تمر
مصر بفترة شديدة الدقة يصعب معها ليس فقط وصف أحوالها، ولكن كذلك ما
يتعلق بتداخل عالم أحداثها، وهو ما أدى إلى التباس عالم المفاهيم بل والانقلاب في
معانيها وجوهرها، وكذلك اضطراب عالم المواقف فيها، وكثيرا أيضا ما أدى ذلك إلى
تناقض المعايير وحيرة المواقف.. هذه الأحوال لم تكن إلا أبرز نتاج ومحصلة لنظام
الثالث من تموز/ يوليو الذي احترف خلط الأوراق، والتفتيش على الضمائر وخنق الحريات
ومطاردة المعارضين، والتربص بكل هؤلاء الذين شاركوا في ثورة يناير باعتبار أن
هؤلاء صاروا خصوما لهذا النظام، وتفكيره المسكون بـ"الدولتية" تحت دعوى
المحافظة على الدولة والتعلم ما هي الدولة. وواقع الأمر أن ما ترتب على ذلك من
سياسات، ومن ترسانة تشريعية أدت في النهاية إلى تشديد الخناق على المواطن المصري
حتى يجعل لنفسه شعارا "لا يسمع، لا يرى، لا يتكلم".
وفي حقيقة الأمر فإن هذا الشأن يذكرنا بحجم المظالم التي أحاطت بمعظم
المصريين في الداخل والخارج، تلك المظالم التي اتخذت أشكالا شتى فضلا عن منظومة
استطاعت أن تسطو على كافة مؤسسات الدولة وتطوعها وتجيّرها لمصالحها الأنانية ضمن
قاعدة الأمر والطاعة، وباتت تلك المؤسسات التي كان يلوذ بها المواطن تعمل ومن كل
طريق ضده ما أراد النظام ذلك، فانسدت الأبواب، واستغلقت الطرق، وبات الأمر يعبّر ليس
عن "مواطن المتاهة الذي كنا نتحدث عنه في حقبة مبارك المخلوع"، بل
"المواطن المخنوق الذي لا يستطيع أن يتنفس بأمن وأمان وحرية واختيار"، وبات
الأمر كله يعبر عن هذه السياسة التي اغتصبت كل الشعارات التي تتعلق بـ"تحيا
مصر" فجعلتها شعارا أجوف، هو في ظن هؤلاء الدولتية "أن تحيا مصر؛ ويموت
ويختنق كل مواطن فيها تحت دعوى أن كل ذلك من أجلها" وهو أمر شديد الخطورة
حينما يتعامل مع مفاهيم تتعلق بالوطن والوطنية والمواطن والمواطنة.
هذا الشأن يذكرنا بحجم المظالم التي أحاطت بمعظم المصريين في الداخل والخارج، تلك المظالم التي اتخذت أشكالا شتى فضلا عن منظومة استطاعت أن تسطو على كافة مؤسسات الدولة وتطوعها وتجيّرها لمصالحها الأنانية ضمن قاعدة الأمر والطاعة، وباتت تلك المؤسسات التي كان يلوذ بها المواطن تعمل ومن كل طريق ضده ما أراد النظام ذلك
وفي هذا السياق فإن الأمر الذي يتعلق بالتغيير أو بالدعوة إلى التغيير يعد
أمرا مشروعا ضمن ذلك النظام الذي اتضحت كل عناصر فاشيته، وكل سياسات فشله، وهو ما
يعني أن الطلب على التغيير لا يزال يحمل كثيرا من الدعاوى التي تسنده، خاصة أن
معظم تلك المظالم التي كانت وأدت إلى ثورة الخامس والعشرين من يناير ما زالت هي
هي، ولكنها تحولت من ظلم إلى ظلمات صارت تحيط بمكانة الوطن، وكرامة المواطن.
ومن ثم فإن أي دعوة للتغيير هي دعوى قد تجد سندها وتتأكد دواعيها، بل وتفرض
ضروراتها لعملية التغيير، وتلك الأشواق التي تحيط به. وهنا لا بد وأن نقف مع
الأحداث الأخيرة وقفة تفك ذلك الالتباس وتوضح أمورا خطيرة وكثيرة التبست على عموم
الناس، ومن أهم تلك الأمور أن الثورة، أو عملية التغيير ليست بسماح أحد، وإن ذلك
القول المتكرر في خطابات السيسي معبرا عن نظامه من أنه "لن يسمح.. ولن
يقبل" إنما يعبر في واقع الأمر عن ضرورة أن نرد عليه ذات الرد البسيط المفحم،
أن "الثورة والتغيير ليست بسماحك"، إلا أنه في ذات الوقت يجب أن يعلم
الجميع أن عمليات التغيير تحيط بها قوانين وسنن، ولا بد من الوعي بها والتعرف على
عملها، والقدرة على التقاط معانيها ومغازيها، ومن دون ذلك فإن الثورات ليست برفع
شعارات أو تحديد مواعيد، فالثورة لا مواعيد لها.
وكذلك فإن من الأمور المهمة التي يمكن التأكيد عليها أن عمليات التغيير تلك
إنما تعبر في حقيقة الأمر عن نضج ظروف موضوعية، وواقع حقيقي، وقوى اجتماعية
وسياسية تستطيع أن تدافع وتحمي وتحمل كل ما يتعلق بمشروع التغيير من مطالب وأهداف،
تتعلق بعموم الوطن، وعامة الناس. ولعل ذلك من الأمور التي يجب أن نفطن إليها مع كل
دعوة تتجدد، فالأمر هنا يتعلق بتلك الكلمة البليغة "الشعب لما يقرر هيفك
قيوده.. بس يلاقي اللي هيقوده"، ومن ثم فإن هذا الأمر الذي يتعلق بالتغيير
يحتاج منا مراجعة واسعة لكل هذه السنين التي فاقت العشر حتى نتعلم الدرس، ليتأكد
لنا أن الثورات لا تُستنسخ، ولكنها تنبع من حركة شعب، وسند قوى، ووعي الناس، ووعد
التغيير، ولذلك تفصيل ربما قد نعود إليه ضمن سلسلة أخرى حينما نتحدث عن "متطلبات
التغيير في مصر الحبيبة".
عمليات التغيير تلك إنما تعبر في حقيقة الأمر عن نضج ظروف موضوعية، وواقع حقيقي، وقوى اجتماعية وسياسية تستطيع أن تدافع وتحمي وتحمل كل ما يتعلق بمشروع التغيير من مطالب وأهداف، تتعلق بعموم الوطن، وعامة الناس. ولعل ذلك من الأمور التي يجب أن نفطن إليها مع كل دعوة تتجدد
كل ذلك لم يكن إلا إرهاصات لأمر اقتحم وجداننا حينما قمنا بالتوقيع على طلب
بالعفو عن المناضل وأيقونة ثورة يناير "
علاء عبد الفتاح"، تذكرت معها
مقالة لي تتحدث عن قصة عائلتين، أفكر جديا في إعادة نشرها للمغزى الذي تعبر عنه،
والمعنى الرسالي الذي تحمله. ومن المؤسف حقا أن يكون شأن
المعتقلين داخل في هذه
الالتباس لموضوع لا يحتمل أي نوع من التشكيك أو الالتباس أو المزايدة، ذلك أن حرية
الإنسان ودمه لا يدخلان بأي حال ضمن مزايدة أو مساومة أو مقايضة.
لا نبالغ إن قلنا إن إعلان بعض أزلام النظام المصري تشفّيهم في
موقف أسرة "علاء
عبد الفتاح" لم يكن مفاجأة لي، فقد تعودنا على المستوى الذي وصل إليه هؤلاء، وباتت
رؤيتهم الإنسانية منعدمة، وكأن أولهم ومنتهاهم خدمة هذا النظام الانقلابي الشمولي.
وهم مُجدّون في ذلك ويعملون في خدمته ليل نهار ويراقبون أنفسهم حتى لا تخرج منهم
كلمة تعيد لهم إنسانيتهم المفقودة، ومن ثم فما نشره ذلك الإعلامي بشأن بيان الأسرة
"المذلة، بعد الافتراءات على مصر وقياداتها، والاستقواء بالخارج، تحيا مصر"
لا يستحق الرد عليه، وإنما نسجله ليكون دليل إدانة عليه يوم ترد الحقوق إلى أهلها،
وتعود مصر إلى أصحابها الحقيقيين وهو يوم نراه قريبا ويرونه بعيدا. فما فعلته
الأسرة إنقاذا لابنها، وما فعله المحامي القدير الأستاذ خالد علي بإصداره بيانا
يدعو فيه المواطنين للتوقيع عليه للمطالبة بالإفراج عن سجين الرأي
علاء عبد الفتاح،
وقد وقع عليه الآلاف، بمثابة الطريق الوحيد لإنقاذ حياة "علاء عبد الفتاح"،
في حين أن هؤلاء الشامتين نجد أن الوصف الذي أسبغه عليهم الفقيه الدستوري الدكتور
نور فرحات "الهوان الأخلاقي" يليق بهم.
إلا أن ما لفت نظري هو ردود وتعليقات بعض ممن يقفون في صف الثورة، فهم
ينظرون أيضا إلى الأمر باعتباره تنازلا وتراجعا وخضوعا وإن لم يقولوا ذلا وانكسارا،
ومن ثم وجب علينا توضيح بعض الأمور الواضحة، ولكن التأكيد عليها سيكون مفيدا.
هذه القضية تؤكد بما لا يدع مجالا للشك افتقاد القضاء المصري لاستقلاله، ذلك الاستقلال الذي دفع شيوخ المهنة ورجالاتها حياتهم ثمنا له، وأن عملية التسييس لا تخص هذه القضية بمفردها ولكن تشمل الجميع، وأن التركيز على بيان ذلك أمر مهم ستكون فائدته عامة على الجميع
أولها، كما أوضح الباحث القدير من أن هذه القضية كاشفة لمأساة تسييس القضاء
في مصر، وأن مسألة التسييس من أبرز ملامح الدكتاتورية، فهذه القضية تؤكد بما لا
يدع مجالا للشك افتقاد القضاء المصري لاستقلاله، ذلك الاستقلال الذي دفع شيوخ
المهنة ورجالاتها حياتهم ثمنا له، وأن عملية التسييس لا تخص هذه القضية بمفردها
ولكن تشمل الجميع، وأن التركيز على بيان ذلك أمر مهم ستكون فائدته عامة على
الجميع.
ثانيا، أن القول بأن الاهتمام بقضية علاء يأتي تجاهلا للقضايا الأخرى، وهو
قول صادر من العديد من مربع الثورة، ونقول إن هذا الأمر ليس كذلك وأن قضية علاء هي
دالة على كل قضايا المعتقلين والمسجونين، وهي فرصة للتنديد بعمليات التدوير والحبس
الاحتياطي غير المحدد، وأن المعارضة يجب أن تكون من أولوياتها السعي لإنهاء هذا
الملف.
ثالثا، القول إن الإفراج عن علاء عبد الفتاح هو ظلم للآخرين، أو كما قالت رئيسة
المجلس القومي المصري لحقوق الإنسان "لو تم الإفراج عن علاء بشكل استثنائي
فهذا يعتبر خرقا لحقوق الآخرين"، وناهيك عن أن هذا القول صادر من مسؤولة يعد
السعي للإفراج عن المعتقلين هو من صميم عملها وهدف أساسي للمؤسسة الذي تتولى
إدارتها، فهل يمكن القبول بمثل هذا الطرح، وكأن المطلوب هو قتل أي محاولة للإفراج
عن معتقل/ سجين، وانتظار موتهم في السجون، أو كما قالت الدكتورة ليلي سويف أن هذا
الخطاب يجب أن يتم توجيهه إلى السلطة وليس إلى عائلة السجين أو المتضامنين معه، فمثل
هذه الادعاءات والتلفيقات تمثل تفسيرا لموقف السلطة الغاشمة، وتبريرا لها للعسف
بالمساجين بمن فيهم "علاء عبد الفتاح".
twitter.com/Saif_abdelfatah