تبسمت ضاحكاً عندما أجابني صديقي اليساري المحترم، على
سؤالي كيف تفسر لنفسك انحيازك لانقلاب عسكري مكتمل الأركان في 30 يونيو؟ فكان
جوابه: إن 30 يونيو ثورة، وأن 3 يوليو انقلاب على ثورة 30 يونيو!
ذلك بأن إجابته لم تكن مسبوقة، على نحو كانت سبباً في
دهشتي، فقد كان هذا في وقت مبكر، وكان الجميع يقعون بين رفض 30 يونيو وما أنتجته
من أفعال، ومن يؤيدونها بدون تمييز بين 30 يونيو و3 يوليو، ومن هنا اندفعوا يؤيدون
المذابح التي ارتكبت، والدماء التي سالت!
كنت أعتبر صديقي هذا من الذين فعلوا السوء بجهالة ثم
تابوا من قريب، ودائماً لدي استعداد لالتماس العذر لمن لم يكن لديهم حرص على
استكمال المسار الديمقراطي؛ ذلك بأن أزمة القوى السياسية في عدم الانحياز لقضية
الديمقراطية، والطرف المقابل لا يملك إيماناً بها، وتمسكه بها مرده لأنه ضحية
الاستبداد، وكان موقفه سيكون مغايراً لو أن الانقلاب لم يقع عليه. ولك أن تسرح
بخيالك لو أن الانقلاب كان مثلاً ضد عمرو موسى، أو عبد المنعم أبو الفتوح، أو حتى
ضد سليم العوا، ناهيك أن يكون انقلاباً ضد مرشحي القوى الأخرى، ومن أحمد شفيق إلى حمدين
صباحي!
لأزمة أن جميع القوى لم تستوعب درس الاستبداد في عهد عبد الناصر، وما جره على الوطن من ويلات وهزائم، وعلى القوى الوطنية من قمع وتنكيل. فالذين تعرضوا لهذه المحنة لم يقوموا بالمراجعات اللازمة التي تمثل درساً للأجيال القادمة، حتى لا تقع في غواية حكم العسكر مرة أخرى
درس عبد الناصر:
فالأزمة أن جميع القوى لم تستوعب درس الاستبداد في عهد
عبد الناصر، وما جره على الوطن من ويلات وهزائم، وعلى القوى الوطنية من قمع وتنكيل.
فالذين تعرضوا لهذه المحنة لم يقوموا بالمراجعات اللازمة التي تمثل درساً للأجيال
القادمة، حتى لا تقع في غواية حكم العسكر مرة أخرى، ذلك بأن معظم هذه القوى على
اختلاف ألوانها كانت ضالعة في تأييد الاستبداد، فلم تشأ أن تكشف هذا التورط أمام
الناس، وتركوا لنا قراءة زائفة؛ مثل الادعاء أن ما فعله عبد الناصر من تنكيل
بالقوى الإسلامية مرده إلى حربه على الإسلام. أما قوى اليسار فقد غفرت له التنكيل
بها، لأنها من ناحية كانت شريكاً في الحكم، ومن ناحية أخرى لأنها انحازت لفكرة
الاستقلال الوطني، ولو كانت ستمر على أجسادهم!
ولا أدري كيف يمكن أن يكون الرد، لو تمت مواجهة رافعي
راية الإسلام بأن عبد الناصر نفسه نكّل بالشيوعيين واعتقلهم، وأن أول تعذيب وقع
بعد الثورة لم يكن من نصيب
الإخوان، وأن أول دماء أسيلت لم تكن دماؤهم، وأن عبد
الناصر يقول إنه يرفض الشيوعية الملحدة، وأن قوى اليسار كان عليها أن تعي أن
الاستبداد ينتهي بالبلاد بنفس ما يمكن أن يقع في ظل الاحتلال أو نظام خائن. وتكمن
المشكلة في أن الاحتلال وجبت مقاومته، فقد تتحرر الشعوب وتزيل آثاره، لكن الأمر
مختلف مع الحاكم الوطني!
استقوت القوى المدنية بالجيش ودعت لتحركه وعزل الرئيس محمد مرسي، وهو الأمر الذي كان يمكن قبوله من حمدين صباحي، لأنه ناصري وعبد الناصر هو في الأول والأخير ضابط جيش، وثورة يوليو 1952 قام بها مجموعة من الضباط
ومن هنا، ونظراً لأن التجربة لم تكن متاحة أمام الأجيال
الحالية، فقد تكررت الأخطاء، وأمكن للعسكر أن يلعبوا بجميع القوى السياسة
"كرة شراب"، واستقوت كل القوى بالمجلس العسكري، في فترات مختلفة، وفي فترة
بعد الثورة وقبل انتخاب الرئيس محمد مرسي تنقل المجلس العسكري بين هؤلاء وهؤلاء،
والجميع كانوا في حالة سُكر بيّن، وهم يقبلون بالدنية في ثورتهم. وقد يشفع للإخوان
أنهم كانوا يملكون مشروعاً يقوم على القدرة على الفوز بالانتخابات، فعلى أي شيء
كانت تستند القوى المدنية وممثلي أحزاب الأقلية، وهم يهرولون في كل مرة إلى المجلس
العسكري يبغون عنده العزة؟
لقد استقوت القوى المدنية بالجيش ودعت لتحركه وعزل
الرئيس محمد مرسي، وهو الأمر الذي كان يمكن قبوله من حمدين صباحي، لأنه ناصري وعبد
الناصر هو في الأول والأخير ضابط جيش، وثورة يوليو 1952 قام بها مجموعة من الضباط،
لكن كان المدهش أن يدعو الدكتور البرادعي إلى نزول الجيش!
فكيف تصور هؤلاء الأغبياء أن الجيش إذا نزل يمكن أن ينزع
الحكم من الإخوان ويقدمه "بيضة مقشرة" إلى قوى الخيبة السياسية؟! ولم
نكن بحاجة إلى تدريس ما جرى في يوليو 1952 لهم، فتجربة حكم المجلس العسكري كانت
قريبة، وقد قاد التيار المدني الهتاف بسقوط حكم العسكر، وإنهاء سيطرة المشير محمد
حسين طنطاوي على الحكم، فمن صوّر لهم أن تحت القبة شيخ؟!
إنني يمكن أن أستوعب مشاركة البعض في 20 يونيو، بل
والدعوة لانتخابات رئاسية مبكرة، وأن يذهب الشطط بأحد فيطلب عزل الرئيس المنتخب،
لكن غير المقبول هو تبرير المذابح والرقص فوق الأشلاء، والاستمرار في تأييد الحاكم
العسكري، حتى قاد البلاد إلى التهلكة، وجاء من الأفعال بما لم يفعله الاستعمار،
ومن التفريط في التراب الوطني، إلى التنازل عن حصة
مصر التاريخية من مياه، إلى
التمهيد للتفريط في قناة السويس، بعد أن دفع المصريون من لحم الحي ثمناً لتحريرها
من قبضة الأجنبي!
هذا فضلا عن حالة الإفقار التي يمر بها الشعب المصري،
والتي لا يصلح معها الخطاب المتوارث بأنه لحساب الأغنياء، فالأغنياء أيضاً مسّهم
القرح، فلا أحد في مصر الآن سعيد بالحكم الحالي، الذي يبدو أنه فقد القدرة على حل
أي مشكلة، وصار كمن يساقون إلى الموت وهم ينظرون!
الهجوم على ممدوح حمزة:
إنني أكتب هذه السطور على خلفية الهجوم الذي قام به البعض
ضد الدكتور ممدوح حمزة على خلفية إعلانه الاعتذار من الدعوة لـ30 يونيو، ضد الرئيس
المنتخب، وهو هجوم سيدفع غيره إلى الإحجام عن إعلان توبتهم، لأن زعماء منصات
التواصل الاجتماعي يرون أنفسهم أصحاب ولاية على الثورة، وعلى الشهداء، والمعتقلين،
لذا فقد اعتبروا أنفسهم جهة قبول التوبة فرفضوها، وقاموا بالهجوم على صاحبها!
أمامنا خيار آخر هو رفض التوبة من بعيد، وكأنها موجهة إلى من يعتقدون أنهم "باب القبول"، أو أنهم يؤمنون فعلاً بالديمقراطية، ولا نعرف من بين هؤلاء معتقلاً، أو من ذوي معتقل، ولا نعرف من بينهم ولياً للدم الذي تمت استباحته، إنهم أناس يناضلون في الهواء الطلق، ليبقى الحال على ما هو عليه
في الأجواء العادية كان يمكن رفض هذه الاتجاه لأنه يمثل
توبة من بعيد وبعد خراب مالطة، ولم يكن من الذين فعلوا السوء بجهالة ثم تابوا من
قريب! بيد أن الانقلاب قائم ومستمر، وأي قوى بمفردها عاجزة عن إسقاطه، فضلا عن أن
ممدوح حمزة له عذره لأنه جاء للمشهد العام في أيام الثورة، ولم يُعرف عنه أنه
اشتغل بالسياسة من قبل، ولئن قام بتأييد الحكم العسكري فقد يكون لهذا ما يبرره، لا
سيما وأنه كان واقعاً منذ أزمته مع وزير الإسكان في زمن مبارك تحت تأثير "شلة
من
الناصريين" عرف بواسطتهم الجلوس على مقهى البوابين في الزمالك، أو هكذا
كان يطلق عليه هو، لتواضع حال المقهى وتواضع حال رواده!
وأمامنا خيار آخر هو رفض التوبة من بعيد، وكأنها موجهة
إلى من يعتقدون أنهم "باب القبول"، أو أنهم يؤمنون فعلاً بالديمقراطية،
ولا نعرف من بين هؤلاء معتقلاً، أو من ذوي معتقل، ولا نعرف من بينهم ولياً للدم
الذي تمت استباحته، إنهم أناس يناضلون في الهواء الطلق، ليبقى الحال على ما هو عليه!
ولا نملك ترف أن نرفض "التائبون الجديد"، ليس
فقط لأن التوبة ليست موجهة إلينا، ولكن لأننا أمام وضع يستدعي تضافر كل الجهود،
لأن الإجابة على سؤال مَن السبب في الانقلاب تكون بسؤال: ومَن لا يريد أن يسقط
الانقلاب؟!
الإشكالية في توبة ممدوح حمزة أنها لا تأتي على قواعد الانحياز للديمقراطية، ولكن من منطلق الاستقلال الوطني، فالحكم العسكري الحالي ليس عبد الناصر، وهو النسخة الأكثر رداءة، حيث يجتمع الاستبداد مع الفشل في إدارة شؤون البلاد، فصار قطاع كبير من الناس ضده، حتى من الذين كانوا من شيعته
والإشكالية في توبة ممدوح حمزة أنها لا تأتي على قواعد
الانحياز للديمقراطية، ولكن من منطلق الاستقلال الوطني، فالحكم العسكري الحالي ليس
عبد الناصر، وهو النسخة الأكثر رداءة، حيث يجتمع الاستبداد مع الفشل في إدارة شؤون
البلاد، فصار قطاع كبير من الناس ضده، حتى من الذين كانوا من شيعته ومن كانوا
يقبلون منه الحد الأدنى؛ وهو يكفي أنه خلصنا من الإخوان!
والدور المهم هو الربط بين الاستبداد وهذا الفشل، وإذا
كان لدى العسكر في السابق بعض المقومات للحكم، نظراً لأنهم تربوا في المدارس
السياسية الوطنية، ومن حزب مصر الفتاة إلى الإخوان المسلمين، فقد فقدوا هذا الآن
تماماً، لأنهم بعيدون عن السياسة، ويفتقدون لأي مقوم من مقومات الحكم.
وهذا الربط مفيد، مع اتساع رقعة الغضب والرفض لحكم
الجنرال، على غير ما جرى مع عبد الناصر، فالعامة كانوا معه حتى وهو مهزوم في
المعارك.
مرحباً بكل تائب توبة نصوحاً، ولو كانت توبته من بعيد!
twitter.com/selimazouz1