قضايا وآراء

بين شدتين

حمزة زوبع
هل أصبح أكل الدجاج حكرا على الأغنياء في مصر؟- CC0
هل أصبح أكل الدجاج حكرا على الأغنياء في مصر؟- CC0
فاجأتنا المواقع بخبر عن ارتفاع سعر كيلو أرجل الفراخ (يعني الدجاج لغير المصريين)، لم ألحظ الخبر جيدا وقلت طبيعي أن ترتفع أسعار الفراخ فقد ارتفع سعر كل شيء في الأشهر الماضية. وأصدقكم القول أنني لم ألحظ كلمة "أرجل" واعتبرت الخبر عاديا، فلا جديد وكل يوم لدينا أزمة غذاء في الأرز والخبز والزيت والسمن والسكر والشاي واللحوم والفراخ، ولكنني صعقت حين وجدت أن الخبر لا يتحدث عن الفراخ بل عن أرجلها، وهي التي اعتدنا أن يلقى بها للقطط والكلاب عند تنظيف الفراخ. فما الذي جرى وكيف تحولت أرجل الفراخ إلى سلعة غذائية يروج لها فيما يروج أنصار الجنرال للجمهورية الجديدة والتي لم يبق منها حتى الحديدة؟

عدت مستعينا بالتاريخ حتى أفهم كيف تبدأ المجاعات وكيف تنتهي، وكيف تنتهي في بلاد فيها أنهار وعيون وبحيرات ناهيك عن البحار التي تحيطها من الشمال والشرق كما الحال في مصر. كيف تبدو الأمور على ما يرام ثم وفي غفلة من عين الحكام أو في يقظة وعلى أعين الناس ينهار كل شيء، ويتحول الناس نصفهم أحياء وأشباه أحياء والنصف الآخر يبحثون عن بقايا تلك الأشباح ليأكلوها، فلم يسلم حي ولا ميت في تلك المجاعات التي حدثت في مصر -هبة النيل- صاحبة الوادي الخصيب.
كيف تبدو الأمور على ما يرام ثم وفي غفلة من عين الحكام أو في يقظة وعلى أعين الناس ينهار كل شيء، ويتحول الناس نصفهم أحياء وأشباه أحياء والنصف الآخر يبحثون عن بقايا تلك الأشباح ليأكلوها، فلم يسلم حي ولا ميت في تلك المجاعات التي حدثت في مصر -هبة النيل- صاحبة الوادي الخصيب

لذت بالتاريخ وأنا أقرأ خبر إقبال المصريين على شراء أرجل الدجاج عوضا عن شراء الدجاجة كاملة أو نصفها، مع ارتفاع سعر البيض ليصل إلى ثلاثة جنيهات للبيضة الواحدة. وما زاد من قلقي هو تصريح منسوب للمركز القومي للتغذية يشيد فيه بالقيمة الغذائية لأرجل الدجاج ويرفعها إلى مرتبة الجمبري والأستاكوزا في الأسماك، والبتلو ولحم الضأن، والدجاج الرومي والبط في الدواجن، حتى أن التصريح اشتمل على معلومات شيقة ومفيدة ومن بينها أن أرجل الدجاج تقي آكلها من هشاشة العظام وترفع مستوى المناعة وتحمي الجلد من الخشونة وتحمي من خشونة المفاصل، وربما -وهذا من عندي- تزيد نسبة الخصوبة عند الرجال وتمنحهم قوة جنسية تفوق الفياجرا، وربما يخرج علينا علي جمعة، مفتي الديار السابق واللاحق، بالقول "من أكل أرجل الدجاج طار فوق السهول والفجاج"، و"من أكل رجل دجاجة مر بسهولة من عنق الزجاجة".

عدت للتاريخ وأنا أدعو الله ألا تتكرر الشدة المستنصرية وإن كنت أستبصر بعض ملامحها في زمن الشدة الانقلابية، فوجدت المؤرخين قد كتبوا: "فلقد تصحرت الأرض وهلك الحرث والنسل، وخطف الخبز من على رؤوس الخبازين، وأكل الناس القطط والكلاب حتى أن بغلة وزير الخليفة الذي ذهب للتحقيق في حادثة أكلوها. وجاع الخليفة نفسه حتى أنه باع مقابر آبائه من رخام وتصدقت عليه ابنة أحد علماء زمانه، وخرجت النساء جياعا صوب بغداد".

ثم سألت نفسي: وهل نحتاج إلى الشدة المستنصرية لكي نأكل لحم القطط والكلاب، فنحن نأكلها بطبيعة الحال في محلات الكباب المنتشرة عبر شوارع وميادين القاهرة والمدن الكبرى، والأخبار تطالعنا منذ عشرات السنين أنه تم القبض على أكبر حاتي في القاهرة وهو يربي القطط والكلاب في مزرعة خاصة ويبيعها لزوار محله الشهير. ولا أنسى أنه في يوم من الأيام في عام 1986 تم ضبط محل حاتي شهير في شارع شبرا يبيع لحوم الحمير، ولما علمت بذلك قلت لزميلة لي في مستشفى الساحل التعليمي: أليس هذا هو المحل المشهور الواقع أسفل عمارتكم؟ قالت بلى، ولكنها ومن فرط دهشتها ورغبتها في النفي قالت لي: والله لحمه لذيذ وجميل وأنا مش مصدقة أنه لحم قطط وكلاب. وتم إغلاق المحل والزميلة ظلت تعتقد أن صاحبه مظلوم، وكنا نمازحها: ألم تشعري بتغيير في صوتك طوال هذه السنين؟!
في الشدة الانقلابية فمن يجوع هو الشعب ومن يعرى ومن يشقى هم الغلابة من هذا الشعب، ومن يتم الضحك عليه والادعاء بأن أرجل الدجاج أغنى وأسمن من أكل لحم الضأن والماعز والبتلو هم ملايين المصريين الذين يعيشون تحت خط الفقر

في الشدة المستنصرية جاع الوزراء والخليفة نفسه كما جاء في الأخبار، اضطر لبيع كل ما يملك لكي يحصل على بعض الطعام. أما في الشدة الانقلابية فمن يجوع هو الشعب ومن يعرى ومن يشقى هم الغلابة من هذا الشعب، ومن يتم الضحك عليه والادعاء بأن أرجل الدجاج أغنى وأسمن من أكل لحم الضأن والماعز والبتلو هم ملايين المصريين الذين يعيشون تحت خط الفقر، أي من لا يملكون دولارا واحدا يوميا في زمن وصل سعر طبق الكشري إلى خمسين وستين جنيها (يعني دولارين بالسعر الرسمي) وكيلو أرجل الدجاج إلى عشرين جنيها.

لا فرق يذكر بين الشدة المستنصرية والشدة الانقلابية، واقرأ معي النص التالي: "الشدة المستنصرية من أشد المجاعات التي حدثت بمصر منذ أيام يوسف عليه السلام، فقد أكل الناس بعضهم بعضاً، وأكلوا الدواب والكلاب، وقيل إن رغيف الخبز بيع بخمسين ديناراً وبيع الكلب بخمسة دنانير. كما روي أن الأحباش كانوا يتربصون بالنساء في الطرقات ويخطفوهن ويقتلوهن ويأكلوا لحومهن".

وتذكر الأخبار أن الناس قتلوا بعضهم وسرقوا الأعضاء البشرية من الفقراء ليزرعوها في أحشاء الأغنياء، وليذهب الفقراء والبسطاء إلى القبور إن وجدوها ليحيا الغني القادر، فلا قيمة للفقير الذي جاء في غفلة من الزمن، والبقاء للغني القوي الذي جاء وفي يديه معلقة ذهبية فأكل وشرب وأسرف وأتلف الكلى والطحال والكبد، ولكن بمقدوره انتزاعها من بطن فقير معدم، فهل هناك شدة أشد من انتزاع الأعضاء من أحشاء الفقراء وزرعها في بطون الأغنياء؟

لم يعد للمرء قيمة في الشدة الانقلابية، فمن لم يمت جوعا مات قهرا وكمدا، أو مات مرضا، أو مات سجينا بغير تهمة واستمر حبسه لعشر سنين دون محاكمة، أو مات وهو يحاول عبور البحار والمحيطات إلى أوروبا مع جمع غفير من الفارين من جنة الجمهورية الجديدة

لم يعد للمرء قيمة في الشدة الانقلابية، فمن لم يمت جوعا مات قهرا وكمدا، أو مات مرضا، أو مات سجينا بغير تهمة واستمر حبسه لعشر سنين دون محاكمة، أو مات وهو يحاول عبور البحار والمحيطات إلى أوروبا مع جمع غفير من الفارين من جنة الجمهورية الجديدة بحثا عن مكان أكثر آدمية في أوروبا العنصرية، أو مات بحثا عن لقمة عيش في بلد خليجي ينظر إليه نظر العبد الآبق من سيده والمستنجد بسيد آخر ليس في قلبه رحمة إلا من رحم ربي.

لا تبحثوا عن تكرار الشدة المستنصرية فتلك أيام قد خلت وانظروا إلى الشدة التي تعيشونها، والتي سيكتب عنها المؤرخون بإعجاب كيف نجا من هذا الشعب هذا العدد البسيط رغم عذابات هذه الشدة التي لا كاشف لها إلا الله.
التعليقات (0)