فشلها حتى في المتطلبات والضرورات الأساسية، وكأن هذا التصرف النابع من تلك الرؤية
ليس إلا تعبيرا عن شخص مأزوم لا يرى في الكائن الحي إلا عبئا يجب التخلص منه. وهو
بذلك يرى في نفسه ذلك الخبير أو "أبو العريف" وطبيب الفلاسفة الذي يجب
أن يستشار، ويجب أن يعود الناس إليه، يلتمسون عنده الحكمة، وهو في حقيقة أمره يستخف
بكل شيء حي، لا يرى بأسا في قتله أو إزهاق روحه، وهو ما جعله يحرض هؤلاء الذين
يعملون في أجهزته الأمنية على القتل من غير حساب وإزهاق الأرواح من دون عقاب.
مصدر الالتباس في حقيقة الأمر بالنسبة لمفهومي الأمن أو الاستقرار حينما يتخذهما المستبد غطاء لاستبداده وفشله المتكرر في نهوض النظام لتوفير الحاجات الأساسية لمواطنيه، ذلك ما نؤكده بأن الاستبداد يكون مسكونا بهواجسه الأمنية ونظرته الضيقة
انتشاء السيسي
بالنجاح الأمني لا يقل عن احتفائه
بالإنجازات الزائفة الأخرى التي لا تستهدف
المواطن ولا يعرف عائدا مباشرا لها، ولكنه يحتفي بأنه قد أنجز أكبر مسجد وأكبر
كنيسة وأكبر حديقة وأكبر برج وأطول طريق وأعرض كبرى.. الخ، دون أي اهتمام بأن يكون
لذلك أي مسوغ أو مردود على الموطن، وجل اهتمامه وتركيزه الأساسي أن تنسب له كإنجازات
يتم الاحتفاء بها في وسائل الإعلام، ولو على حساب موارد البلاد واحتياجات المواطن
الذي يعيش أزمات متتالية في معاشه وتحصيل قوت يومه، وصولا إلى أن يجعله في حال ضنك
وضيق ويشعره بأنه عاجز عن تدبير شأن أهله، وهو ما يصيب البعض باليأس والإحباط، وما
شاهدناه من أحداث متكررة في انتحار مثل هؤلاء لأنهم لا يستطيعون أن يحققوا مطالب
أسرهم أو ضروراتها الأساسية.
مصدر الالتباس في
حقيقة الأمر بالنسبة لمفهومي الأمن أو الاستقرار حينما يتخذهما المستبد غطاء
لاستبداده وفشله المتكرر في نهوض النظام لتوفير الحاجات الأساسية لمواطنيه، ذلك ما
نؤكده بأن
الاستبداد يكون مسكونا بهواجسه الأمنية ونظرته الضيقة، وكذلك فإن الأمن
في تلك الرؤية يكون محفوفا بسلوكيات وسياسات الاستبداد القميئة، فيستخف بحياة
الناس، ويستهين بضروراتهم، وهو في هذا المقام يعبر عن مقايضة أمن النظام بكل ما
يتعلق بكرامة الإنسان وحريته، وحقوقه الإنسانية الأساسية والتأسيسية.. الأمن
المستبد في النهاية يأكل كرامة الإنسان من البداية إلى النهاية.
twitter.com/Saif_abdelfatah