والكأس الذي أدمنت الرشف منه حلال، ومن الشاكلة التي قال عنها عباس محمود العقاد بعد أن ذاق محتواه: وبي سكر تملكني/ وأعجب كيف بي سكر/ رددت الخمر عن شفتي/ لعل جمالك الخمر/ نعم، أنت الرحيق لنا/ وأنت النوّر والعطر/ وأنت السحر مقتدرا/ وهل غير الهوى سحر.
وأصل الحكاية، هو أن علاقتي بالرياضة عموما فاترة كما علاقتي بعلم الرياضيات، ولم يحدث أن دخلت ملعبا لكرة القدم (استاد)، أو حتى شاهدت مباراة كاملة على شاشة طوال نحو أربعين سنة، وفي كل مجتمع هناك من يسمون بـ "كُتّاب سيناريوهات القيامة doomsday scenarists"، ومع اقتراب موعد انطلاق منافسات مونديال
قطر، تبارى هؤلاء لإطلاق نظرياتهم: كل واحد يلزم بيته خلال
المونديال لأن حركة المرور ستكون خانقة!! سارعوا لتخزين المواد الغذائية لأن مليونا ونيف ضيف قادمون وسيقضون على الأخضر واليابس!! واملؤوا ثلاجات بيوتكم بأوعية بلاستيكية تحوي وقود سياراتكم؛ لأن الاصطفاف أمام محطات البترول سيكون بالأيام.
وجاء اليوم الموعود، فإذا بالدوحة تتوشح بالحرير والضياء والورود، وإذا بنوافير الفرح تتفجر في أرجائها، وكانت زلزلة أخرجت فيها قطر حمما حميمة، نزلت بردا وعطرا على النفوس، وتفشى في شوارع الدوحة فيروس "كيوبيد22"، فانتشر الحب والمرح شديد العدوى، فعجّت الشوارع وضجت بمئات الآلاف، وجوههم على اختلاف ألوانها وأشكالها يعلوها الِبشر، وعيونهم عطشى لامتصاص الجمال والبهاء والألق "قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق".
والكأس الذي نهلت منه حدّ الثمالة وأدمنته طوال ثلاثين يوما متتالية، هو قناة الكأس التي كنت أعلم بوجودها وأنها معنية بالنشاط الرياضي، دون أن يتسنى لي متابعة ما تبثه، ثم كان المونديال، بمبارياته وفعالياتها المصاحبة التي جعلت الدوحة في حالة عرس بهيج، يتعذر الاندماج والاندغام في مجرياته على الطبيعة خلال اليوم الواحد، فقامت قناة الكأس بحل هذا الإشكال، فقد كانت شاشتها تفتح عديد النوافذ وتنقلك على بساط ريحها وبرشاقة من درب لوسيل إلى حديقة البدع، ثم البيت العربي ثم سوق واقف، ثم مشيرب ثم كتارا، و(هل رأى الحب كتارا مثلنا؟)، ثم الميناء القديم ثم درب الساعي، ثم اللؤلؤة ثم غيرها وغيرها، وذكرتني قناة الكأس بما قاله الشاعر عندما انبهر بعد ظهور المذياع (الراديو):
يطوي بك الدنيا وإنك هاهنا/ لم تنتقل وكأن رأسك يحلم
من كل أرجاء البلاد حديثه / وبكل ألسنة يتكلم
نعم، فقد كانت كوادر قناة الكأس فرسان الميدان الإعلامي، فطوال أمد المونديال كانوا موزعين على مختلف المواقع والساحات والميادين المعدة للجماهير داخل الدوحة، وعقب كل مباراة كانت الكاميرا تنتقل حسب مقتضى الحال إلى الإكوادور والدنمارك وفرنسا وبريطانيا وإسبانيا وغيرها، وجلس داخل الاستوديوهات الموزعة على عدة مواقع شباب متمكن من فنون الأداء أمام الكاميرات، يقومون بدور المايسترو الذي يربط المراسلين على الأرض؛ لإخراج رسالة إعلامية متكاملة ومبهرة، وكل ذلك بأسلوب خال من التشنج والانفعالات المسرحية التي تصاحب عادة نقل المنافسات الرياضية، فقد اتسم الجميع بروح مرحة فرحة، وكان المراسلون في الميادين يتفاعلون مع جمهور هذا البلد أو ذاك في جو من الدعابة والألفة، وهم يتحدثون بألسنة طلقة بعربية فصيحة وسليمة، ثم عامية هذا البلد العربي أو ذاك، ثم يرطنون مع الضيوف الأجانب بمختلف اللغات، ويستخلصون منهم انطباعاتهم وردود أفعالهم، أي إن المراسلين اندغموا واندمجوا في أجواء المونديال الفرائحية، فأسقطوا الحواجز بينهم وبين الجمهور الذي كانوا يستنطقونه.
سمعت المدير الأسبق لنادي أرسنال الإنجليزي يقول؛ إنه شهد وقائع 15 دورة لكأس العالم، وأنه يرى أن دورة قطر بزت وفاقت الدورات السابقة من حيث التنظيم على مستوى الملاعب، وعلى مستوى استضافة جمهور المشجعين، وأنه لا يعتقد أن دورة قادمة ستضاهي تلك القطرية، وكانت قنوات الكأس غير المشفرة المرآة العملاقة التي عكست للملايين – في العالم العربي على الأقل- كيف أن قطر كانت "قد القول" عندما تحملت مسؤولية الاستضافة، وأدت الأمانة بما فاق تقديرات أكثر الناس تفاؤلا.
وراء نجاح المونديال فرسان معلومون ومجهولون يستحقون أسمى آيات التقدير؛ فقد قدموا معزوفة هارمونية متجانسة طربت لها الأعين والآذان والأفئدة: لجنة المشاريع والإرث التي اضطلعت بتنظيم أكبر حدث رياضي في العالم، ثم تفوقت على نفسها بأن رتبت لفعاليات بديعة جمعت بين الإمتاع البصري والسمعي، وجماعة الجوازات في مطار حمد الدولي، الذين سيروا أمور خمسة آلاف قادم ومسافر في وقت واحد بنفس سهولة تسيير أمور خمسين مسافرا، وفريق الجمارك في المطار الذي امتدح القادمون والمسافرون كفاءتهم وتعاملهم المهذب والراقي مع الجميع، ورجال الشرطة والأمن الذين كانوا حاضرين وغائبين في كل مكان، أعني أنهم كانوا في كل موقع، ولكنهم حرصوا على أن يكون حضورهم ناعما "غير صارخ"، وتحقق لهم ذلك فلم تسجل وسائل الإعلام الغربية أي اضطراب أمني؛ لأن الدوحة لم تشهد حوادث العنف التي كانت ميسم المونديالات السابقة، والتي يكون أطرافها الغوغائيون الغربيون. وجماعة المرور -ما شاء الله عليهم- كانوا كعهدنا بهم مايستروات يضبطون إيقاع الحركة في الشارع، فتنساب السيارات في سلاسة.
حتى الجمهور العام من قطريين ومقيمين، كان جزءا من الملحمة المونديالية، حيث التحموا بالضيوف في الساحات وشاركوهم الحبور وعلى الوجوه ابتسامات غير متكلفة، وكنت ترى الآلاف منهم في درب لوسيل أو سوق واقف أو كتارا أو الكورنيش وغيرها، وهم محمولون على الموجات البشرية، انصهارا فيها: وكلنا في "الهوى" سوا: ويا ضيفنا لو زرتنا لوجدتنا / نحن الضيوف وأنت رب المنزل.
كنت أستشير قناة الكأس لأحدد أين أذهب، وإذا لم يتيسر لي الذهاب إلى حيث أريد، كانت قناة الكأس "تشيلني إليه وتحطني فيه"، وأحسب أن القناة تستحق كأسا خاصة على الجهد الضخم الذي بذلته لتغطية كل شيء – أكرر كل شيء- يتعلق بالمونديال وبالبيئة التي تم فيها كل شيء، وقد اكتسبت من العمل في قسم الجودة التحريرية في شبكة الجزيرة الإعلامية سنين عددا، حاسة التقاط الأخطاء في العمل التلفزيوني، ولكن سلاسة الأداء في قناة الكأس ومهارة الفريق الفني والهندسي فيها عند الانتقال من مشهد إلى آخر ،وحسن إضاءة الاستوديوهات ونقاء الصوت، عطل عندي تلك الحاسة، فجلست طوال شهر أمام شاشتها مذهولا مأخوذا، "أحدق بلا وجه وأرقص بلا ساق"، كما قال الشاعر محمد مفتاح الفيتوري في قصيدته "معزوفة لدرويش متجول".
ثم وبعد انجلاء غبار معارك المونديال الودية، صرت أعاني من "الانسحاب"، الذي هو مجموعة من الأعراض التي تظهر على الإنسان عند التوقف، أو التقليل من استخدام أو تعاطي بعض المواد النفسية أو المخدرة، أو بعض الأدوية التي كانت تؤخذ بشكل متكرر لفترات طويلة، ويصعب الاستغناء عنها؛ لأنها أصبحت جزءاً من مكونات الجسم، فقد أدمنت "الكأس" طوال الأسابيع الماضية حتى صار الجلوس منتشيا أمام القناة لساعات من الطقوس اليومية، وهأنذا ومنذ مساء الأحد 18 كانون الأول/ديسمبر الجاري، أجلس محملقا في الفراغ وأشدو بلسان شادي الخليج:
حالي حال/ حالي حال/ كيف أسوي وكيف أحتال؟!
ولكن هل من سبيل للاحتيال على مونديال بنفس روعة نسخة 2022؟
(
الشرق القطرية)