قضايا وآراء

المؤشر العربي.. الدين والتديّن في الحياة الاجتماعية والسياسية

حسين عبد العزيز
فصل الأخلاق عن التدين بدا واضحا في استطلاعات الرأي- (الأناضول)
فصل الأخلاق عن التدين بدا واضحا في استطلاعات الرأي- (الأناضول)
في مجتمعات يتداخل فيها ما هو سياسي بما هو اجتماعي واقتصادي بما هو ديني وطائفي كالمجتمعات العربية، يصعب فصل الدين عن السياسة داخل المجال الاجتماعي الواسع.

ولذلك، ظلت سمة التدين مرتبطة بالعالم العربي على الرغم من عمليات التحديث والدنيوة التي تشهدها المجتمعات العربية.

لكن نتائج استطلاعات الرأي التي قدمها المؤشر العربي 2022، الذي يرأسه الدكتور محمد المصري، والصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في الدوحة، تبين أن المفهوم العام للتدين لدى المستجيبين للاستطلاع لم يعد يرتبط بذلك الشخص الراديكالي أو شديد الحفاظ على العبادات، وإنما يُفهم من التدين البعد القيمي الأخلاقي للإنسان المتدين، وهذه نقلة مهملة في فهم الدين والتدين، دون إلغاء العبادات.

باستثناء موريتانيا، عرفت أكثرية المستجيبين في كل البلدان أنها متدينة إلى حد ما.

لكن تبقى المسألة ناقصة دون تعريف التدين لدى الفئة المستجيبة، حيث تشير النتائج إلى عدم وجود توافق لدى الرأي العام العربي، فـ 38% أفادوا أن أهم شرط يجب توافره في الشخص حتى يعد متدينا، هو إقامة الفروض والعبادات، في حين رأى 28% أن الصدق والأمانة هما الشرط الأهم لاعتبار الشخص متدينا، وانحاز 15% إلى حسن المعاملة، فيما ركز 6% على صلة الرحم.

تعكس هذه النتائج تركيز أغلبية الرأي العام على سمات أخلاقية وقيمية وأساليب معاملات، بنسبة 57%.

إن عدم الإجماع على الشرط الأهم الذي يجب توافره في شخص ما حتى يعد متدينا، هو مدخل مهم لفهم ماذا يقصد المواطنون بالتدين.

على أن فصل الأخلاق عن التدين بدا واضحا في استطلاعات الرأي، حيث رفض 78% من المستجيبين مقولة "إن كل شخص غير متدين هو بالتأكيد شخص سيئ"، مقابل موافقة 18% على ذلك.

أيضا، بدا واضحا رفض الأغلبية لمقولة "ليس من حق أي جهة تكفير الذين يحملون وجهات نظر مختلفة في تفسير الدين"، ما يعني رفض المواقف الراديكالية وإعلاء للتسامح الديني.

إن أغلبية الرأي العام العربي غير متوافقة على شرط واحد يتوافر في شخص ما حتى يعتبر متدينا، وتميل إلى تأكيد القيم الأخلاقية والمعاملات بوصفها شروطا للتدين، كما لا تترجم مواقف الذين يرون أنفسهم متدينين إلى مواقف تقيمية ضد غير المتدينيين.

الدين في الحياة العامة

على صعيد تفضيل التعامل مع المتدينين أو غير المتدينين، أو لا فرق لديهم، جاء تصويت الأكثرية 59% بتأييد عدم وجود فروق لديهم في التعامل مع المتدينيين أو غير المتدينيين، فيما أفاد 31% إنهم يفضلون التعامل مع المتدينين، و 9% يفضلون التعامل مع غير المتدينيين.

إن أغلبية الرأي العام العربي غير متوافقة على شرط واحد يتوافر في شخص ما حتى يعتبر متدينا، وتميل إلى تأكيد القيم الأخلاقية والمعاملات بوصفها شروطا للتدين، كما لا تترجم مواقف الذين يرون أنفسهم متدينين إلى مواقف تقيمية ضد غير المتدينيين.
وباستثناء موريتانيا، لم تعتبر أغلبية المستجيبين في البلدان العربية تدين الآخرين أساسا للتعامل معهم، غير أن نتائج الاستطلاع في مصر والكويت بدت ملفتة للانتباه، فقد انقسم الرأي العام المصري، إذ قال 48% إنهم يفضلون التعامل مع متدينين، و44% لا فرق لديهم، و44% من الكويتيين يفضلون التعامل مع متدينين، مقابل 42% لا فرق لديهم.

وعند مقارنة اتجاهات الرأي العام في المنطقة العربية نحو تعاملهم مع الآخرين في استطلاع عام 2022 مقارنة بالاستطلاع الأول للمؤشر عام 2011، يُلاحظ أن نسبة المستجيبين الذين أفادوا أنهم يفضلون التعامل مع أشخاص متدينين قد ارتفعت من 26% عام 2011 إلى 31% عام 2022.

وترجح أسباب زيادة النسبة إلى التوتر وعدم الاستقرار الاجتماعي والسياسي في كثير من البلدان العربية التي أجري فيها استطلاع الرأي عام 2022.

الدين والحياة السياسية

جرى اختبار أثر الدين في الحياة السياسية من خلال قياس عدة مؤشرات:

1ـ انحاز الرأي العام العربي إلى مقولة "يجب ألا يؤثر رجال الدين في كيفية تصويت الناخبين" بنسبة 75%، مقابل معارضة 19%.

2ـ رفضت أكثرية الرأي العام العربي مقولة "استخدام مرشحي الانتخابات الدين من أجل كسب أصوات الناخبين" بنسبة 73% مقابل موافقة 23%.

3ـ اتفق الرأي العام العربي نحو مقولة "لا يحق للحكومة استخدام الدين للحصول على تأييد الناس لسياستها"، بنسبة 72%، مقابل 22% أيدوا ذلك.

4ـ انقسم الرأي العام نحو مقولة إنه "من الأفضل أن يتولى المتدينون مناصب عامة في الدولة"، إذ وافق 46%، مقابل معارضة 48%.

5ـ فيما يتعلق بمقولة "فصل الدين عن السياسة"، فقد انقسمت الآراء على نحو متقارب، بين مؤيد للفصل 47%، ومعارض للفصل 48%.

تُظهر النتائج السابقة أن الرأي العام العربي، وإن كان يرفض أي تأثير لرجال الدين في كيفية تصويت الناخبين واستخدام الدين للحصول على تأييد الناس لسياستها، إلا أنهم متحفظون نحو عملية الفصل بين الدين والسياسة.

ويُفسر المؤشر العربي ذلك بأن مفهوم المواطنين في المنطقة العربية لدور الدين في السياسة، لا يُقصد به دور القيم الدينية الأخلاقية، وإنما الدور العملي للدين من خلال مؤسسات دينية أو رجال دين.

لكن هذا التفسير على أهميته غير كاف، فما يزال الدين عاملا مهما في الوعي الجمعي العربي، وما تزال تُربط النهضة العربية بالعودة إلى الدين الحق لدى كثير من المواطنين.
التعليقات (1)
الاسئلة الكبرى
الأحد، 15-01-2023 05:08 ص
السؤال الكبير وتصحيح المسار أما السؤال الكبير فهو: هل من المعقول و المقبول ان يقال ان كل ما قاله واجتهد به العلماء الاوائل والمعاصرون هو من ثوابت الدين؟ وهل كل تفاصيل الحياة المعيشية الدنيوية اليوميه للنبي عليه الصلاة والسلام، واجتهادات من أتى بعده من الخلفاء والائمة والعلماء هي من ثوابت الدين؟ ان هذه الأمة في حاجة ماسة اليوم الى قراءات جديدة للتنزيل الحكيم كتلك التي قام بها بعض المفكرين المعاصرين، (ومنهم مثلا المفكر الكبير د محمد شحرور)، والتي من شأنها احداث ثورة فكرية دينية شاملة، تؤدي لتصحيح القناعات المجتمعيه للعقل العربي، والى احياء الأمة بعد سباتها الطويل. لقد انعزلت أمة العرب عن بقية امم الارض المتحضرة لمئات السنين. وكان من نتائج هذا الانعزال، انها اصبحت عاحزة عجزا شبه تام عن انتاج المعرفة. وكانت الثقافة الدينية الموروثة الخاطئة هي السبب الرئيسي في هذا الانعزال. فالموروث الديني كرس وقبل بوجود الترادف في كتاب الله، والترادف يفتقد الى الدقه. والموروث الديني رسخ فكرة القياس وجعل العقل العربي عقلا قياسيا، فهو يحتاج دائما الى نموذج او نسخة اصليه للقياس عليها وذلك يمنعه من الابتكار. والموروث الديني جعل العقل العربي مكبلا بفكرة المسموح والممنوع فهو يسأل دائما عن "حلالية" كل جديد (أي هل هو حلال ومسموح استخدامه والتعامل معه)، مما قيد انطلاقه في انتاج المعرفه. وذلك اضافة الى التناقضات الكثيرة في كتب الموروث الديني، مع ايات التنزيل الحكيم، سواء بين الطوائف المتعدده او ضمن الطائفة الواحده، مما اثر سلبا في تشكل العقل الجمعي العربي واختلاف طوائفه وتناحرها. وكان السبب الرئيسي لذلك التناقض هو قيام ائمة وعلماء المسلمين (الاوائل والمعاصرين ومن مختلف الطوائف)، بنقل اسلوب الحياة الدنيوية للنبي وصحابته، على انه جزء من الدين، واعطوا ذلك صفة القداسة والشموليه والعالميه والابديه. فكان من تنيجة ذلك ان اصبحت المحرمات بين ايدينا بالمئات بل بالالاف بدلا عن اقتصارها على الاربعة عشر محرما المنصوص عليها في كتاب الله تعالى (وهي المبينة في الايات151،152 سورة الانعام، اية 3 سورة المائده، اية 33 سورة الاعراف، اية 23 و 24 سورة النساء، اية 275 سورة البقرة)، وكلها تؤكد ان المحرمات محصورة في الايات المذكورة ولا يمكن الاجتهاد فيها، وأن الله تعالى هو صاحب الحق الوحيد في التحريم. فكل ما حرمه علماء الفقه في كتبهم خارج المحرمات الالهية المبينة في الايات المذكوره ما هو الا منهيات او محظورات لاترقى الى درجة التحريم. اننا كمسلمين (والبشرية جمعاء في كل العصور والى يوم القيامة) مأمورون باتباع النبي عليه الصلاة والسلام، في كل ما امر به او نهى عنه، من مقام الرسالة، وذلك في نطاق الاوامر والنواهي الربانيه وما يوافقها. لكن اوامر النبي عليه الصلاة والسلام ونواهيه المتعلقة بالممارسات المعيشيه اليوميه، فنحن مخيرون في الاخذ بها او الاجتهاد فيها بما ينفعنا وبما لا يخالف التنزيل الحكيم، لأنها اوامر ونواهي تحمل الصفة المدنيه ضمن نطاق حكمه المدني من مقام النبوه، وهدفها تنظيم الحلال فيما يتعلق بمجتمعه المدني ودولته المدنيه في زمانه فقط، ولا تحمل صفة الشموليه ولا العالمية ولا الابدية، باستثناء ما كان منها يتعلق بشعائر الصلاة والزكاة، حيث امرنا الله تعالى بطاعة الرسول فيهما بشكل منفرد (واقيموا الصلاة واتوا الزكاة واطيعوا الرسول لعلكم ترحمون). لقد كاد فقهاء الاسلام الاوائل والمعاصرين ان يؤلّهوا رسول الله (عليه الصلاة والسلام). وكان من نتائج ذلك أن طغت محورية الحديث النبوي المنقول، على محورية كلام الله تعالى. واصبح ينظر لاحاديث النبي وتشريعاته على انها وحي ثان مواز للتنزيل الحكيم ومطابق له في القدسية، وربما اعلى منه في بعض الاحيان. واستندوا في ذلك على تفسيرهم للاّية الكريمه "وما ينطق عن الهوى ان هو الا وحي يوحى". واعتبروا ان تفسيرهم ذلك لهذه الاية هو تفسير نهائي غير قابل للمراجعة ولا للتصحيح، رغم ان هذا التفسير للآّية الكريمة لم يصدر عن النبي، ولم يرد عنه انه قال ان كل ما يقوله هو وحي من الله. فمعظم كتب الموروث الديني ماهي الا صناعه انسانية بحته، بمعنى انها لاتعدو كونها اجتهادات بشرية قائمة على ما تم جمعه من الاحاديث (بصرف النظر كونها احاديث صحيحة او مفتراه) وفي حدود ما سمح به السقف المعرفي في العصور الاولى. أما التشريع النبوي الانساني (الصادر من مقام النبوه)، فقد كان ينحصر في تقييد المطلق او اطلاق المقيد ضمن دائرة الحلال الواسعه. فالنبي عليه الصلاة والسلام معصوم عن الخطأ من مقام الرسالة فقط، وليس من مقام النبوة (يا ايها النبي لم تحرم ما احل الله لك تبتغي مرضاة ازواجك...) – (ما كان لنبي ان يكون له اسرى حتى يثخن في الارض، تريدون عرض الدنيا والله يريد الاخره...). لقد أعطى الله سبحانه وتعالى للنبي عليه الصلاة والسلام (وللبشرية من بعده كذلك) حق الاجتهاد في التشريع الانساني الدنيوي، دون ان يجعل لذلك الاجتهاد صفة القداسة والشمولية والعالمية والابدية. وكانت تلك هي العلة الكبرى وراء كونه عليه الصلاة والسلام خاتم النبيين (أي لا نبي بعده). والا، فان البشرية كانت ستكون دائما بحاجة الى انبياء جدد. وباعطائه سبحانه للبشرية ذلك الحق في التشريع، فقد قضى بان محمدا عليه الصلاة والسلام هو خاتم النبيين. ان الحقيقة الكبرى التي غفل عنها فقهاء الاسلام قديما وحديثا هي ان الاسلام قد دشّن عصر ما بعد الرسالات، أي عصر صلاحية الانسانية للتشريع لنفسها فيما لا يخالف التنزيل الحكيم. وبغير ذلك فان البشرية كانت ستبقى دائما بحاجة الى انبياء جدد. ذلك، بالطبع، مع تسليمنا الكامل بأن كل فكر جديد هو خاضع للقبول او الرفض او التصحيح او التخطئة. ولكن لنتذكر دائما بأنه ليس كل رأي او فكر جديد هو دائما قادم من متاّمر او عدو. (كانت هذه قبسات من بعض ما فهمته من فكر المصلح العبقري الكبير الدكتور محمد شحرور رحمه الله. واعادة النشر لهذه المقالة متاح بغرض فتح باب النقاش بشكل اوسع وتعميما للفائده)