هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
ليست هذه المرة الأولى التي أكتب فيها عن "إبراهيم
منير"، القائم بأعمال المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين، فقد كتبت دفاعاً
عنه عندما أدانته السلطة في مصر بالإرهاب في عهد مبارك، ضمن عدد من قيادات الجماعة.
أيعقل أن يوجه مثل هذا الاتهام لرجل مثله؟!
كنت قد التقيت بالفقيد الكبير في استوديو قناة المستقلة،
لعشر ليال كاملة، كانت السهرة في كل ليلة تمتد لثلاث ساعات، وذلك في نهاية كانون
الأول/ ديسمبر 2008، وبداية كانون الثاني/ يناير 2009. وكانت فكرة الحلقات تبدو لي
خيالية في هذا الوقت، إذ كانت تدور حول البديل للأنظمة الحالية، وكانت هذه الأنظمة
تبدو وقد صارت البلاد في قبضتها، فأي حديث عن بديل والحال كذلك؟!
دُعيت للبرنامج لتمثيل الليبرالية المصرية، وناقشني
القوم في المستقلة في من يمكن أن يوجهوا له الدعوة لتمثيل التيار الناصري، فلما
استقر الأمر على "حسام عيسى"، أحد الرموز الناصرية البارزة، قال إنه
مريض ويحتاج دائماً إلى زوجته أن تكون بجانبه لرعايته. ودافعت عن المبرر الذي
ساقه، وقلت إن صوته كان وهناً على وهن، وقد نفقده هناك، لكن مع تقدير إرادة
المستقلة لهذا الدفع، إلا أنهم اعتذروا عن ذلك لأنهم لا يستطيعون تحمل نفقات إضافية.
ولم يمت "عيسى" كما توقعت بل عاش ولا يزال، إلى أن أصبح وزيراً في سلطة
الانقلاب العسكري، يقبل على نفسه القيام بالأعمال القذرة للسلطة، مثل دفاعه عن
قرار وضع جماعة الإخوان على قوائم الإرهاب، مع أنه ليس الوزير المختص بذلك، وكان
الثمن أن خرج بعدها من الوزارة مباشرة، ولم يمكنوه وأمثاله من الذين خانوا الثورة،
ولو بعضوية في البرلمان بالتعيين، فكانوا كالمنبّت الذي لا أرضاً قطع ولا ظهراً
أبقى!
كان لا بد من البحث عن بديل، وكان هذا البديل هو الأمين
العام للحزب للناصري، وأنهينا إجراءات السفر سريعاً وسافرنا معاً، وأقمنا بفندق
"ويميلي"، وكان رجل الأعمال رامي لكح يقول لي إنك في "بنها"؛
بالنسبة لمن يعيشون في القاهرة!
اللقاء الأول:
في الأستوديو التقيت لأول مرة بـ"إبراهيم
منير" ممثلاً عن جماعة الإخوان المسلمين، وكان على الهاتف ممثلون لقوى أخرى
مثل البعثيين، والوهابيين، وغيرهم، وكانت الاتصالات الهاتفية تعطي للنقاش حرارة إضافية،
وعند أول مداخلة من عالم سعودي، أيقنت أن علي أن أحارب على جبهات ثلاث، فلن يكون
الاشتباك مع الناصريين والإخوان المسلمين، ولكن كان علي أيضاً الاشتباك مع من أخذ
الحوار في مسار آخر!
فالعالم السعودي يرى أن كل ما يحيط بالمصريين من معيشة
ضنكا مرده إلى وجود الأضرحة وتوسلهم بالأولياء، واشتبكت معه، كما اشتبك معه الأمين
العام للحزب الناصري. وبين الحكم الناصري والمملكة ثأر قديم، فما بالنا والرجل
يأخذنا إلى منطقة خارج مدار النقاش السياسي!
كنت أنا وممثل الناصريين نتحد في مواجهة ممثل الوهابية
وضد الإخوان، ثم نختلف بسبب هجومي على عبد الناصر واستبداده، وكانت المفاجأة في
هذا الرجل الذي يجلس عن يميني وعلى يسار الأمين العام للحزب الناصري، أنه لا
يستجيب لأي اشتباك، فهو إنسان أكثر من مهذب، وحكى عن تجربة اعتقاله في عهد عبد
الناصر، وكيف أنه رغم ما حدث لا يحمل له في قلبه ضغينة، فأحرجنا بأدبه، للدقة
أحرجني وحدي، فقد ظل ممثل الناصريين في أزمة لا تنتهي مع الإخوان، وبعد أيام عرفت
أين تكمن المشكلة، فقد ظل رهينا لظروف اليوم الأول!
جولة في لندن:
فقد كان يلتقي في اليوم التالي بأحد الناصريين في مدينة
الضباب، وهو شخصية ناصرية غادرت مصر بعد أزمة مراكز القوى مع الرئيس السادات، وكان
الرجل حريصاً على أن يلتقي بي كل يوم، ولم يمنعه موقفي المعادي لفترة حكم عبد
الناصر من أن يمد جسور الصلة، ولم يحدث أن ناقش معي شيئاً مما أقوله في الحلقات
السابقة، فقد بدا ما يشغله هو الإخوان، وشعرت أنه يبدي ردوداً على ما أثير في
الحلقة الماضية ضد عبد الناصر، ربما لم يتمكن ممثل حزبهم من الرد الصائب عليها،
فيأتي في المساء بالأستوديو محملاً بهذه الردود مصراً على طرحها، لتكون موضوعاً للحلقة
الجديدة، حتى تنبهت لذلك وقلت لا يجوز أن نظل أسرى في كل ليلة لموضوع واحد فلا
يتحرك الحوار خطوة للأمام!
ومع حدة الرجل وتجاوزه أحياناً، فإن إبراهيم منير ظل كما
هو لا يحتد على أحد، ولا يتجاوز في حق أحد، وإذ تبرم صديقي الناصري من أنه لم
يشاهد لندن، وأننا محبوسون في فندقنا، ولم يكن هذا دقيقاً على الأقل بالنسبة لي،
حتى بلغ ما كتبته عن هذه الرحلة (بعيداً عن السياسة) كتاباً بحثت له عن ناشر في
مرحلة ما قبل الثورة، ولم أوفق ربما لأنني لم أكن جاداً في البحث! هنا اعتذر منير
بأدبه الذي عرفناه به لأن هذا تقصير منه. وإذ كان في كل ليلة يصحبه أحد الأشخاص
إلى الأستوديو، ويظل في القناة حتى يعود به إلى بيته، فإن ابن هذا المرافق اليومي
للرجل كان عندنا في صباح اليوم التالي، ليصحبنا في رحلة لمعالم لندن، ويعزمنا على
الغداء في أحد المطاعم الفخمة بها، وفي نهاية الحلقات كان يقدم لكل منا ربطة عنق
غالية الثمن هدية!
ولا أنكر أنه أسرني بأدبه، وإن لم يغير أدبه من الطبيعة
الهجومية لصديقنا الناصري، ولم تتغير المعاملة الودودة للرجل معه، فقد كان يؤمن
بأنه لا يجوز أن نكون أسرى الماضي، وأن التحديات التي تواجه أوطاننا تحتاج إلى كل
الجهود، وشحذ كل الهمم. ولا أنكر أنني تعاطفت معه لسجنه، فتجربة السجون في عهد عبد
الناصر شكلت وعيي السياسي، وقد أسفت عندما أخبرنا أنه خارج مصر منذ خروجه من السجن
في بداية عهد السادات، وأنه لا يستطيع العودة الآن، ولم أكن وقتئذ أستطيع استيعاب
أن يجبر الإنسان على عدم العودة لبلده!
وفي اللحظة التي كان فيها مبارك يعلن التنحي، كان هو في
خاطري، فها هو الآن يمكنه العودة، وإن كانت التغييرات التي تحدث للمدن، وآجال
الناس القصيرة ستجعل العائد في سنّه يشعر أن غربته في وطنه، لكن المهم ألا يكون
هناك منع من العودة لأي مصري، فيعيش في الخارج كما يريد ويعود إلى بلده وقتما يريد
أو لا يعود!
صدمة الفتى:
ثم إن هذا الفتى الذي اصطحبنا في الجولة سالفة الذكر،
والذي كان يخاطب كلينا بـ"عمو"، وُلد في بريطانيا، ومع ذلك سألني إن كان
يمكن أن يأتي اليوم الذي يستطيع أن يسافر لمصر ويعيش فيها، وأنه دائم طرح السؤال
على والده، لكن "عمو" الآخر كان قاسياً في رده ويقول له "انسى إن الإخوان
يحكموا مصر"، لا تصدق والدك إن قال لك ذلك، إنه يضحك عليك!
وأسفت لهذه القسوة، وبلغ بي التأثر حد أنني لم أجد
كلاماً أقوله، لكن الثورة قامت بعدها، وعاد إبراهيم منير لمصر لفترة قصيرة، ولم
نلتق هناك لكننا التقينا في المهجر؛ في إسطنبول والدوحة، وجدته نفس الإنسان الذي
التقيته في أستوديو "المستقلة"، يدهشنا بأخلاقه الرفيعة، ومع سخونة
النقاش، لم يكن يحدث أن احتد، أو ساق وجهة نظره بغضب، وكانت الأصوات ترتفع، والجو
في شتاء لندن يلتهب، لكنه أبداً ظل كما هو، يدفع بالتي هي أحسن، فما كل هذا الرقي؟!
فلما كانت الحلقة الأخيرة من نقاشات لندن نسي الجميع
خلافاتهم وتوحدنا ضد العدو المشترك، فقد كان العدوان الإسرائيلي على غزة، لتكون
قضية فلسطين هي القادرة دائما على جمع الخصوم، إنها قضيتنا المركزية.
اللافت أنني في يوم عودتنا للقاهرة، قرأت خبراً عن
مظاهرات للقوى الوطنية ضد العدوان الإسرائيلي على "سلالم" نقابة
الصحفيين، في اليوم التالي، فشددت الرحال إلى هناك، لأجد حشداً كبيراً من الإخوان،
كان يهتف أحدهم من ورقة فيكون الرد عليه مزلزلاً، ويهتف غيرهم فيرد عليه عشرة
أنفار، وسألت عن المسؤول عن الحشد، وأشاروا إلى أحدهم؛ علمت بعد ذلك أنه نائب
الإخوان عن دائرة شبرا (فك الله أسره)، فسألته: لماذا يحدث هذا؟ لماذا لا يكون
حشداً قاصراً عليكم ما دام الفرز قائماً؟ وقال في حدة: إنهم لن يهتفوا خلف أحد ليس
منهم مهما قلت، ثم كان الرد المدهش هو مجرد إشارة من إصبعه، فتعجبت لهذا التبخر
السريع الذي حدث، وبقينا وحدنا وشهدت الشماتة المسكونة في نظرات رجال الأمن الذين
يقفون في الشارع، فكتبت مقالي "أمن الإخوان المركزي"!
في هذه الرحلة أخبرني "إبراهيم منير" أن أحد
الإخوان من جيله يتابعنا في كل ليلة، وأنه يعيش في سويسرا ويستأذنني في أن يعطيه رقم
هاتف الفندق ورقم الغرفة ليتواصل معي، واتصل بي أكثر من مرة، وكان الحوار في كل
مرة يستمر لأكثر من ساعة. كان من الشخصيات التاريخية في جماعة الإخوان، حيث غادر
مصر سنة 1957 بعد خروجه من المعتقل، وبدا لي أنه كنز معلومات، وقد قام بأدوار مهمة
في الحرب العراقية الإيرانية، وحدثني عن شخصيات تعرف عليها في الخارج مثل رجل
أعمال كان ملء السمع والبصر في هذا الوقت، هو "أحمد بهجت"، وعندما فكرت
في إعادة الاتصال به بعد عودتي للقاهرة، كنت نسيت اسمه، وعندما حاولت تذكير
إبراهيم منير بالأوصاف لم يتذكر عمن أتكلم، وقبل أسبوع من الوفاة تذكرت اسمه لأبحث
عنه فاكتشفت أنه توفي في سنة 2017!
رحم الله الأستاذ إبراهيم منير، ورحم الله المهندس إبراهيم
صلاح. فيبدو أنه جيل لن يتكرر!
twitter.com/selimazouz1