قضايا وآراء

الأمة العميقةُ التي أظهرها مونديال قطر

أحمد أبو رتيمة
أظهر العرب وحدة خلال مونديال قطر- جيتي
أظهر العرب وحدة خلال مونديال قطر- جيتي
لم يعد كأس العالم حدثاً رياضيَّاً وحسب، بل تجاوزَ ذلك إلى كونه تظاهرةً ثقافيَّةً وسياسيَّةً، وعزَّز ذلك كونه يعقد هذه المرة في بلدٍ عربيٍّ مسلمٍ ينتمي أهله إلى أمَّةٍ تؤمن بمنظومةٍ دينيَّةٍ وثقافيَّةٍ واجتماعيَّةٍ غير تلك المنظومة التي تحتكم إليها قوى الهيمنةِ العالميَّة، والتي أغراها واقع التفوق الحضاريِّ والسياسيِّ المعاصر بالاعتقاد أنها وحدها التي تملك المعيار المطلق لفرض قيمها الخاصَّة على شعوب العالم، وأنَّ الآخرين ليسوا على شيءٍ من القيم والثقافة التي تملك الأهليَّة للتعبير عن نفسها.

هذا ما يفسِّر مثلاً عدم تفهُّم كثيرٍ من الغربيِّين لرفض المجتمعات العربيَّة والمسلمة التي تحتضن كأس العالم هذه المرةَ قضيةَ المثلية الجنسيِّة. الأمر يتعلق بطغيان مشاعر الاستعلاء النفسيِّ والتفوُّقِ الحضاريِّ، حتى إنَّهم لا يرون أنَّ هناك أمماً أخرى تملك الحقَّ في الاختلاف معهم، ويظنُّون أنَّ كل ما يعتقدونه يجب على الجميع أن يعتقده بداهةً مثلهم، مع أنَّ ملياراتٍ من البشر يؤمنون بضرورة المحافظة على العلاقات الطبيعيَّة التي تثمر بقاء الجنس البشريِّ ولا يقبلون بالنيل من قداسة مفهوم الأسرة. وحتى الغرب نفسه فإنَّه لم يتبنَّ هذه القضية إلا في العقود الأخيرةِ، لذلك فإنَّ من الغرور الاعتقاد أن مجرد ظهور توجهٍ معيَّنٍ في سنواتٍ قليلةٍ في بعض المجتمعات هو مبررٌ كافٍ لتعميم هذا التوجُّه ومنحه صفةً إطلاقيَّةً عالميَّةً.
قيمة كأس العالمِ في قطر أنَّه وفَّر ظروفاً نموذجيَّةً للشعوبِ العربيَّة للتعبير الصادقِ عن نفسها، فهذه الشعوب مكبَّلةٌ بأغلال الطغيانِ السياسيِّ ومنهكةٌ في أزماتها الداخليَّةِ. هذه الأغلال حرمت الشعوب من توفُّر المُناخ الطبيعيِّ في بلدانها للتعبيرِ عن توجُّهاتها الحقيقيَّةِ ولإظهارِ النموذج الذي يعبِّر عن ذاتها الأصيلة

قيمة كأس العالمِ في قطر أنَّه وفَّر ظروفاً نموذجيَّةً للشعوبِ العربيَّة للتعبير الصادقِ عن نفسها، فهذه الشعوب مكبَّلةٌ بأغلال الطغيانِ السياسيِّ ومنهكةٌ في أزماتها الداخليَّةِ. هذه الأغلال حرمت الشعوب من توفُّر المُناخ الطبيعيِّ في بلدانها للتعبيرِ عن توجُّهاتها الحقيقيَّةِ ولإظهارِ النموذج الذي يعبِّر عن ذاتها الأصيلة، لذلك فقد شعر الناس حين اجتمعوا في فضاء كأس العالم أنَّهم قادرون على التعبير عن ذواتهم وإظهار قيمهم الجماعيَّةِ، فكان استفتاءً حقيقيَّاً للتعريفِ بالهويَّة الحقيقيَّة للشعوب العربيَّة التي تتجاوز كل سياسات الحجب ومحاولات الخداع التي تمارسها القوى المهيمنة التي تحتكر تمثيل صوت هذه الشعوب.

أظهر المونديال مثلاً عمق الرفض الشعبيِّ العربيِّ للكيانِ الاستعماريِّ الصهيونيِّ، وعمق مشاعر الانتماء إلى قضيَّة فلسطين عبر رفع علم فلسطين في كلِّ مكانٍ، وهو ما عزَّز مكانة هذا العلم بأنه رمز عالميٌّ للنضال من أجل الحريَّةِ. وقد ظهر الصحفيُّون الصهاينةُ منبوذين أينما توجَّهوا إلى أيِّ ركنٍ يجتمع فيه الشباب العربيُّ، تطاردهم هتافات الحريَّة لفلسطين والصراخ في وجوههم أن لا مرحباً بكم، لقد رجع هؤلاء الصحفيُّون غاضبين يسألون قيادتهم أين هو التطبيع الذي بشرتمونا به، والعرب لا يزالون يحملون كلَّ هذا القدرِ من العداء والرفض لوجودنا.

أعطت الأنظمة الاستبداديَّةُ الحاكمة في البلاد العربيَّة صورةً كاذبةً عن إمكانيَّة افتتاحِ عصرٍ جديدٍ من التطبيعِ مع هذا الكيان الاستعماريِّ، وغذَّت توجُّهاً مزيَّفاً في وسائل التواصل لخلق فجوةٍ مع الشعب الفلسطينيِّ، لكنَّ كلَّ هذه المساعي ظهر بوارها حين رأينا النبض الشعبيَّ العربيَّ مباشرةً دون قنواتِ حجبٍ، ورأينا كيف أنَّ سنوات التضليل والتزييف لم تنل من أصالة مواقف الشعوب العربيَّة التي لا تزال ترى في دولة الاحتلال كياناً شاذَّاً غير طبيعيٍّ، وأنَّ العلاقة معه هي القطيعة والرفض، وليس القبول والاندماج.
أعطت الأنظمة الاستبداديَّةُ الحاكمة في البلاد العربيَّة صورةً كاذبةً عن إمكانيَّة افتتاحِ عصرٍ جديدٍ من التطبيعِ مع هذا الكيان الاستعماريِّ، وغذَّت توجُّهاً مزيَّفاً في وسائل التواصل لخلق فجوةٍ مع الشعب الفلسطينيِّ، لكنَّ كلَّ هذه المساعي ظهر بوارها حين رأينا النبض الشعبيَّ العربيَّ مباشرةً دون قنواتِ حجبٍ

أظهر المونديال قوَّةَ أواصر الأخوَّة بين الشعوب العربيَّةِ، لقد شعرنا جميعاً أنَّنا واحدٌ وأن الحدود القُطريَّة لا تعني شيئاً في عمق شعورنا النفسيِّ بالانتماء إلى هذه الأمة الواحدة التي تدين بدينٍ واحدٍ وثقافةٍ واحدةٍ ويجمعها تاريخٌ واحدٌ وتتحدث بلغةٍ واحدةٍ. اشرأبَّت أعناقنا جميعاً لتشجيع أيِّ فريقٍ عربيٍّ في مواجهة أيِّ فريقٍ غير عربيٍّ، ودعونا من أعماق قلوبنا بالفوز للفرق العربيَّة المشاركة، لأننا شعرنا أنَّ أيَّ فريقٍ عربيٍّ يمثِّلنا جميعاً.

ذكَّرنا هذا الفرح المشترك بحقيقةِ أنَّنا أمةٌ واحدةٌ مصيريَّاً، وأنَّ سياسات تعزيز الاختلاف والفرقة تعمل ضدَّ قانون الطبيعة والتاريخِ، وأنَّ المواقف الفاصلةً، ولو كانت في ميدان الرياضةِ، كافيةٌ لتتبيرِ كلِّ تلك السياسات التفريقيَّة. هذا الشعور هو أكبر قيمةً وقدراً من أيِّ نتيجة تؤول إليها مباريات كرة القدم.

كشف الفرح العربيُّ المشتركُ بعد كلِّ مباراةٍ يفوز فيها فريقٌ عربيٌّ كم نحن عطاش للفرحِ والأملِ!

هناك من يرى في كرة القدمِ ملهاةً للشعوبِ عن القضايا الحقيقيَّةِ، لكن يسعنا النظر للمسألة بطريقةٍ إيجابيَّةٍ؛ لماذا لا تكون مشاعر الفرح والأمل والوحدة التي حقَّقتها كرةُ القدمِ دافعاً لاستثارة القوى الإيجابيَّة في نفوس الناس ومنحهم وقوداً للتغيير في الميادين الأكثر جديَّةً؟!

إنَّ الأمم تحتاج إلى الأمل والحلم لتفجير طاقاتِ الإبداع الكامنةِ أو المعطَّلة، وهذا هو السياق الذي ينبغي أن نضع كرة القدم فيه. إنَّنا نعلم أنَّ هناك كثيراً من الفعل المنتظر للصعودِ الحضاريِّ في أمَّتنا في السياسة والمجتمع والاقتصاد والثقافة، وأنَّ هناك كثيراً من التحديَّات الجادَّة التي تتطلب رؤيةً وتخطيطاً وفعلاً متراكماً لإحداث التحوُّل الإيجابيِّ في وطننا العربيِّ، ولتكن المشاعر الإيجابيَّة التي فجَّرتها تظاهرة كأس العالَم وقوداً من الأمل يحفِّز الناس على الحركة والثقة بالانتصار.

ذكرنا المونديال أنَّنا أمَّةٌ تملك من القيمِ ما يستحقُّ أن ندعو العالَم إليه. تحدَّث مدرِّب منتخب البرازيل في مؤتمر صحفيٍّ يتابعه الملايين على الأقلِّ عن مدى تأثره بموقف الشاب العربيِّ المجهول الذي ساعد في حمل حفيده إلى محطة القطار. نحن العرب نعلم أنَّ هذا الموقف طبيعيٌّ جدَّاً ويفعله أكثرنا بتلقائيَّةٍ دون أن يشعر أنَّه يستحقُّ الذكر، وهذه هي قيمة الموقف، أنَّه كان عفويَّاً فكان معبِّراً بصدقٍ عن قيمنا الدينيِّة والاجتماعيَّة.
الأمَّة العميقة تمثل الجذور الممتدَّة التي لا يستطيع أحدٌ اقتلاعها. تعتلُّ الأمة وتضعف، لكنَّها تبقى راسخةً في إيمانها، متمسِّكةً بأصالتها، وحين تختار الطبقة الحاكمة السير في الاتجاه المعاكس لهذه الأمَّة العميقة فسيأتي اليوم الذي تتمكن فيه الأمة من تجاوز تلك الطبقة

واحتضن اللاعبون في فريق المغرب أمَّهاتهم بعد فوزهم في المباراةِ، وهو مشهدٌ عفويٌّ أيضاً في ثقافتنا، يمارسه الناس في حياتهم اليوميَّة دون تكلُّفٍ بعيداً عن الكاميرات، لكنَّه يحمل قيمةً بالغةً في سياق التدافع الحضاريِّ ونحن نرى منظومةً تتجه إلى التحلُّل من قيم الأسرة ولا يشعر الآباء والأمهات بهذه الحميميَّة والاحتضان حين يكبرون في العمر. مثل هذه المشاهد هي الانتصار القيميُّ الحقيقيُّ في كأس العالَم.

ما رأيناه في كأس العالم هو الأمَّة العميقةِ التي تتجاوز طبقة الحكَّام وسطوتهم ومساعيهم الزائفة في تمثيل توجُّهات الشعوب.

الأمة العميقةُ هي الممثل الحقيقي لهوية الشعوب وقيمها، قد تسود الطبقة الحاكمة حيناً من الدهر بقوة الإكراه والدعم الخارجيِّ، وقد تسيطر على الثروات والمقدرات، وقد تحرم الأمَّة من حقِّها في التمثيل والتعبير.

لكنَّ الأمَّة العميقة تمثل الجذور الممتدَّة التي لا يستطيع أحدٌ اقتلاعها. تعتلُّ الأمة وتضعف، لكنَّها تبقى راسخةً في إيمانها، متمسِّكةً بأصالتها، وحين تختار الطبقة الحاكمة السير في الاتجاه المعاكس لهذه الأمَّة العميقة فسيأتي اليوم الذي تتمكن فيه الأمة من تجاوز تلك الطبقة لأنَّ الأمة هي الأعمق جذوراً والأثبت أصولاً.

twitter.com/aburtema
التعليقات (0)