تحمل
وكالات الأنباء ووسائل الإعلام تسميات مخاتلة وأسئلة لا يجدر بها أن تُسأل عندما
يتعلق الأمر بانتخابات كنيست دولة الاحتلال. تنشر وسائل الإعلام العالمية أخبارها
وتطرح أسئلتها في المواد التحليلية وتلحق بها غالبية وسائل الإعلام العربية،
وتتحكم بالتالي هذه التساؤلات بالنقاش السياسي والإعلامي العربي، مع أن الإعلام
الغربي يبني تقاريره الخبرية والتحليلية بناء على انحيازاته السياسية المسبقة،
وعلى رأسها دعم "إسرائيل" متخيلة، ديمقراطية وليبرالية،
"تشبهنا" كما يحلو لبعض خبراء الشرق الأوسط الغربيين أن يقولوا.
يتساءل
الخبراء الغربيون وبعض العرب: لماذا فاز اليمين الإسرائيلي في الانتخابات الخامسة
خلال أقل من أربع سنوات؟ يعطي التساؤل إيحاء بأن الانتخابات السابقة لم تأت
باليمين للحكم، بينما يفوز اليمين بكل تنوعاته بالانتخابات منذ عام 2003، حيث ترأس
الحكومات الصهيونية منذ ذلك الوقت رؤساء أحزاب يمينية من الليكود، وكاديما، وأبيض
أزرق، فيما تراوحت مقاعد اليسار ويسار الوسط خلال هذه الانتخابات التسع الأخيرة بين
6-23 مقعدا من أصل 120 مقعدا هي العدد الكلي لأعضاء الكنيست.
لم
يحصل توجه انتخابي لليمين كما يبدو من التساؤلات التي تطرح في الإعلام بمعنى
التحرك من اليسار أو الوسط لليمين، بل هو تحرك داخل اليمين نفسه. انتقال من
المتطرف للأشد تطرفا، ومن اليمين ذي القفازات الحريرية -إعلاميا- لليمين الشعبوي
الذي يعبر سياسيا عن نفس مبادئ الأول ولكن بلغة أكثر وضوحا -وصدقا- وتطرفا!
لم يحصل توجه انتخابي لليمين كما يبدو من التساؤلات التي تطرح في الإعلام بمعنى التحرك من اليسار أو الوسط لليمين، بل هو تحرك داخل اليمين نفسه. انتقال من المتطرف للأشد تطرفا، ومن اليمين ذي القفازات الحريرية -إعلاميا- لليمين الشعبوي
لنضع
النقاش الإعلامي الآن جانبا ونجيب على التساؤل بصيغته الحقيقية: لماذا ينتخب
المحتلون
التطرف أكثر فأكثر؟ والجواب هنا بدهي وموجود في السؤال نفسه. أولا: المحتل
بطبيعته متطرف، لا يرى إلا نفسه متحكما ومسيطرا على "الأدوات" المحتلة
من قبل جيشه وقوته الغاشمة. كان المحتلون ينتخبون اليسار لأسباب لا تتعلق بقلة
تطرفهم أو جرائمهم ضد الشعب الفلسطيني والعربي، ولكن الأمر يرتبط بتشكيل دولة
الاحتلال من قبل عصابات مسلحة أوروبية انتمت لليسار الأوروبي تقليديا وحملت أفكارا
اشتراكية. أسست العصابات الصهيونية بعد الاحتلال الكيبوتسات كوحدات عمالية
ومجتمعية تحمل مفاهيم اشتراكية، لعبت فيما بعد دورا كبيرا في السياسة والانتخابات
"
الإسرائيلية" لعقود طويلة، قبل أن يقلل نتنياهو من الدعم الحكومي لها،
ما أدى لإضعافها.
ومما
يؤكد أن انتخاب اليسار لم يكن يعني ميلا للاعتدال عند ناخبي الاحتلال، هو أن
الحروب الصهيونية مع العرب والفلسطينيين كانت في غالبها تحت قيادة اليسار (بن
غوريون/ حزب ماباي 1948، ليفي آشكول/ حزب معراخ 1967، غولدا مائير/ حزب العمل
1973، شمعون بيريز/ العمل خلال العدوان على لبنان ومجزرة قانا 1996، تحالف كاديما-
حزب العمل أثناء العدوان الإسرائيلي على غزة 2008-2009).
ثانيا:
المحتل بطبيعته لا يقبل دورا أو شراكة مهما كانت ديكورية وهامشية مع الشعب الذي
يحتله، ولذلك فإن الناخب المحتل عاقب التحالف الحكومي السابق بسبب إشراكه حزب
القائمة الموحدة العربي في حكومته، على الرغم من أن مشاركة منصور عباس رئيس
القائمة كانت منبوذة فلسطينيا وعربيا، وكانت أيضا هامشية دون أدنى تأثير سياسي،
ولكنها عقلية المحتل وطبيعته كما قلنا، لا ترضى إلا بالسيطرة الكاملة على الأرض
والناس.
مما يؤكد أن انتخاب اليسار لم يكن يعني ميلا للاعتدال عند ناخبي الاحتلال، هو أن الحروب الصهيونية مع العرب والفلسطينيين كانت في غالبها تحت قيادة اليسار
ثالثا:
تعاني دولة الاحتلال الصهيونية من تآكل القيادات بعد انتهاء الجيل الأول للاحتلال
وتأسيس المستعمرة على أنقاض الشعب الفلسطيني. كل القيادات السياسية والعسكرية في
دولة الاحتلال منذ سنوات تتكون مما يسمى "نخبة نتنياهو"، وهي تضم من
عملوا معه أو تحت إمرته في المناصب السياسية والعسكرية، ولذلك فإن نتنياهو يسيطر
على المجال السياسي منذ 2009 باستثناء فترة الحكومة السابقة من 13 حزيران/ يونيو
2021 حتى تشكيل
حكومة نتنياهو القادمة خلال أسابيع.
لذلك
كله، فإن نتائج الانتخابات طبيعية. لا تغيير بالعقلية المتطرفة للمحتلين عموما
هنا، ولكن النزعات اليسارية تراجعت منذ منتصف التسعينيات من القرن الماضي لأسباب
لا تتعلق بالمواقف السياسية
تجاه العرب والفلسطينيين، بل بتغييرات في طبيعة
العوامل المؤثرة في الانتخابات وأهمها تراجع دور الكيبوتسات وضعف حزب العمل، وصعود
لاعب جديد هو المتدينون الذين لم يكونوا يلعبون دورا كبيرا في الانتخابات سابقا،
ولكن هذا الدور بدأ يتصاعد لأسباب دينية وليست سياسية أساسا، عبر حزبي شاش ممثلا
لليهود الشرقيين المتدينين و"يهودوت حتوراة" ممثلا للمتدينين من اليهود
الأشكيناز.
ماذا
سينتج عن هذه الانتخابات عربيا وفلسطينيا؟
نتائج الانتخابات طبيعية. لا تغيير بالعقلية المتطرفة للمحتلين عموما هنا، ولكن النزعات اليسارية تراجعت منذ منتصف التسعينيات من القرن الماضي لأسباب لا تتعلق بالمواقف السياسية تجاه العرب والفلسطينيين، بل بتغييرات في طبيعة العوامل المؤثرة في الانتخابات وأهمها تراجع دور الكيبوتسات وضعف حزب العمل، وصعود لاعب جديد هو المتدينون
جذريا
لن يختلف الكثير، فالاستعداد للحرب سيكون كما هو، إذ لا فرق هنا بين يمين متطرف
ويمين أكثر تطرفا. الاستيطان لم يتوقف منذ توقيع أوسلو تحت الحكومات اليسارية أو
اليمينية أو الأشد يمينية، ولذلك فلن يتغير هذا الملف أيضا بشكل جوهري. موت
"عملية السلام" السريري سيستمر، إلا إذا تصاعد الاشتباك الفلسطيني مع
الاحتلال ودفعه للاضطرار للتحرك تجاه حلول سياسية بغض النظر عمن يحكم في تل أبيب.
أما التطبيع فلم يتوقف لا في عهود نتنياهو السابقة ولا في عهد خلفه في الحكومة
(لابيد وبينيت)، وهو سيستمر كما كان.
ستختلف
بعض المظاهر على السطح دون التأثير في العمق، مثل: زيادة صوت الخطاب العنصري من
قيادات الأحزاب الشعبوية، وتضييق الخناق أكثر فأكثر على فلسطينيي عام 1948، وتصعيد
الخطاب العدائي ضد الأردن من الأحزاب الفائزة حديثا والتي تحدثت سابقا بشكل علني عما يسمى "الخيار الأردني" الذي يرفضه الأردن والفلسطينيون، وارتفاع
التنافس الشعاراتي لإرضاء المستوطنين في الضفة الغربية والقدس لكسب أصواتهم في
الانتخابات القادمة، وتقديم امتيازات أكبر للناخبين المتدينين لضمان استمرار تحالف
نتنياهو مع "شاس" و"يهودوت حتوراة".
بجملة
واحدة، لم ينتقل المحتلون من اليسار إلى اليمين بل انحرفوا أكثر نحو تطرف متأصل
فيهم، لأنهم محتلون وهذه طبيعتهم. ولن تحدث تغييرات جوهرية على صعيد العلاقات مع
العرب والفلسطينيين، إلا إذا زادت وتيرة
نضال الفلسطينيين في كل أماكن تواجدهم في
الداخل والخارج ضد الاحتلال وجعلوه احتلالا مكلفا.
twitter.com/ferasabuhelal