قضايا وآراء

تونس.. مبادرة للإنقاذ الوطني أم مبادرة لإنقاذ الانقلاب؟

عادل بن عبد الله
ما زال اتحاد الشغل يلعب دور الوسيط لحوار يضم جميع الأطراف- الأناضول
ما زال اتحاد الشغل يلعب دور الوسيط لحوار يضم جميع الأطراف- الأناضول
مع اقتراب يوم 14 كانون الثاني/ يناير، يبدو أن تونس تتجه نحو المزيد من الاحتقان وتكريس واقع الاستقطاب بين سرديتين سياسيتين مركزيتين؛ أما السردية الأولى فهي سردية السلطة وكل المبادرات الدائرة في فلك "تصحيح المسار" والموالاة النقدية لحاكم قرطاج، وهي مبادرات تعلن منذ البدء رفضها العودة إلى ما قبل 25 تموز/ يوليو 2021 وتعترف بشرعية الرئيس، ولكنها تنتقد انفراده بالسلطة ورفضه لأي تشاركية في صناعة السياسات الاقتصادية والاجتماعية. وأما السردية الثانية فهي سردية المعارضة الجذرية التي لا تعترف بالسلطة ولا بالواقع الناتج عن إعادة الهندسة القهرية للمشهدين السياسي والاقتصادي عبر المراسيم والأوامر الرئاسية.

وإذا ما كانت "جبهة الخلاص الوطني" هي الممثل الأبرز للسردية الثانية -وبدرجة أقل تنسيقية الأحزاب الاجتماعية- فإن الاتحاد العام التونسي للشغل وشركاءه في "الرباعي" الراعي لحوار 2013؛ هم الممثل الأبرز للسردية الأولى.

وسنحاول في هذا المقال أن نفهم مبادرة الاتحاد وتموقعها الحقيقي داخل مربعات السلطة والمعارضة، وذلك من خلال تفكيك مفاهيمها الأساسية الثلاثة: الحوار، الإنقاذ، الوطنية. فنحن نؤمن بأن الفهم الأقرب للموضوعية يبدأ بالضرورة من أخذ مسافة نقدية من أنظمة التسمية، خاصة منها تلك التي هيمنت وما زالت تهيمن على إنتاج المعنى "الصحيح" لدى مكونات "العائلة الديمقراطية". فأغلب المنتمين إلى هذه العائلة كانوا واقعيا -رغم كل ادعاءاتهم الذاتية- جزءا من أدوات القمع الأيديولوجي وأجساما وظيفية في خدمة النواة الصلبة للحكم قبل الثورة وبعدها.

الفهم الأقرب للموضوعية يبدأ بالضرورة من أخذ مسافة نقدية من أنظمة التسمية، خاصة منها تلك التي هيمنت وما زالت تهيمن على إنتاج المعنى "الصحيح" لدى مكونات "العائلة الديمقراطية". فأغلب المنتمين إلى هذه العائلة كانوا واقعيا -رغم كل ادعاءاتهم الذاتية- جزءا من أدوات القمع الأيديولوجي وأجساما وظيفية في خدمة النواة الصلبة للحكم قبل الثورة وبعدها

يعلم أي متابع للشأن التونسي أن مبادرة الاتحاد للإنقاذ الأخيرة ليست أول المبادرات التي قدمتها المركزية النقابية للرئيس منذ تفعيل الفصل 80 من الدستور وإجراءات حالة الاستثناء، كما يعلم الجميع أن كل المبادرات كانت أساسا لـ"تصحيح" سياسات الرئيس وتعديل خارطة طريقه دون أي طعن في شرعية 25 تموز/ يوليو 2021، أي كانت أساسا لتوسيع قاعدة السلطة ولم تتحرك يوما خارج مربع الاستهداف المُمنهج للمعارضة الراديكالية للانقلاب. ورغم أن الاتحاد قد حرص دائما على محاورة الرئيس من موقع "الموالاة النقدية" الذي يستثني منذ البداية كل خصوم حاكم قرطاج (خاصة حركة النهضة وائتلاف الكرامة وحزب قلب تونس)، فإن هذا الأخير لم يُلق بالا لتلك المبادرات؛ معتبرا أن ما يسمونه "حوارا وطنيا" لم يكن يوما حوارا ولا وطنيا.

لقد أعلن الرئيس أكثر من مرة أن الحوار الوطني الحقيقي يكون مباشرة مع الشعب ودون الحاجة للأجسام الوسيطة، خاصة منها الأحزاب. وهو ما جسده في "الاستشارة الوطنية الالكترونية" التي أرادها منطلقا "للتأسيس الثوري الجديد" أو "الديمقراطية القاعدية". ورغم فشل الاستشارة وما تلاها من "محطات تاريخية" في الاستفتاء على الدستور وفي الدور الأول من انتخابات مجلس النواب، فإن الرئيس ما زال مصرا على استصحاب المصادرة الأساسية في مشروعه السياسي ألا وهي نهاية زمن الأحزاب. فإذا ما كانت مواجهة "الخطر الداهم" هي التعليل الدستوري لتفعيل حالة الاستثناء، فإن مواجهة "الخطر الجاثم" -أي النظام البرلماني المعدل الذي تهيمن عليه الأحزاب- كانت أساس تحويل حالة الاستثناء إلى مرحلة انتقالية تؤسس للجمهورية الجديدة؛ نظام رئاسوي بنفَس "هجين" بين السردية المهدوية والسردية الثورية.

في التحليل الأخير، فإن غاية الحوار عند الرئيس هي شرعنة مشروعه السياسي بالعودة إلى "الشعب"، ولكن التناقض الأساسي لهذا المنطق يبدأ عندما لا يكون لنتائج تلك العودة أي تأثير في التراجع عن المشروع الرئاسي أو على الأقل تعديل خارطة طريقه. ورغم وضوح هذا الأمر -أي وهم تمثيل الشعب أو الإنصات إلى إرادته- فإن الاتحاد وشركاءه يُجارون الرئيس في أن ذلك لا يطعن في شرعية 25 تموز/ يوليو ولا في مصادراته الكبرى (نهاية زمن الأحزاب والديمقراطية التمثيلية، الحاجة لنظام رئاسي، فساد المنظومة الحاكمة رغم أن الاتحاد وغيره كانوا "شركاء اجتماعيين" فيها.. الخ)، ولذلك فإن سقف تحركهم لا يتجاوز توسيع دائرة الحوار لتشملهم في مرحلة أولى، وقد تشمل بعض الأحزاب "الوطنية" في مرحلة ثانية.

غاية الحوار عند الرئيس هي شرعنة مشروعه السياسي بالعودة إلى "الشعب"، ولكن التناقض الأساسي لهذا المنطق يبدأ عندما لا يكون لنتائج تلك العودة أي تأثير في التراجع عن المشروع الرئاسي أو على الأقل تعديل خارطة طريقه. ورغم وضوح هذا الأمر -أي وهم تمثيل الشعب أو الإنصات إلى إرادته- فإن الاتحاد وشركاءه يُجارون الرئيس في أن ذلك لا يطعن في شرعية 25 تموز/ يوليو

إن الحوار من منظور الاتحاد وشركاءه هو حوار مع الرئيس وتحت سقف دستوره، وهو ما تعكسه بيانات الهيئة الوطنية للمحامين وبيانات الاتحاد ومنظمة الأعراف والرابطة التونسية لحقوق الإنسان، وغيرها مما تسمى بـ"المنظمات الوطنية". فإذا كان "الرباعي" الراعي لحوار سنة 2013 قد نجح في تغيير هيئة الحكم والانقلاب على الشرعية الانتخابية بإشراك الأحزاب، فإن السياق الجديد يفرض عليه طرح الحوار بعيدا عن الأحزاب، لكن لخدمة النواة الصلبة للمنظومة ذاتها، فهذه النواة كانت تحتاج سنة 2013 إلى الأحزاب لإعادة ورثة المنظومة القديمة إلى الحكم عبر واجهة "نداء تونس". أما السياق الحالي فإنه يتطلب مركزة السلطة في قصر قرطاج بعيدا عن رقابة البرلمان أو الهيئات الدستورية وغيرها، كما يتطلب هندسة الحقل السياسي بصورة تمنع انفلات الشارع وخروجه عن السيطرة الأمنية والدعاية السلطوية.

ولذلك فإن هدف "الحوار" هو أن يفرض على "تصحيح المسار" توسيع قاعدة السلطة، بعد رفضه القيام بأي تعديل ذاتي يجنب البلاد العودة إلى النظام البرلماني. إننا أمام مبادرة لإنقاذ النظام الرئاسي الذي طالبت به أغلب "القوى الديمقراطية" منذ أشغال المجلس التأسيسي لمنع حركة النهضة من التموقع في مركز الحقل السياسي، وهو أمر مرفوض من فرنسا ومن محور الثورات المضادة.

إن التسويات التي أدت إلى اعتماد "النظام البرلماني المعدّل" لم تكن إلا خطوة تكتيكية لشيطنة النظام البرلماني، وتهيئة الرأي العام للعودة إلى النظام الرئاسي الذي لا يمكن أن يكون المستفيد منه -بحكم موازين القوى الداخلية والتدخلات الخارجية- إلا المنظومة القديمة وحلفاؤها.

لا يمكن فهم مبادرة "الإنقاذ الوطني" إلا حين مقابلتها بمبادرة "جبهة الخلاص الوطني"، لكن مع إدراك أن كلتيهما تتحركان داخل المنظومة وليس ضدها رغم اختلاف الأطروحات. فإذا كانت جبهة الخلاص قد تشكلت بمنطق "التوافق" -أي بمنطق القبول بديمقراطية صورية تحافظ على الحريات والمؤسسات، دون أن يكون للتمثيلية الشعبية أي قدرة على المس بمنوال التنمية والنظام الريعي- فإن مبادرة الإنقاذ تتحرك هي الأخرى في فلك النواة الصلبة للمنظومة القديمة، ولكنها تطرح "الإنقاذ" بمنطق "إقصائي" هوياتي يقوم على استهداف حركة النهضة وحلفائها.

ولذلك، فإن معنى الوطنية يختلف بين الطرحين، فإذا كانت الوطنية عند "الجبهة" قد تجاوزت المحدد الأيديولوجي، فإن الوطنية عند الاتحاد تبقى محصورة في تلك "القوى الديمقراطية" الرافضة للتطبيع مع حركة النهضة والمعادية للإسلام السياسي في الداخل والخارج (أغلب مكونات اليسار والقوميين وورثة التجمع)، وهو ما يعني أن "الإنقاذ" هو إنقاذ للمنظومة الحاكمة؛ وليس إنقاذا للديمقراطية التمثيلية ولا لدستور 2014 ولا للنظام البرلماني وأجسامه الوسيطة "الضالة" (قلب تونس) أو المغضوب عليها (ائتلاف الكرامة).

رغم أن مبادرة الاتحاد هي في جوهرها محاولة لإنقاذ المنظومة الحاكمة -فهي لا تطعن في شرعية الرئيس ولا تدعو إلى انتخابات رئاسية مبكرة، وترفض إشراك الأحزاب أو اعتماد دستور 2014 مرجعية للإنقاذ- فإننا نستبعد أن يتفاعل معها حاكم قرطاج بإيجابية. فالرئيس ما زال مصرا على اعتبار نفسه بديلا لا شريكا

رغم أن مبادرة الاتحاد هي في جوهرها محاولة لإنقاذ المنظومة الحاكمة -فهي لا تطعن في شرعية الرئيس ولا تدعو إلى انتخابات رئاسية مبكرة، وترفض إشراك الأحزاب أو اعتماد دستور 2014 مرجعية للإنقاذ- فإننا نستبعد أن يتفاعل معها حاكم قرطاج بإيجابية. فالرئيس ما زال مصرا على اعتبار نفسه بديلا لا شريكا، وما زال يتحرك خارج أفق "الحوار" بحكم البنية العميقة لمشروعه السياسي (بنية مهدوية- ثورية تجعله يتحرك بمنطق رسالي لا علاقة له واقعيا بإرادة الشعب ولا بموقف النخب وانتظاراتها).

ولذلك، فإن السؤال الذي سيُطرح في المرحلة القادمة هو السؤال التالي: هل يمكن لرفض الرئيس الحوار مع "الموالاة النقدية" وإصراره على منطق احتكار السلطة وفرض الأمر الواقع؛ أن يعيد الاتحاد وشركاءه إلى مرجعية دستور 2014 مع الدعوة إلى إصلاحه؟ أم إن هذا الانسداد السياسي سيدفع بالاتحاد إلى البحث عن مخرج من داخل دستور 2022، لكن مع تصعيد الخطاب ضد الرئيس والدعوة إلى انتخابات رئاسية ستحرص المركزية النقابية على أن لا يستفيد منها إلا أحد وجوه المنظومة القديمة المعادين للثورة ولأي تطبيع مع "الإسلام السياسي"، وإن لم يكن بالضرورة معاديا للجهات المانحة/ الناهبة أو لمسار التطبيع مع الكيان الصهيوني؟

twitter.com/adel_arabi21
التعليقات (0)