لا تخلو بعضُ المقارباتِ والأطروحاتِ من ظاهرة “الاستعجال الذَّاتي” و”التسطيح المعرفي” و”الأحكام المسبقة”، ومنها: محاولات التسليم بالمقولات الإطلاقية والأطروحات المتهافتة للفشل السِّياسي للإسلاميين، لاستنجادها بالقراءات المتسرِّعة لتداعيات نتائج
الانتخابات في العالم العربي، وكأنَّها عملياتٌ حاسمة، واحتكامٌ فعليٌّ لإرادات الشعوب في انتخابات ديمقراطية ونزيهة، تعبِّر حقيقة عن “الأحجام الفعلية” لهؤلاء الإسلاميين.
إنَّ الحضور المتميِّز للأحزاب الإسلامية كأرقام صعبة في المعادلة السِّياسية لدولها، يشكِّل ظاهرة سياسية مزعِجة للقِوى الغربية وأدواتها العربية، وهو ما فجَّر نقاشا فكريّا وسياسيّا حول ما سُمِّي “الإسلامُ السِّياسي”، والترويج لفشله والحديث عن مرحلة ما بعده، كنوع من الاستعجال التقييمي والخلل التفسيري، بالرَّغم من كونِه الضحيَّة الأولى لتزوير الانتخابات والثورات المضادَّة والانقلابات العسكرية والتدخُّلات الأجنبية.
إنَّ صندوق الديمقراطية الحقيقية في العالم العربي والإسلامي يتحدَّى فرضية “ما بعد الإسلاموية”، ويُسقط “أطروحة ما بعد الإسلام السِّياسي” عندما يكون هناك احتكامٌ نزيهٌ للديمقراطية الفعلية والمنافسة الشريفة، وتكافؤ الفرص وحياد مؤسَّسات الدولة في إدارة العملية السِّياسية والانتخابية، وتعثُّر بعض التجارب الإسلامية السِّياسية مرهونٌ بالتقييم الموضوعي الشَّامل، وعدم اختزاله في العائد الانتخابي والكمِّي فقط، إذ من الحصائل السِّلبية للأنظمة العربية، حالة العزوف واهتزاز ثقة الشُّعوب في العملية السِّياسية والانتخابية التي تُشرف عليها، وهو فشلٌ للأنظمة السِّياسية قبل أن يكون فشلا للإسلاميين.
إنَّ التعثُّر المؤقت لبعض التجارب ليس حُكما نهائيّا بفشلها الكلِّي، بل إنَّ هذه الإخفاقات الظرفية هي رصيدٌ في تراكمية النجاح الحقيقي في المستقبل، مثلما نطقت بها التجربة التركية، التي تعثَّرت لمدة 69 سنة من الإعدامات والانقلابات والاعتقالات، ولكنَّها تُوِّجت الآن بتجربة أردوغانية لا تزال ماثلة وصامدة، لأنَّ عمر الدول والشعوب أطول من عمر الأفراد والجماعات في التقييم، والنجاح أو الفشل مسارٌ لتجربة طويلة غير متوقِّف على محطة ظرفية عابرة.
لقد تمَّ استهداف علْمَنة الإسلام في العقود الماضية، والتركيز على معاداتِه وتفريغه من بُعده السِّياسي والحضاري، ومع ذلك فقد أصبح واقعا بمختلف تجلِّياته السِّياسية والمجتمعية، وفشلُ أيِّ تجربة سياسية للإسلاميين لا تعني بالضَّرورة فشل الإسلام في حدِّ ذاته، للفرْق بين الدِّين الإلهي الكامل والتديُّن البشري القاصر. ومع الانتقال السُّنَنِي للحركة الإسلامية من مئوية الصَّحوة إلى مئوية النَّهضة، عبر مشاركاتها السِّياسية العامَّة ومشارفاتها على الحُكم، فإنَّك تدرك فظاعة الاستعجال وتعميم الحُكم على فشل “الإسلام السّياسي” كفِكْر، والتحامل الكبير على التجربة البشرية للإسلاميين كممارسة، مع وجود تجارب إسلامية ناجحة يتمُّ تجاهُلها، كالتجربة الإسلامية السِّياسية في إيران وأندونيسيا وماليزيا وتركيا، ولم تُعط الفرصة الكاملة للآخرين، إمَّا بالحصار الدَّولي لها كما حدَث لحماس في فلسطين، أو بالانقلاب العسكري كما حدث للإخوان المسلمين في مصر، أو بالانقلاب الأبيض كما حدث للنَّهضة في تونس، أو بالسَّقف الملَكي لحزب العدالة والتنمية في المغرب.
ومع ذلك، فإنَّ الحركة الإسلامية مطالبة –أيضا– بتحرير الإسلام من الأطر التنظيمية الحزبية، والتسامي عن “أدلجة الدِّين وتحزيبه”، والخروج من الخطاب الدِّيني التقليدي، والتعفُّف عن مزاعم امتلاك الحقيقة المطلقة واحتكار الصواب الكامل في الاجتهاد السِّياسي، والانتقال من “الشِّعارات إلى الممارسات” عن طريق أجرأة علمية للمبادئ العامة والقواعد الكلية والمقاصد الكبرى للشريعة الإسلامية، وهيكلة الشعارات والأفكار والأطروحات في برامج تنموية عملية واقعية، وسدِّ الفجوة بين “السُّلطان والقرآن”، والانتهاء من الحالة القلقة بين الحركة الإسلامية والأنظمة الحاكمة، وهو ما يضمن استمرارية المشروع الإسلامي، وامتداده في الزمان والمكان والإنسان.
لقد تجاوز التديُّن الشَّعبي القدراتِ التنظيمية للحركة الإسلامية، وانتقلت الصَّحوة الإسلامية من الظاهرة التنظيمية إلى الظاهرة المجتمعية، وهو ما يجعل أطروحة “ما بعد الإسلام السِّياسي” تتهاوى أمام امتداد الفكرة الإسلامية شعبيّا ورسميّا، عموديّا وأفقيّا.
إنَّ استحقاقات المراجعات النَّقدية، وضرورات التجديد الحركي، وحتمية التخصُّص الوظيفي، وموضوعية التمييز بين السِّياسي والدعوي، تفرض الاعتراف بأنَّ الإسلام هو حضارة الغد، وأنَّ له قوَّةً ذاتية، وهو ما يؤهِّله للبقاء والاستمرارية مهما تعثَّرت محاولاتُ تمثُّلِه البشري سياسيّا، وأنَّ ما يقع للإسلاميين قد أحدث زلزالا فكريّا ومفاهيميّا مدوِّيّا، وهو إيذانٌ بدخول الحركة الإسلامية المعاصرة في مرحلة مختلفة، وانتقالها إلى طور جديد، وهي في مخاض لبعث آخر، تنسجم فيه “سُنَّة التجديد” مع “الحتمية النَّصية” في الحديث النبوي الشَّريف: “يبعث لهذه الأمة على رأس كلِّ مائة سنة مَن يجدِّد لها أمر دينها”.
وإذا كان هذا الاستعجال في الحكم على الإسلاميين بالفشل السِّياسي، والتبشير بمرحلة “ما بعد الإسلام السِّياسي” مجرد أطروحة جدلية عقيمة، فإنه لا تُعفى هذه الأحزابُ الإسلامية من مسؤولية مظاهر الإخفاق على المستوى النظري الفكري الجامد، وعلى المستوى العملي في الممارسة السِّياسية التقليدية، وأنَّ ضريبة باهظة ستدفعها الشُّعوب بسبب هذه التجارب المتعثِّرة على مستوى الهوية، أو على الحكم والسِّياسة، أو على مستوى التنمية والنهضة، وهو ما يفرض حتمية التجديد لجعل “المشروع الإسلامي السِّياسي” مشروعا تجديديّا وجدِّيّا، يتَّجه بالأحزاب ذات المرجعية الإسلامية إلى الاحترافية في العمل السِّياسي، وذلك بالخروج من “فقه الجماعة” إلى “فقه المجتمع”، ومن “فقه الدَّعوة” إلى “فقه الدَّولة”، ومن “الإيديولوجيا إلى التكنولوجيا”، ومن “مبدئية الصَّحوة” إلى “واقعية النَّهضة”، ومن “الصِّراع العدمي” مع الآخر إلى “التعاون مع الغير على الخير”.
وبغضِّ النظر عن جدلية النجاح والفشل السِّياسي للإسلاميين، والأسباب الموضوعية والذاتية له، والعوامل الداخلية والخارجية المؤثِّرة فيه، ومدى نسبية التقييم والتقويم لتجربتهم، فإنَّه لا يمكن تجاوزُ هذه الصُّورة الدراماتيكية التي وصلوا إليها في أغلب الأقطار، وتحديدا: العربية منها من الناحية السِّياسية، وخاصة بعد تعثُّر ثورات الربيع العربي، وحالة تراجعهم فكريّا وتنظيميّا وانتخابيّا وسياسيّا ومجتمعيّا، وهو ما سيُلقي بظِلاله على الشُّعوب، ومن ذلك: ضياع أمل تغيير أنظمة الحكم القائمة، وتضييع فرصة الأنموذج الناجح البديل في تحقيق التنمية والاستقرار، وثمن الرمزية في الانتقال المروِّع من النموذج المثالي للإسلاميين إلى الصورة الواقعية عنهم، والهوَّة الكبيرة بين التجربة الدعوية والممارسة السِّياسية لهم، والصَّدمة العنيفة للانتقال الديمقراطي واستحقاق الحرية معهم، والفجوة الخطيرة بين تديُّن الهوية والعبادات وتديُّن القيم والمعاملات فيهم، والالتباس الغامض بين الصورة المثالية عن الإسلام والتجربة البشرية عنهم، وهو ما سيؤخِّر المشروع السِّياسي الإسلامي الحاملَ لوعود الاستئناف الحضاري للأمة من جديد.
(الشروق الجزائرية)