في ظل تعقيدات دولية ماثلة وصراعات عسكرية استراتيجية بالتزامن مع حروب اقتصادية أكثر ضراوة وشراسة من الحروب العسكرية، بدت
الولايات المتحدة مهرولة نحو
أفريقيا علها تعضد نفوذها العالمي وتكبح جماح خصميها، روسيا والصين، اللتين تسعيان لمد نفوذهما وتعزيز قوتهما العسكرية والاقتصادية.
فبعد 8 سنوات من القمة الأمريكية الأفريقية في 2014 في عهد الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، عقد الأسبوع الماضي التجمع الثاني لرؤساء الدول الأفارقة ورئيس أمريكي. ووجه الرئيس جو بايدن دعوة لرؤساء 49 دولة إفريقية من أجل تسليط الضوء على كيفية قيام الولايات المتحدة والشركاء الأفارقة بتعزيز وتعميق وتوسيع الشراكة الأفريقية الأمريكية. وأكدت وكالة أسوشييتد برس الأمريكية أن الإدارة الأمريكية تهدف إلى «تضييق فجوة الثقة مع إفريقيا، التي اتسعت على مدى سنوات بسبب حالة الإحباط من عدم التزام الولايات المتحدة تجاه القارة». واستثنت واشنطن 5 دول لأفريقية من الدعوة بزعم أن السلطات في 4 منها أحدثت تغييرات غير دستورية للحكومة إثر ذلك تم تعليقها من الاتحاد الأفريقي.
ولم تكن صعوبة مسعى إدارة بايدن في محاولة جديدة لبناء مصداقية أمريكية لدى الأفارقة بعد تاريخ طويل مفعم بالتجاهل والوعود الكاذبة فحسب، بل كانت في محاولتها محو احتقار سلفه دونالد ترامب للقارة لدرجة تعمد الحطّ من قدرها علنا وبدون مواربة. ولعل ترامب أكد بذلك على نظرة عنصرية مصدرها الأساسي كتاب التوراة المحرف؛ ففيه زعم بأن سواد البشرة إنما أصله لعنة نوح لابنه حام؛ ومن ثم حفدته، الأمر أسس للتفرقة العنصرية والتمييز اللوني عبر الحقب. وكل ذلك رسخت له الهجمة الاستعمارية على القارة منذ العام 1870. والأدهى أن اللعنة التي أصابت القارة الأفريقية، لكونها ثرية ثراءً فاحشا بالموارد الطبيعية فوق الأرض وتحتها، والطامعون فيها لا يرون أن إنسانها لا يستحق هذه الثروات.
وعلى ما يبدو أن مبعث الهرولة الأمريكية الحالية نحو أفريقيا ليس لأجل مواردها فحسب، إذ أن واشنطن كانت تعتقد بأن هذه الموارد لابد أن تظل كامنة في القارة لفائدة الأجيال الأمريكية القادمة، فالقارة بخيلها ورجلها مخزن موارد ضخم يجب أن يظل مغلقا ولا يفتح إلا بإذنها، لكن رياح أفريقيا لم تأت بما تشتهي واشنطن فقد سبقتها إلى المورد العذب خصماها اللدودان روسيا والصين. ورغم أن إدارة بايدن تحاول التقليل من مخاوفها المتزايدة بشأن نفوذ
الصين وروسيا في أفريقيا، وإنها فقط تحاول التركيز على جهود تحسين التعاون مع القادة الأفارقة. لكنها سبق وأن ذكرت بأنها تعتقد أن النشاط الصيني والروسي في إفريقيا يمثل مصدر قلق كبير للمصالح الأمريكية والأفريقية. وبالفعل فقد حذرت الإدارة الأمريكية أغسطس الماضي، من أن الصين التي ضخت مليارات الدولارات في مشاريع الطاقة الإفريقية والبنية التحتية والمشاريع الأخرى، ترى في المنطقة ساحة تستطيع بكين من خلالها تحدي النظام الدولي القائم على القواعد، وتعزيز مصالحها الجيوسياسية والتجارية الضيقة، وتقويض الشفافية والانفتاح.
كما ترى واشنطن أن روسيا تعتبر القارة بيئة تسمح للأوليغارشيين المرتبطين بالكرملين والشركات العسكرية الخاصة بالتركيز على إثارة عدم الاستقرار من أجل مصالحهم المالية والاستراتيجية. ومعلوم أن الإدارة الأمريكية شعرت بخيبة أمل كبيرة لأن معظم دول القارة رفضت إدانة الغزو الروسي لأوكرانيا، لكن مع ذلك لم يصرح بهذا الأمر علنًا في القمة.
وقد كشفت بيانات خدمة أبحاث الكونغرس عن حجم الهوة بين جدية استثمارات البلدين في القارة السمراء؛ إذ أبرمت الصين في 2020 وحده اتفاقيات بقيمة 735 مليار دولار مع 623 شركة، فيما بلغت قيمة 800 صفقة تجارية واستثمارية مع 45 دولة أفريقية أكثر من 50 مليار دولار العام الماضي. في المقابل أفادت البيانات بأن الولايات المتحدة استثمرت فقط 22 مليار دولار في 80 شركة في أفريقيا خلال نفس الفترة. يذكر أن الصين عقدت في 2006 مؤتمر قمة منتدى التعاون الصيني الأفريقي واعتبر أكبر نشاط دبلوماسي حجماً وأعلاه مستوى وأكثره حضوراً من حيث عدد قادة ورؤساء الدول المشاركين يُقام في جمهورية الصين الشعبية منذ تأسيسها عام 1949م، حيث حضره (35) رئيساً أفريقيا من الدول الأفريقية.
ورغم أن القارة الإفريقية لا تعتريها صراعات مسلحة حادة بمعيار واشنطن حيث يطال التهديد المصالح الأمريكية في القارة كما هو الآن الحال في الشرق الأوسط باعتبارها منطقة ساخنة لاسيما إيران والعراق وسوريا والأراضي المحتلة، إلا أن واشنطن لا تستغني عن وجود عسكري لها منظم في إفريقيا؛ فأنشأت رسميا في الأول من أكتوبر 2008 ما يعرف بالقيادة الأفريقية الأمريكية (أفريكوم)، وهي قوات موحدة مقاتلة تحت إدارة وزارة الدفاع الأمريكية ومسؤولة عن العمليات العسكرية الأمريكية وعن العلاقات العسكرية مع (53) دولة أفريقية.
ولعل القمة الأمريكية الأسبوع الماضي لم تغير شيئا في مستوى ثقة الأفارقة المتدني في السياسات الأمريكية تجاه قارتهم، فقد تعهّد بايدن باستثمار 55 مليار دولار في القارة على مدى السنوات الثلاث المقبلة، وفق تقديرات مساعديه، مع دعم طموحاتها لقيادة عالمية أكبر، وتعزيز الجهود لتحويلها إلى منطقة أكثر ازدهارًا. إضافة إلى وعد أمريكي بدعم ضم الاتحاد الأفريقي كعضو دائم في مجموعة العشرين (G20). هذا في الوقت الذي بلغ فيه الدعم الأمريكي الفعلي لأوكرانيا خلال شهور قليلة نحو 48 مليار دولار. لقد أطلق مراقبون تحذيرات للقادة الأفارقة قبيل انعقاد القمة بألا تكون مشاركتهم على الحضور فقط و»بهدف التسول»، بل يجب إحداث تأثير، وأن يضغطوا من أجل إبرام صفقة تجارة عادلة والتوصل إلى شراكة اقتصادية متينة مع الولايات المتحدة.
والسؤال الملح بقوة هو، هل يصب هذا التدافع نحو القارة في نهضتها وتطورها أم يبقى امتدادا لحقب متطاولة من النهم المنظم والممنهج لثرواتها بمساعدة الأنظمة الحاكمة الحائزة على أكبر أرقام الفاسد في العالم؟.
(
الشرق القطرية)