لا
يسعني في هذا المقال، إلا أن أطلق صرخة مدوية تعلن رفضي القاطع بلا قيد أو شرط كل
أساليب منع حرية التعبير، بكافة أشكاله وطرقه.. وتلك هي قناعاتي الشخصية التي لم
ولن تتبدل مع مرور الزمن، فالإيمان بالحرية كمعطى أساسي يمنح الوجود الإنساني
ماهيته ووجوده، وأي سبب يمنع هذه القيمة الغالية والتي نحيا بها ومن أجلها في أي
مجتمع إنساني، تعجل بانهياره.
وتحضرنا
هنا كثير من الأمثلة التي منعت دونما قيد أو شرط العلوم الإنسانية، بحجة الحفاظ
على سلامة المجتمعات من الانحراف والانحدار إلى آخر هذه الكليشيهات التي يطلقها من
يتطلع إلى السيطرة التامة على وعي الناس، بحجة الحفاظ على القيم والمبادئ وما إلى
ذلك.
رأينا
هذا في الكثير من الأنظمة المستبدة التي انتهت بنهايات كارثية، كالاتحاد السوفييتي
وإيطاليا موسوليني على سبيل المثال لا الحصر.
ولعلي
أذكر هذا عندما نما إلى علمي تصريحات نقيب الموسيقيين
المصري الجديد، والذي أكن له
الاحترام والحب على المستوى الشخصي، ولكن هالني تصريحه في إحدى المناسبات الاحتفالية
ببيته، وكان في الأغلب زواج ابنته أو خطوبتها.
وبالطبع
كانت الأجواء احتفالية، فذهب أحدهم وأدار
موسيقى لما يطلق عليهم مغني المهرجانات،
وهنا تغيرت ملامح النقيب، وذهب فورا إلى زوجته غاضبا غضبا شديدا، وصرخ وقال لا
أريد هذه الموسيقى في منزلي، وتم وقف الموسيقى في الحال بجو يملؤه التوتر.
وأنا
أتفهم وجهة نظر النقيب في عدم موافقته على هذا النوع من الموسيقى، ولكني لا أجد أي
مبرر أغضبه بحجب هذه الموسيقى، بدعوى أنها ليست فنا، وأنه لا بد أن يكون حارس
الفضيلة والفن، بوصفه نقيب المهن الموسيقية، ولكن أعود لأذكره مع كامل احترامي
لشخصه الكريم، أن هذا ليس دور النقابة، فدور النقابة ليس المنح ولا المنع، فدور
النقابات بشكل عام، والذي تبخر معناه واختلط للأسف على الجميع، هو دور خدمي معني
بمساعدة الأعضاء على العمل، وتأمين حياة كريمة بقدر المستطاع، والوقوف بجانبهم في
حقوق الأداء العلني والدفاع عن حقوقهم أمام السرقة والدهماء من دخلاء
الفن، فهو
دور خدمي بامتياز لا دخل للنقابة فيه بالمنع أو التدخل بالمنع، بدعوى حماية الذوق
العام، فهذا ليس أنت المنوط به، فحماية الذوق العام يكفلها الوعي الجمعي للناس، وهذا
وحده هو الذي يقرر أو يرفض ما هو الأفضل بالنسبة إليه.
وهذا
ما يحدث في العالم أجمع، فبدلا من المنع بأي حجة، نعمل على زيادة الأعمال الفنية التي
تقابل مع ما يسمى بموسيقى المهرجانات، ولكن أن نكون أوصياء على الناس، ونحدد لهم
ما يسمعون ولا يسمعون أحد، فهذا يقمع حرية الاختيار عند الناس.
وقديما
قالوا لنا إن أفلام الآكشن تدعو إلى العنف وإلى إيجاد جيل من القتلة والمرضى،
ولكننا نحن كجيل كنا من متابعي هذه الأفلام ولم نتحول إلى قتلة.
وقديما
قالوا إن مسرحية مدرسة المشاغبين افسدت أجيال، وجعلت الصغير يتطاول على الكبير،
ولكننا كأجيال لم نتطاول أبدا على الكبير
وقديما
أدانوا أحمد عدوية ووصموه ومنعوا أغانيه من الإذاعة والتلفزيون، بدعوى أنها تفسد الرأي
العام والأخلاق، ولكن نجح أحمد عدوية ونجح أيضا الذوق المصري ولم يفسد.. ببساطة لأن
الناس ليسوا بفاقدي الوعي، بل هم يدركون بفطرتهم العقد غير المعلن بين المؤدي
والمتفرج، أو بين المنتج الفني والجمهور، وأن هذا العقد للمتعة الفنية، لا التقليد
أو التأثر به إلى حد المرض.
وبالطبع
هناك استثناءات تشذ عن هذه القاعدة، وهذا وارد، ولكنها ليست مبررا لفرض وصايتنا على
حرية الناس. فالحرية حق مكفول للجميع.. أليس كذلك؟!