بين كافة مناطق العالم الجيوسياسية، لا شك في أن منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، الموسّعة لتضمّ إيران وتركيا، هي أقل مناطق العالم استقراراً، وإن لم تعد أكثرها سخونة منذ أن انتقلت فوهة البركان إلى أوكرانيا بعد سنوات عديدة من التنقّل من بلد عربي إلى آخر، فضلاً عن أفغانستان: العراق، ليبيا،
سوريا، اليمن، ناهيك من الاعتداءات الصهيونية على غزّة والقتال الدائر في بعض أقاليم السودان. وقد دخلت
المنطقة العربية منذ الانتفاضة الكبرى لعام 2011 في سيرورة ثورية طويلة الأمد تسعّرها أزمة اقتصادية واجتماعية لا تني تتفاقم. وإذ فشلت موجات متتالية من النضالات الشعبية في تحقيق تغيير جذري في الأنظمة القائمة لا يقتصر على الواجهة السياسية، بل يشمل السياسات الاقتصادية وما تخدمه من مصالح خاصة بفئات وشرائح ميسورة على حساب السواد من الناس، فإن نتيجة ذلك الفشل ليست العودة إلى الاستقرار النسبي الاستبدادي الذي سبق الانفجار، بل تعاظم أسباب الاحتقان والانفجار.
فإن المنطقة برمّتها على كفّ عفريت، من المحيط إلى الخليج بضفتيه العربية والإيرانية وإلى
تركيا. وقد دخلت هذه الأخيرة منذ أكثر من سبع سنوات في حالة من الاضطراب السياسي بعد سنين من الاستقرار الناجم عن طغيان حزب العدالة والتنمية ديمقراطياً على الحياة السياسية. فمنذ أن تزعزع طغيان الحزب الانتخابي في عام 2015 ولجأ في وجه ذلك إلى التحالف مع اليمين القومي التركي وإعادة إشعال الصراع مع الحركة الكردية، ورجب طيب أردوغان يتخبّط في سياسته الاقتصادية كما في سياسته الإقليمية والخارجية في سعي محموم نحو توفير شروط فوزه المجدّد في الانتخابات المزمع إجراؤها في عام 2024. أما الجار الآخر العظيم التأثير على الأوضاع العربية، ألا وهو الحكم الإيراني، فهو يواجه منذ أربعة شهور أكبر موجة سخط شعبي عرفتها البلاد منذ تلك التي سبقت سقوط نظام الشاه قبل أربعة وأربعين عاماً.
هذا وتتلبّد السماء بالغيوم السوداء عند ملتقى النظامين التركي والإيراني في سوريا، بما ينذر بانفجار عسكري قد ينجم عن اجتياح تركي جديد للأراضي السورية، وذلك لغاية سياسية تتعلّق بترحيل قسم من اللاجئين السوريين قسراً من تركيا إلى داخل الأراضي السورية من أجل دغدغة مشاعر قسم متعاظم من الناخبين الأتراك تطوّر لديه نفورٌ من تواجد اللاجئين السوريين. فقد ينتهز الحكم التركي فرصة الإضعاف الكبير الذي أصاب روسيا من جراء عدوانها الفاشل على أوكرانيا كي يجتاح الشمال الشرقي السوري، رغم أنف النظام السوري وإيران اللذين لا يقدران على مواجهة الجيش التركي بغياب مشاركة روسية. كما يرى الحكم التركي أن الحالة الناجمة عن حرب أوكرانيا عزّزت من أهمية دوره الاستراتيجي بحيث يمكنه أن يراهن على أن واشنطن لن تضحّي بحلفها مع تركيا من أجل دعم الحركة الكردية في سوريا.
ومن جهة أخرى، أخذ الحكم الصهيوني الفاشي الجديد، الذي تألف مع بداية هذا العام، يرتكب استفزازاً بعد آخر، لاسيما جناحه الفاشي بامتياز. ويصبو هذا الأخير إلى تفجير الأوضاع في
الضفة الغربية بحيث يدفع نحو ضمّها الرسمي وطرد سكانها الأصليين الفلسطينيين، مع توسيع رقعة نفوذه في المجتمع اليهودي الإسرائيلي الذي لم ينفك يشطح نحو اليمين منذ ما يناهز نصف قرن، إذا استثنينا سنوات أوهام أوسلو القليلة. ومن شأن استفزازات الحكم الصهيوني أن تلهب النار في الضفة وقطاع غزّة، الأمر الذي يُرجَّح أن يكون له مفعول هام على الساحات الشعبية في معظم الدول العربية وبالطبع على الساحة الفلسطينية داخل حدود 1948.
أما لبنان وسوريا فهما يعانيان من أزمة معيشية وصلت إلى حدّ خطير جداً بما ينجلي في انفجارات متتالية للسخط الشعبي، تنذر بأن تتحوّل إلى انفجار معمّم كالذي شهده لبنان في عام 2019، لكنه قد يحصل هذه المرة على خلفية أزمة سياسية لبنانية عميقة في بلد باتت كافة معالم «الدولة الفاشلة» تنجلي لديه بفراغ ساطع في قمة مؤسسات الحكم. وإذا كان الوضع في الأردن أكثر تماسكاً من الناحية السياسية، فإن تفاقم الأزمة المعيشية هناك ينذر بانفجار شعبي يتعدّى بدرجات حدّة حراك عام 2018.
وفي السودان، لا يزال الصراع دائراً بين العسكر والحراك الشعبي بحيث بات من المرجّح أن يحاول أولئك حسم الوضع هذا العام بتصعيد قمعهم للحراك، الأمر الذي سيكون من شأنه تفجير أوضاع البلاد. أما العسكر في الجزائر فمستمرّون في قمعهم للحراك وكافة الأصوات الحرّة، على غرار ما يمثله الصحافي إحسان القاضي الذي تم اعتقاله في أواخر العام المنصرم. وليس مستبعداً أن تصعيد القمع من طرف سلطة جزائرية فاقدة لأي مشروعية شعبية سوف يعيد تفجير الحراك بشكل أكثر حدّة. وفي مصر، حيث تمكّن التضافر بين بطش السلطة وأزمة المعارضة أن يبقي الحال على ما يشبه الاستقرار، فإنه في الحقيقة هدوء من نوع الذي يسبق العاصفة، لاسيما أن حكم السيسي مستمرّ في الركض وراء حلول صندوق النقد الدولي الواهية، التي لا تحلّ الأزمة الاقتصادية، بل تفاقم الأزمة المعيشية بما أخذ يتعدّى قدرة الشعب المصري على التحمّل.
وفي تونس، تبدّدت الأوهام التي رافقت انقلاب قيس سعيّد على الدستور الناجم عن ثورة عام 2011 بينما يسير هو الآخر في ركاب صندوق النقد الدولي في وجه معارضة الحركة النقابية ونفور الفئات الشعبية المتواضعة والفقيرة. ومن المرجّح أن تشهد تونس في هذا العام الجديد اضطراباً سياسياً حاداً. وليس المغرب بمنأى عما وصفنا إذ تطأ الأزمة الاقتصادية العالمية على أوضاعه بشدة بما قد يؤدّي عاجلاً أم آجلاً إلى انفجار سياسي كبير يشبه حراك الريف لعامي 2016-2017، لكن على نطاق البلاد بأسرها.
وكل عام وأنتم وأنتنّ بألف خير…
(عن صحيفة القدس العربي)