هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
حين تضيق الجغرافيا بأمة ما أو شعب ما،
ويمكر التاريخ بها أو بهم مرارا وتكرارا، فإن الفرص التاريخية الاستثنائية تتطلب
وعيا تاريخيا ينعكس في سلوك سياسي مغاير للسائد.
لا ينطبق هذا الكلام على مجمل الأكراد في
المنطقة، بسبب اختلاف تجاربهم التاريخية تبعا للبلد الذي هم جزء منه.
التجربة التركية
كانت تجربة الأكراد في تركيا أكثر حدة من
تجربة أقرانهم في العراق وسوريا وإيران، بسبب الثقل الديمغرافي لهم في تركيا من
جهة، وبسبب الصراع الذي اتخذ شكل الكفاح المسلح على مدار عقود خلت من جهة ثانية.
خصوصية التجربة الكردية في تركيا، تعود إلى
أيديولوجية قومية عابرة للدول، تبلورت بعيد فشل الثورات التي قمعتها السلطات
التركية، واضطرار الكثير من الأكراد إلى الهروب إلى دول الجوار، خصوصا سوريا
والعراق.
أدت الحرب العالمية الأولى إلى نشوء تصدع
جيوسياسي تمثل في انهيار الدولة العثمانية، تبلور على أثره وعي قومي كردي هدفه إقامة
الدولة الكردية داخل حدود الدولة التركية.
هذا الهدف، كان العنوان الرئيسي لتنظيم
"خويبون" الذي نشأ عام 1927، لكن بعد فشل ثورة فشل ثورة أرارات عام 1930
شرقي تركيا، اتجهت أنظار بعض الأكراد إلى إقامة كيان كردي في الجزيرة السورية
يستعيد الإمارة البدرخانية التي أقيمت في جزيرة ابن عمر بين عامي 1835 ـ 1847 تحت
زعامة بدرخان بك.
لكن التجربة الكردية العسكرية في تركيا على
صعوبتها، وصلت إلى مرحلة الصراع السياسي أو النضال السياسي بعد تبلور واستقرار
الديمقراطية في تركيا، خصوصا في مرحلة حزب "العدالة والتنمية".
وكان من شأن هذا التحول من المستوى العسكري
إلى المستوى السياسي، أن أضعف حزب "العمال الكردستاني" في التأثير داخل
تركيا، وفسح المجال لسيرورة سياسية طويلة ومعقدة تفسح المجال للأكراد الأتراك في
نيل حقوقهم تدريجيا.
التجربة العراقية
في العراق، شكل غزو صدام حسين للكويت،
والحرب الدولية ضده إلى إضعاف الهيمنة المركزية للنظام العراقي، سرعان ما استغله
الأكراد لتحقيق حكم ذاتي كردي في إقليم كردستان.
ومن أجل المحافظة على الكيان الذاتي الوليد،
تطلب من أكراد العراق عقد هدن وتحالفات مع أعداء الأمس: تركيا، وبدرجة أقل إيران.
ستبقى الأزمة الكردية قائمة في ظل وجود أنظمة استبدادية لا تعترف بالحقوق الكردية، وفي ظل نخب سياسية كردية تتعامل مع المصالح القومية الكردية من منطلق براغماتي قومي خارج الدولة الوطنية.
وكان من شأن هذه البراغماتية أن أضفت
عقلانية على السلوك السياسي للإقليم، سواء في علاقته المحلية مع حكومة بغداد، أو
في علاقته مع الدول الإقليمية، أو في علاقته مع الأكراد في الدول الأخرى، خصوصا في
سورية بعد الثورة، حيث كانت الاستراتيجية المتبعة للإقليم أبعد ما تكون عن التأثير
القومي.
بدت الاستراتيجية الكردية ما فوق القومية في
داخل الساحة العراقية، لا سيما خلال الأعوام القليلة الماضية، فنشأت تحالفات فوق
قومية ترتبط بملفات سياسية ووطنية داخلية، فتحالف الحزب "الديمقراطي
الكردستاني" مع تيار مقتدى الصدر ومع تحالف السيادة السني، فيما تحالف حزب
"الاتحاد الديمقراطي الكردستاني" مع تحالف "دولة القانون"
الشيعي.
وعلى الرغم من مضي نحو ثلاثة عقود على قيام
الإقليم الكردي، فإنه ما يزال يفتقد على مقومات الحكم الذاتي السليم، بسبب القوى
العراقية الداخلية المانعة لنشوء كياني ذاتي مستقل وقوي، وبسبب الدول الإقليمية
التي تتعامل مع الإقليم انطلاقا من مصالحها الخاصة.
التجربة السورية
في سوريا، مر النضال الكردي بمرحلتين:
الأولى منذ عشرينيات القرن الماضي وحتى
استلام "البعث" السلطة في سوريا عام 1963، وخلال هذه الفترة حدثت
انعطافة أيديولوجية في الفكر السياسي الكردي، خصوصا في عقدي الأربعينيات
والخمسينيات، حين أصبح الأكراد جزءا من توازنات القوى الداخلية.
وقد سمح مناخ الحريات السياسية للأكراد
بالنشاط السياسي، الأمر الذي أدى إلى إضعاف الخطاب الهوياتي الراديكالي لصالح خطاب
سياسي وطني عقلاني، وجاء تشكيل جمعية "وحدة الشباب الديمقراطيين الكرد"
عام 1953 تعبيرا عن هذا التحول: من النضال الخارجي إلى النضال الداخلي القائم على إقامة
الديمقراطية كطريق يؤدي إلى تحقيق الحقوق القومية الثقافية ـ الهوياتية، والحقوق
السياسية في إطار الدولة السورية.
الثانية، جاءت مع هينة "البعث"
على السلطة، وفيها جرت عملية تأميم سياسي للأحزاب والقوى كافة، لكن التجربة
الكردية في سوريا لم تتأثر فقط بعملية التأميم هذه، بل أيضا بسياسة البعث حيال
المطالب الكردية التي اعتبرت بنظر "البعث" تهديدا وجوديا لأيديولوجيته
العربية، فبدأ بعمليات تغيير ديمغرافي في الشمال والشمال الشرقي من البلاد، ومناطق
أخرى أقل أهمية.
مع انطلاق الثورة السورية، تشكل وعي كردي
سياسي على غرار تجربة أكراد العراق، لكن الأكراد في سورية لم يدركوا اختلاف
الجغرافية بين العراق وسوريا، ولم يدركوا اللحظة التاريخية الفارقة بين غزو أجنبي
لدولة أضعفت البنية المركزية للنظام (العراق) وبين ثورة شعبية تطمح إلى إقامة
الدولة الديمقراطية (سوريا).
اعتقد الأكراد خطأ أن الفرصة التاريخية
المتاحة تسمح لهم بإقامة حكم ذاتي على غرار الحكم الذاتي في إقليم كردستان العراق،
وتجاهلوا الامتداد التركي الطويل مع الجغرافيا السورية، وتناسوا أيضا الخيانات
الأمريكية والإقليمية لهم على امتداد مئة عام، باعتبارهم أداة لتحقيق الأهداف الأمريكية.
ستبقى الأزمة الكردية قائمة في ظل وجود
أنظمة استبدادية لا تعترف بالحقوق الكردية، وفي ظل نخب سياسية كردية تتعامل مع
المصالح القومية الكردية من منطلق براغماتي قومي خارج الدولة الوطنية.