كعربيّ يتابع مونديال
قطر 2022 من القارة الأوروبية،
أو كفلسطينيٍّ في الشتات، أكادُ أصابُ بالفقدِ القريب إذا صحّ التعبير، لأن
المونديال العظيم شارفَ على الانتهاء، وها هوَ يلفظ أنفاسه الأخيرة بعدما نالَ شرف
الإشادة من الكبار، في حين تناوله صغار القوم بما يتوفر لديهم من فُتاتِ العنصرية
التي ضيّعتهم وأفقدتهم شعبيةً كبيرة في العالم العربي والأفريقي والإسلامي، ذلك
العالم الذي لا يريده الغرب أن يظهرَ بمظهر المنافس الشرس الذي أرّقهم على حينِ
غفلةٍ من أمرهم، لأنهم يعتقدون أنهم الوحيدون في هذه المعمورة الذين يحقّ لهم
توزيع شهادات حُسن السلوك على الآخرين..
لن أتحدث في نثريّتي هذه عن الوحدة العربية خلال عمر
المونديال، فقد سبقني إلى ذلك الكثيرون الذين أظهروا الصورة على حقيقتها، ولن أتحدث
عن الظهور اللافت للقضية الفلسطينية التي عادت إلى أوْجِها الأول، لأنّ الأمرَ
أصبح واضحاً وضوح الشمسِ في منتصف النهار، وهو أيضاً بغِنى عن شهادتي وتزكيتي، ولكنني
سوف أعرّج على نقطتين اثنتين أضفاهما
مونديال قطر إلى الأجواء، وكانتا شيئاً
جديداً لم نألفه سابقاً داخل المربع الأخضر خلال النسخ الماضية من
كأس العالم لكرة
القدم..
كنت أظنّ الأحداث العنصرية المتفرقة التي نشهدها في أوروبا، هي مجرد حوادث حزبية ضيّقة لا تُسمن ولا تُغني من جوع، ولكنّ الحقيقة تبدّت لي جيداً خلال المونديال القطري الذي أخرجوه من أتون الرياضة إلى دهاليز السياسة، فأصبح المونديال من وجهة نظري حلبةً لصراع الحضارات، نعم صراع الحضارات
النقطة الأولى:
رغم أنني أعيش في
أوروبا منذ سبع سنوات ونَيّف، إلّا
أنني لم أكتشف قبل مونديال قطر، النظرة الدونيّة التي ينظر من خلالها الكوكب
الأوروبي إلى بلدان الشرق الأوسط، سواء أكانت عربية أم أفريقية أم غير ذلك، وكنت
أظنّ الأحداث العنصرية المتفرقة التي نشهدها في أوروبا، هي مجرد حوادث حزبية ضيّقة
لا تُسمن ولا تُغني من جوع، ولكنّ الحقيقة تبدّت لي جيداً خلال المونديال القطري
الذي أخرجوه من أتون الرياضة إلى دهاليز السياسة، فأصبح المونديال من وجهة نظري
حلبةً لصراع الحضارات، نعم صراع الحضارات، وتحديداً بين الحضارة الشرقيّة والحضارة
الأوروبية.
والدليل على ذلك هو أنّ بعضاً من المنتخبات الأوروبية
لم تتحمّل عقليّتها أن تتلقى مجرد هزيمة في ملعب كرة قدم أمام منتخب عربي أو أفريقي،
بل حاولت بشقّ الأنفس أن تدفع هذه الهزيمة وأن تنكرها، وراحت تسعى إلى إلغائها في
بعض الأحيان، وإلّا ماذا يعني أن يكشف إيميليانو مارتينيز، حارس مرمى المنتخب
الأرجنتيني، أنه اضطرّ إلى الاستعانة بطبيب نفسي للخروج من صدمة الخسارة أمام
منتخب السعودية، وتلقّيه لهدفين اثنين صاعقين في افتتاح مشوار "التانغو"
بكأس العالم 2022، في دور المجموعات؟!
ولماذا أصرّ الاتحاد الفرنسي على ضرورة إلغاء نتيجة
المباراة التي جمعت بينه وبين المنتخب التونسي خلال الجولة الثالثة من دور المجموعات في مونديال قطر، والتي فاز فيها منتخب تونس بهدف نظيف مقابل لا شيء، ورغم
أنّ المنتخب الفرنسي كان ضامناً للتأهل إلى الدور الثاني بعد هذه الخسارة، إلا أنه
مضى في اعتراضه على نتيجة المباراة لأسبوعٍ كامل. ولكنّ الاتحاد الدولي لكرة القدم
فيفا أصدر قراره النهائي وحسمَ الجدل بصحة قرار حكم اللقاء، الذي قضى بإلغاء الهدف
الفرنسي في مرمى المنتخب التونسي في الوقت البديل من المباراة التي جمعتهما في
الجولة الثالثة من منافسات المجموعة الأولى من نهائيات كأس العالم قطر 2022، وهذا
ما يُثبِت أنّ العقلية الفرنسية لم تتقبّل فكرة الهزيمة أمام تونس حتى لو وضعت
التأهل في جَيبِها، حيث كان بالإمكان أن يحتفل الفرنسيون بالتأهل وصدارة المجموعة
تاركين خلف ظهورهم نتيجة المباراة، ولكنْ..
نجحت قطر نجاحاً مُبهراً في إصرارها على التمسك بالقيم والثوابت العربية والإسلامية، أمام سيلٍ عارمٍ من الانتقادات، وذهبت أبعد من ذلك حين ألزمت الجميع بضرورة احترام ثقافة البلد المُستضيف، ولم تتذبذب أمام العنجهية الأوروبية
النقطة الثانية:
لقد نجحت قطر نجاحاً مُبهراً في إصرارها على التمسك
بالقيم والثوابت العربية والإسلامية، أمام سيلٍ عارمٍ من الانتقادات، وذهبت أبعد
من ذلك حين ألزمت الجميع بضرورة احترام ثقافة البلد المُستضيف، ولم تتذبذب أمام
العنجهية الأوروبية. وأنا هنا أسأل:
لماذا يُلزموننا نحن اللاجئين في أوروبا بضرورة الانصياع للضوابط الأوروبية التي
لا تتماشى مع ثقافتنا العربية، بذريعة أننا موجودون في بلدانهم، ولم يلتزموا هم
أنفسهم بجملة القواعد التي وضعتها قطر أمام المتوافدين إلى دوحتها لحضور مباريات
المونديال؟ ألا يُسمّى ذلك خروجاً عن القانون؟ وماذا يمكن أن نسمّي تصرّف وزيرة
داخلية ألمانيا حين تحايلت على رجال الأمن القطريين كي تُظْهِر إشارة قوس قزح على
كتفِها ضمن المدرّجات، في حين أننا كنا ننتظر منها أن تكونَ مثالاً يُحتذى في
تطبيق القانون باعتبارها وزيرةً للداخلية في ألمانيا التي طالما صدّعت رؤوسنا
بالقيم والمبادئ وتقبّل الآخرين على اختلاف أديانهم وأعراقهم وميولهم؟
هَبْ على سبيل المثال، أنّ مباراةً لكرة القدم أُقيمت
في ملعب ميونيخ الألمانية، وقام أحد المُشجّعين برفع راية حركة حماس على كتفه، وهي
راية مُحرّمة ومُجرّمة في ألمانيا، ما هي ردة الفعل المتوقعة؟ وكيف سوف يتصرف أمن
الملاعب مع هذا الشخص وما هي جُملة التهم التي سوف يواجهها هذا الشخص؟ بالتأكيد ودون
أدنى شك سوف يكون عُرضة لِتُهَمٍ جاهزةٍ ومُغلّفة من قبيل معاداة السامية ودعم
الإرهاب وتبنّي الفكر المعادي للاحتلال الإسرائيلي، تماماً كما تعاملت قناة Welt الألمانية مع المنتخب المغربي، حينما أحدثت مفارقةً عجيبة وقارنت بين رفع اللاعبين
لسبّاباتِهم، وبين عناصر تنظيم داعش الإرهابي، في محاولةٍ منها لإفقاد منتخب
المغرب شعبيّته العظيمة التي منحته مزيداً من التألق في المونديال.
لا يفوتني في حديثي عن ازدواجية المعايير الأوروبية أنّ كثيرين من الصحفيين والعاملين في مجال الإعلام في ألمانيا، فقدوا وظائفهم مباشرةً بسبب تغريدة تويتر أو منشور فيسبوك احتجوا من خلاله على سياسة الاحتلال الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني
ولا يفوتني في حديثي عن ازدواجية المعايير الأوروبية
أنّ كثيرين من الصحفيين والعاملين في مجال الإعلام في ألمانيا، فقدوا وظائفهم
مباشرةً بسبب تغريدة تويتر أو منشور فيسبوك احتجوا من خلاله على سياسة الاحتلال
الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني، تلك السياسة التي تقوم على مبدأ القتل والتهجير والحصار
والتجويع والاعتقال التعسّفي..
أتمنى ألا ينتهي المونديال، وأن يدوم طويلاً لأنه كان
درساً قاسياً لهؤلاء، فليسَ باليسير أن تجعل بلداً عربياً ينصاع لرغبات الأوروبيين،
وليس باليسير أيضاً أن تنافسَ حضارةً عربيةً ضاربةً في الجذور، ضاربةً كثيراً، وضاربةً
جداً، وضاربةً إلى وقتٍ عصيبٍ عليهم حينما كانوا غارقين في ظلامِ الاقتتال والجهل
وصفعةِ التاريخ، ولهذا فإنني أكاد أجزم بأنّ كُل واحدٍ منا نحن المَدِينين
لمونديال قطر، سوف يكون مونديالاً بحد ذاته، من خلال تمسّكه بالثقافة العربية والإسلامية،
تماماً كما تعلّمنا من مونديال قطر..