كتاب عربي 21

الملائكةُ والشياطينُ

محمد هنيد
لن تكون الثوراتُ التي هزت المنطقة العربية الأخيرةَ بل إنها موجة من موجات التغيير التي ستتجدد حتما اليوم أو غدا  (الأناضول)
لن تكون الثوراتُ التي هزت المنطقة العربية الأخيرةَ بل إنها موجة من موجات التغيير التي ستتجدد حتما اليوم أو غدا (الأناضول)
هي المقولة التي تتأسس عليها أغلب البنى السياسية والفكرية وخاصة الأيديولوجية للأحزاب والأفراد، حيث يرى المتكلم نفسه مالكا للحقيقة محيطا بها قابضا على رقبتها. إنها ثنائية الملاك والشيطان أو ثنائية الخير المطلق والشر المطلق التي تحكم منطق الخطاب السياسي ومنطق تعامل الجماعات الفكرية العربية مع بعضها البعض. يدّعي المتكلم أنه يملك الحقيقة المطلقة وأن مخالفه على ضلال مبين يوجب إلغاءه والتخلص منه.

الإقصاء والشيطنة والتخوين والتكفير ومحاكم التفتيش الفكري هي المبدأ السائد في العلاقات بين النخب العربية والجماعات الفكرية ومجاميع التنظير السياسي. فالإسلاميّ عدو لدود للقومي واليساري والعلماني واللبرالي. أما اليساري فعدو للإسلامي والقومي واللبرالي وكذا القومي بالنسبة للآخرين. لا توجد في الوعي الفكري للنخب مكانة لحق الاختلاف أو لمقولات النسبية أو حتى احترام الرأي الآخر، فلا مكان لمساحة قد تتقاطع فيها الرؤى وتلتقي فيها الأفكار ويتجاوز فيها المتكلم أناه المنتفخة وكبرياءه السقيم.

حصاد الثورات

ما تقدّم من إقرار هو خلاصة لعشر سنوات من الثورات عرفت فيها الشعوب العربية واحدة من أخطر التجارب الانتقالية التي تراوحت القراءات فيها بين كونها مؤامرة أطلسية حسب جماعة المقاومة والممانعة من جهة وأنها من جهة مقابلة مسار ثوري لم يكتمل كما يرى الآخرون المحسوبون على التيار الثوري خاصة من الإسلاميين ومنتسبي التيار اليميني المحافظ عامة.

لقد فشلت الثورات وأُجهضت من الداخل لا من الخارج أساسا. لقد فشلت لأنها لم تكن تملك شروط نجاحها الداخلية وأهمها وجود نخب سياسية وفكرية وثقافية وأكاديمية قادرة على تحويل القوة الانفجارية الشعبية إلى مشروع انتقالي يقطع نهائيا مع عودة الدولة الاستبدادية وحكم الفرد الواحد خارج بنية المؤسسات.

لقد فاجأت الثورات النخبَ السياسية والفكرية التي غلب عليها سلوك التقاتل والتنازع والإقصاء وانقسمت إلى ملائكة وشياطين حسب موقع المتكلم من المعركة. تقاتلت النخب ولم تنجح في الاتفاق على الحدّ الأدنى الممكن من أجل بناء مشروع انتقالي قادر على منع تجدد الدكتاتورية وحكم دولة العصابات. اعتبر الإسلاميون أنفسهم الوحيدين القادرين على خلافة الاستبداد بفضل ثقلهم الشعبي وثقة الجماهير في نظافة يدهم لكنهم لم يدركوا أن ذلك كله لم يكن كافيا بل لم يدركوا أن الدولة العميقة كانت أعمق مما يتصورون.

من جهتها اعتبرت قوى اليسار أن الإسلاميين عدوّ لدود لا بد من التخلص منه ولو كلفهم ذلك التحالف مع الدولة العميقة التي كانوا في الحقيقة أحد أذرعها الضاربة. أما القوميون والأحزاب الدائرة في فلكهم فقد كُلفوا بمحاربة الثورات نفسها بعد أن نجحوا في الاندساس داخل التيار الثوري والتحدث باسم الشعب والقوى الشعبية مستفيدين من شعارات فلسطين رافعين ألوية المقاومة والممانعة.

على صعيد آخر كانت الأحزاب والنخب المستقلة وخاصة منها الليبرالية المحافظة منشغلة بإعادة التموقع داخل الخارطة السياسية والفكرية الجديدة محاولة تدارك الحرمان الذي فرضه عليها الاستبداد أو استعادة المواقع التي كانت لها أيام تحالفها مع الدكتاتوريات نفسها.

إن الإقرار بأن النخب التي تصدرت المشهد خلال السنوات العشر الماضية أو قبلها تتحمل أكبر قسط من المسؤولية في فشل المسار الانتقالي يمثل هو أيضا خطوة في الاتجاه الصحيح لأن محاولة وضع مسؤولية الفشل على المؤامرات الخارجية لا يعدو أن يكون سعيا فاشلا إلى الهروب من المسؤولية التاريخية.
بناء على هذه المنوالات الموزعة على كامل الطيف الفكري والسياسي العربي من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار كان فشل الثورات أمرا متوقعا بعد أن وفرت النخب المتقاتلة فرصة كبيرة لتمكين الخارج من التدخل في مصير الثورات ومساراتها. لم تكن القوى الدولية قادرة على فرض أجنداتها على الدول العربية أنظمة وشعوبا ونخبا لولا تفكك الجبهة الداخلية بفعل الصراعات والدسائس والمؤامرات.

إن ما حدث في تونس وليبيا مثلا نموذج صارخ عن فشل النخب السياسية في تحصين الجبهة الداخلية ومنع القوى الخارجية من توجيه مسار البلاد. في تونس تقاتل الإسلاميون والقوميون واليساريون واللبراليون والمستقلون أمام الشاشات وعلى الأثير وتحت قبة البرلمان وفي الكواليس حتى انهار الاقتصاد واستشرت الأزمة وكره الناس السياسة والسياسيين، وجاء من وضع يده على السلطة كلها وألقى بهم في العراء. في ليبيا كان المشهد أكثر دموية فقد تمترس كل فريق وراء المدرعات والدبابات منتصرا بهذا الحليف الخارجي أو ذاك حتى صارت البلاد رهينة القرارات الدولية ولا تعلم إلى أين سينتهي بها المطاف.

المواسم الجديدة

قد لا يكفي التشخيص المرّ بل إن حالة الجسد المريض قد تستوجب اقتراح بعض الحلول الممكنة التي قد تقود إلى تبين مخارج من النفق الطويل المظلم. إن الإقرار بمرارة الحصاد والاعتراف بفشل الطور الأول من مسار التغيير خلال السنوات العشر الماضية يمثل خطوة أولى على مسار بناء وعي جديد يقر بالمسؤولية الذاتية في ما آلت إليها تحولات المشهد السياسي والاجتماعي العربي.

ثم إن الإقرار بأن النخب التي تصدرت المشهد خلال السنوات العشر الماضية أو قبلها تتحمل أكبر قسط من المسؤولية في فشل المسار الانتقالي يمثل هو أيضا خطوة في الاتجاه الصحيح لأن محاولة وضع مسؤولية الفشل على المؤامرات الخارجية لا يعدو أن يكون سعيا فاشلا إلى الهروب من المسؤولية التاريخية.

لن تكون الثوراتُ التي هزت المنطقة العربية الأخيرةَ بل إنها موجة من موجات التغيير التي ستتجدد حتما اليوم أو غدا لأنها سنّة كونية وقانون أزلي يحكم المجتمعات والشعوب والأمم. لذا فإن المسؤولية الفكرية تلزمنا الاستعداد لهذه الموجة الجديدة عبر رصد أسباب فشل الموجات السابقة من أجل منع تجدد الانتكاسات والانكسارات بفعل نفس الأسباب.

إن قانون الملائكة والشياطين الذي يحكم منطق الخطاب السياسي للنخب العربية يعدّ أحد أهم العقبات في طريق منع انكسار محاولات البناء والتغيير. إنه المنطق الذي دمّر كل أمل في بناء خطاب سياسي عقلاني مسؤول يقطع مع تطرف الأيديولوجيا السياسية ويحارب طاعون الأحقاد الشخصية والأوهام الفردية وعنصرية الأنا المنتفخة التي تحكم عقل المثقف العربي البائس.

"رأيك خطأ يحتمل الصواب ورأيي صواب يحتمل الخطأ".. هي القاعدة الفكرية الممكنة التي يمكن التأسيس عليها من أجل بناء جيل جديد من النخب الفكرية القادرة على القطع مع الإرث الموبوء للنخب القديمة التي ترفض مغادرة المشهد وإن هي غادرته فإنها لن تخلف غير الخراب والدمار كما فعلت للثورات التي ذهب ضحيتها خيرة شباب الأمة.
التعليقات (3)
الكاتب المقدام
الخميس، 19-01-2023 08:46 م
*** -3- ومن ناحية أخرى فمن يستيقظ فجراً في تونس ويؤم احد جوامعها، سيجد أغلبية الشعب التونسي، يزدحمون لصلاة الفجر في مساجدها، كما سيرى النساء التونسيات المتطهرات الكاسيات، يسرن على استحياء مفتخرات بسمتهن الإسلامي، والتيارات الإسلامية التونسية، تهمل في غالبيتها هؤلاء العلمانيون الفجرة في تونس، ولا ينادون باستئصالهم، ورغم ذلك لم يسلموا من تلفيق القضايا لهم، وإلقائهم في المعتقلات دون جريرة، وقتلهم بتهمة الإرهاب، وكما يعترف الكاتب بكون الإسلاميين هم الأغلبية بالمعنى الغربي الديمقراطي بقوله: "اعتبر الإسلاميون أنفسهم الوحيدين القادرين على خلافة الاستبداد بفضل ثقلهم الشعبي وثقة الجماهير في نظافة يدهم"، فَلِمَ يكون عليهم أن يرضوا بأن يمسخوا هويتهم ويغيروا دينهم، إرضاءً للقلة الحاقدة عليهم الرافضة لهم، من التونسيين العلمانيين المتطرفين المطالبين بحصر الإسلام في التكايا، وإبعاد الإسلاميين قهراً وعنوةً، واستئصالهم بكاملهم عن إدارة شئون البلاد والمجتمع، ولعل ذلك لا يكون مقصد الكاتب بقوله: "من أجل بناء جيل جديد من النخب الفكرية القادرة على القطع مع الإرث الموبوء للنخب القديمة التي ترفض مغادرة المشهد."، فلا تعاون يؤمل مع هؤلاء الاستئصاليون المجرمون، وشعب تونس العزيز علينا، المتمسك بهويته، والذي لا يتنصل عن إرثه، الذي لا يقبل الضيم، والذي قاد ثورات الربيع العربي على الظلم والاستبداد والتغريب، ما زلنا نبني عليه آمال عريضة في أن يستكمل مسيرته الرائدة بإذن الله، والله أعلم بعباده. (وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى? تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ. قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى. وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ. مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ. (120).
الكاتب المقدام
الخميس، 19-01-2023 08:41 م
*** -2- وبورقيبة هذا هو من سن للتونسيين قانوناً للأسرة مخالفاً لأحكام دينهم، الذي رأى فيه أحكاماً شرعيةً رجعيةً متخلفة، ووضع لهم قانوناً عصرياً مزعوماً على غرار القانون الفرنسي العلماني المتماهي مع الكاثوليكية، الذي يجرم فيما يجرمه الزواج باثنتين، وفرنسا تلك التي يريد تقليدها البورقيبيون، هي التي تعترف بزواج الرجل للرجل، وتراه مكرمة يجب أن تحترم، وتجرم معارضي الشذوذ بدعوى العنصرية، وهي التي تتعدد علاقات فتياتها الجنسية في المدارس، حتى أن نصفهن يصبن بالأمراض الجنسية في مراهقتهن، كما أن ربع فتياتها في الجامعات يتعرضن للاغتصاب في حرم الجامعات، وهن مغيبات تحت تأثير السُكر، ولا يسلم معهم نسبة كبيرة من ذكور طلابها من الاغتصاب على يد الشواذ، ورئيسهم ماكرون لم يسلم هو نفسه من الاغتصاب وهو طفل على يد مُدرسته في مَدرَستِه الكاثوليكية، وهي للمفارقة سيدة فرنسا الأولى اليوم بعد أن تزوجها، كما يقف ماكرون مع سيدة فرنسا الأولى بافتخار واعتزاز ملاصقين لصديقيهما الحميمين: الذكر كرافييه بيتل رئيس وزراء لوكسمبورج مع زوجه الذكر غوتييه كريستيان ديستيناي (ولا نريد أن نعلم من منهما يقوم بدور الذكر، ومن منهما يقوم بدور الأنثى)، كما كُشفت آلاف من حالات الاغتصاب للأطفال من قساوستها، الذين حولوا كنائسهم وأديرتهم الكاثوليكية إلى مواخير لممارسة الاغتصاب والجنس الحرام مع الراهبات، كما شهدت بذلك عديدات منهن، وبصمت وتكتيم من القيادات الدينية في الفاتيكان، ويندر أن تجد من الفرنسيات من لا يتخذن لهن عشيقاً بجانب زوجها، ومن الرجال المتزوجين بنساء من يعددوا بعلاقات شاذة مع رجال مثليون، ولا يجدون من ينتقد أفعالهم، فهذه هي الحرية التي يعشقها العلمانيون التونسيون، ويسيرون على نهجها، مستمرئين الحرام، كارهين للحلال، مناصبين العداء لمن يتطهرون من الإسلاميين.
الكاتب المقدام
الخميس، 19-01-2023 07:13 م
*** -1- التونسيون: انطباعات أولية: أول ما يصدم الزائر العربي لتونس هو انتشار الخمارات المكتظة بالرواد (حانات تقديم الخمور) في شوارع عاصمتها، وهي شبيهة في انتشارها ودورها الاجتماعي، بالمقاهي في المدن العربية والإسلامية الأخرى، كأماكن لالتقاء أبناء الأحياء السكنية، وهو أمر مستغرب في بلدٍ كل سكانها من المسلمين، وبعد جلاء الفرنسيين عنها، هُجرت كل ما كان فيها من كنائس الأجانب المنتشرة وسط مدنها وتُركت خاوية، بالإضافة لمعابدٍ قليلة يهودية في قلب عاصمتها، والأمر الصادم الآخر هو تجول بائعات الهوى علناً في شوارعها، فدور البغاء مصرح بها في قوانين تونس إلى اليوم بدعوى تشجيع السياحة، ويكتشف الزائر لها، بأنه قد تم إلغاء الجمعة كإجازة أسبوعية، واستبدل بها إجازة السبت والأحد اقتضاءً بالكاثوليك منذ أحقاب طويلة، يضاف لذلك انتشار صحفها ومجلاتها المكتوبة بالفرنسية بين المتحدثين بها من التونسيين دوناً عن العربية المهجورة، وقد يفسر وجود تلك الطبقة التونسية العلمانية المتفرنسة المتغربة، فترة الاحتلال الفرنسي المباشر الطويلة لها، والتي طالت لأجيال منذ غزوها عام 1881 إلى 1956، مع استمرار فرنسا في كونها وجهةً أولى لهجرة الشباب التونسي إليها، وتوجه أبناء الطبقات التونسية الغنية المترفة للدراسة في جامعاتها، والأدهى أن أول رئيس لها بعد الاستقلال هو بورقيبة، الذي حكمها حكماً استبدادياً مطلقاً بعد الاستقلال، الذي كان يجاهر بإفطاره في رمضان علناً، ويدعو التونسيين لترك فريضة الصيام جهرةً وعنوةً برعاية حزبه العلماني المتفرنس، وفي قلب عاصمتها تونس يمتد أهم شوارعها، المسمى شارع البحرية سابقاً، الذي تم تغييره إلى شارع الحبيب بورقيبة، وأهم معالمه، هو تمثال ضخم في أهم ميادينه، منصوباً على قاعدة ضخمة عالية، مشيد عليه صنم لبورقيبة، وهو يعتلي صهوة جواده، ناظراً باستعلاء إلى مريديه واتباعه من التونسيين، الذين ما زالوا يخصونه بالزيارة والإجلال، ويطوفون حوله ويتمسحون به، علهم ينالون من بركاته.

خبر عاجل