مقالات مختارة

عن مواطني الرايخ… لا جديد تحت الشمس

عمرو حمزاوي
1300x600
1300x600

لم يكن الصعود الانتخابي والسياسي لليمين المتطرف خافيا على متابعي الحالة الألمانية خلال السنوات الماضية.

لم تكن أيضا الزيادة المخيفة في جرائم العنف والكراهية التي تورطت بها مجموعات يمينية عنصرية هاجمت أجانب ولاجئين وطالبي لجوء بغائبة عن التناول الإعلامي والنقاش العام في ألمانيا.

لم تغب، أخيرا، مقالات الرأي في الصحف والبرامج الحوارية في القنوات التليفزيونية التي ناقشت الاحتجاجات المتكررة لليمين المتطرف ضد القيود المطبقة من حكومة المستشارة السابقة أنجيلا ميركل وحكومة المستشار الحالي أولاف شولتز للحد من انتشار جائحة كورونا وظاهرة الاتساع المقلق للدوائر الشعبية المرددة لمقولات اليمين المتطرف، من تفسير الجائحة كمؤامرة كونية ورفض استقبال اللاجئين وانتقاد تدخلات الاتحاد الأوروبي المستمرة إلى التشكيك في الديمقراطية الألمانية واتهام الأحزاب الكبرى بالتسبب في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الصعبة والدعوة إلى إبعادها عن الحكم.

فلماذا، إذا، ذهلت أغلبية الألمان وذهل العالم الخارجي حين أعلنت النيابة العامة الألمانية قبل أيام قليلة عن القبض على مجموعة يمينية متطرفة تعرف باسم «مواطني الرايخ» واتهمت عناصرها بالإعداد لانقلاب على النظام الديمقراطي ومحاولة السيطرة على الحكم؟

فتآمر عصابة «مواطني الرايخ» على الديمقراطية، وهي ليست المرة الأولى في ألمانيا ما بعد نهاية الحرب العالمية الثانية 1945 التي يتهم بها اليمين المتطرف من قبل السلطات الرسمية بالتآمر ومحاولة قلب نظام الحكم، هو ترجمة مباشرة للصعود الانتخابي والسياسي والنشاط الإجرامي لليمين المتطرف والعنصري خلال السنوات الماضية. تآمر مواطني الرايخ هو أيضا تعبير مباشر لتواصل الحضور القديم-الجديد للأفكار الشعبوية الرافضة من جهة للديمقراطية البرلمانية كما طورتها ألمانيا في شطرها الغربي منذ 1949 واعتمدتها نظاما لحكم ألمانيا الموحدة بعد 1990، والباحثة من جهة أخرى عن إحياء النزعة القومية الألمانية وصياغة نظام سياسي جديد لا يخضع لسيطرة الاتحاد الأوروبي ويبقي ثروة الألمان لهم ولا يفتح أبواب بلادهم للأجانب ويحافظ على ما يتوهمه المتطرفون والعنصريون نقاء عرقيا. لا جديد هنا تحت الشمس.

ولا جديد تحت الشمس أيضا فيما خص الخلفيات الشخصية والمهنية للمنضمين لمواطني الرايخ والمتورطين في محاولة قلب نظام الحكم في البلد ذي الاقتصاد الأكبر في قارة الاستعمار والحروب والإيديولوجيات العنصرية وكذلك العلم والتقدم والعلمانية والنزعة الإنسانية المسماة بأوروبا. اهتم الإعلام الألماني والعالمي بدور الأمير هاينريش الثالث عشر، سليل أسرة رويس الأرستقراطية التي كانت من أسر أمراء المقاطعات الألمانية قبل الوحدة الأولى في 1871 والذي عرف عنه من جهة ترويجه لنظريات مؤامرة كثيرة من سيطرة اليهود على العالم إلى استتباع ألمانيا للغرب المقاد أمريكيا، ومن جهة أخرى صلاته العديدة مع مجموعات يمينية متطرفة إلى الحد الذي دعا أسرته إلى التبرؤ منه رسميا ووصفه بالرجل المضطرب.

غير أن حضور عناصر من من الأرستقراطية في دوائر اليمين المتطرف والعنصري، بل وتورط بعضهم في محاولات لقلب نظام الحكم، ليس بجديد على ألمانيا ما بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. ففي محاولات فاشلة سابقة أعلنت عنها السلطات الرسمية في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، تورط أيضا أمراء ونفر من الأرستقراطيين أصحاب الأموال الطائلة والباحثين عن أدوار سياسية ومغامرات انقلابية يعتقدون أنها ستجعل منهم قادة وحكام.

كذلك ليس بجديد على الديمقراطية الألمانية أن يتورط في العمل مع اليمين المتطرف والعنصري عسكريون متقاعدون وموظفون سابقون وحاليون في الأجهزة الأمنية والاستخباراتية. وفقا للإعلام الألماني والعالمي، انضم إلى مواطني الرايخ نفر قليل من العسكريين المتقاعدين وموظفي الاستخبارات المتطرفين فكريا وسياسيا. وهم هنا، بحضورهم وأدوارهم التي تهدد النظام الديمقراطي الذي تحتم عليهم مواقعهم ووظائفهم حمايته، لا يشذون عن المألوف ألمانيا. نحن أمام نفر لا يتجاوز عدده أصابع اليد الواحدة، نفر سيطر عليه من جانب المؤسسات العسكرية والاستخباراتية التي تدين بالولاء إلى النظام الديمقراطي وتتعاون مع المؤسسات البرلمانية والقضائية لحمايته، نفر لا ينتقص وجوده أبدا لا من تماسك المؤسسات ولا من استقرار النظام الديمقراطي.

وفي تناوله لمؤامرة مواطني الرايخ، ركز الإعلام الألماني والعالمي أيضا على توافق عناصر المجموعة على حرق مبنى البرلمان وتعطيل عمله لشل النظام الديمقراطي واستبداله بحكومة فاشية. ليس السعي الإجرامي إلى حرق مبنى البرلمان ببعيد عن الخيال السياسي لليمين المتطرف والعنصري في ألمانيا. فقد تآمر النازيون من حول أدولف هتلر لحرق البرلمان في 1933، وكان هدفهم هو تعطيل النظام الديمقراطي الدستوري القائم آنذاك (جمهورية فيمار). وتعرض مقر البرلمان في عاصمة ألمانيا الغربية بون لبعض محاولات الاقتحام القليلة من قبل اليمينيين المتطرفين والفاشيين في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، كما تعرض البرلمان في عاصمة ألمانيا الموحدة برلين لبعض المؤمرات أيضا.

ألمانيا، يمثل البرلمان في الخيال السياسي لليمين المتطرف مركز النظام الديمقراطي الذي تنازل عن أمجاد القومية الألمانية وقبل الاستتباع للغرب الأوروبي والمصالح الأمريكية وتنازل عن النقاء العرقي للألمان بفتح أبواب البلاد للمهاجرين واللاجئين من أوروبا ومن خارجها وهدد من ثم الهوية الوطنية الألمانية. السعي الإجرامي إلى حرق البرلمان هو، إذا، تاريخيا في قلب تآمر اليمين المتطرف على الديمقراطية الألمانية ومحاولات القضاء عليها. لا جديد هنا تحت الشمس.

عالميا، يمكن تصور أن هجوم يمين دونالد ترامب المتطرف والفاشي على الكونغرس الأمريكي في 2021 واقتحامه شكل دافعا إضافيا لمواطني الرايخ لجعل حرق البرلمان في صدارة تحركاتهم الإجرامية، باحثين على الأرجح عن ذات الصدى السياسي والإعلامي الواسع الذي حازه، إدانة قبل تأييدا، اليمين الأمريكي المتطرف بعد اقتحام الكابيتول.

وهنا الملمح الجديد الوحيد الذي أراه في تآمر مواطني الرايخ، ألا وهو أن محاولات القضاء على الديمقراطية باتت تمتد إلى عديد الحكومات الغربية التي إما تشهد صعود اليمين المتطرف انتخابيا وسيطرة بعض أحزابه العنصرية والفاشية على ائتلافات حاكمة (إيطاليا كنموذج أضيف مؤخرا) أو تواجه احتجاجات في الفضاء العام ليس العنف ولا المطالبة الصاخبة ببدائل للنظام الديمقراطي عنها ببعيد (من التظاهرات ضد إجراءات كورونا إلى اقتحام الكابيتول في الولايات المتحدة والعنف المتكرر في المدن الأوروبية بين العنصريين والأجانب). وحين يحدث ذلك في ظروف أزمات اقتصادية واجتماعية ومعيشية (طاقة بالأساس) ترتبها الجائحة المستمرة والحرب الروسية على أوكرانيا، تصبح الديمقراطيات الغربية ومنها ألمانيا في معية تهديدات وجودية وأخطار حقيقية لن تنتهي في أي وقت قريب.

لا جديد ألمانيا وأوروبيا وغربيا في مؤامرة مواطني الرايخ، بل الجديد في الأزمة السياسية والمجتمعية طويلة المدى للديمقراطية.

القدس العربي

التعليقات (0)