كتب

نساء فاعلات في تاريخ الغرب الإسلامي.. قراءة تاريخية

كتاب يعرض لنماذج نسوية مختلفة من صاحبات الأدوار الفاعلة في المجتمع بالمغرب الإسلامي
كتاب يعرض لنماذج نسوية مختلفة من صاحبات الأدوار الفاعلة في المجتمع بالمغرب الإسلامي
الكتاب: دور المرأة في الغرب الإسلامي من القرن الخامس هجري إلى منتصف القرن السابع هجري
الكاتب: كرراز فوزية
دار النشر: دار الأديب للنشر والتوزيع
عدد الصفحات: 166 صفحة


1

يمكن التأريخ للحضارات من زوايا مختلفة، من زاوية الحُكم وتدبير الشأن العامّ أو من العلاقات الدولية وقضايا الاقتصاد وما يصاحبها من الأعمال الحربية. ولكن الباحثة كرراز فوزية آثرت أن تؤرّخ للغرب الإسلامي من زاوية مختلفة. وقدّرت أن تدرس وجهه الحضاري والاجتماعي عبر منزلة المرأة فيه والأدوار المختلفة التي اضطلعت بها في القرون الوسطى الإسلامية. ولعلّ مأتى أهمية هذا الأثر من كون الموضوع ظلّ مهملا لا ينال حظه من الدّراسات رغم الإشارات المتناثرة في المصادر التّاريخية إلى بعض النساء ممن حظين بالمكانة الاجتماعية أساسا. وكانت أخبارهن ترد في شكل ملحقات تردف إلى أخبار الرّجال خاصّة.

يعرض الكتاب نماذج نسوية مختلفة من صاحبات الأدوار الفاعلة في المجتمع، حاولت الباحثة من خلالها أن "تدحض الانطباع السائد عن المرأة باعتبارها من أوضح الأمثلة على وضعية القهر الاجتماعي بكلّ أوجهها ودينامياتها ودفاعاتها في المجتمع، وترد علميا على القائلين بقصورها وعجزها" وفق غازي مهدي جاسم الشّمري.

2

وتمتدّ المرحلة التّاريخية المدروسة من القرن الخامس هجري إلى منتصف القرن السابع هجري (ق 11م ـ 13م). وتعود أهميتها إلى اعتبارها نقطة تحوّل في التّاريخ السياسي للغرب الإسلامي. فقد قامت سلطات سياسية محلية مستقلة عن الخلافة المركزية بالمشرق الإسلامي، واعتمدت أجهزة الحكم على عناصر بربرية محض، كما في حكم الأدارسة والأغالبة والرّستميين والمرابطين.

عن منهجها لدراسة دور المرأة في هذا الجناح الغربي من العالم الإسلامي ابتداء من ليبيا الذي يصطلح عليه قبل المؤرخين المحدثين بالغرب الإسلامي، تقول الباحثة: "حاولنا استخدام المنهج التّاريخي التّحليلي بالعودة إلى المادّة التّاريخية، محاولين التّطرق لأدوار المرأة بنوع من التّفصيل مع تحليل الأوضاع، التي سمحت لها بالظهور من عدمه". ولا تنكر  في الآن نفسه اعتمادها المنهج المقارن عند البحث في صورتي المرأة المغربية بالمرأة الأندلسية، أو اكتفاءها بالوصف في الحالات الاجتماعية.

3

تقدّر الباحثة أنّ المرأة المغربية غائبة في المصادر التّاريخية عامة، وهذا ما جعلها تواجه جملة من الأسئلة تردّ أولها إلى المرأة نفسها. كأن يعود هذا التّغييب إلى عدم اضطلاعها بأدوار ذات شأن تكون جديرة بأن يذكرها التاريخ. ويتعلّق الثّاني بالكتابات التاريخية إن وجد مثل هذا الدور. ولأن المصادر تضن بالمعلومة التاريخية، ولّت الباحثة فكرها شطر كتب التراجم والمناقب وكتب النوازل وكتب الجغرافيين ودواوين الشعر وشروحها، لتجعل أثرها في ثلاثة فصول هي دور المرأة السياسي والعسكري ودور المرأة العلمي ودور المرأة الاجتماعي والاقتصادي ومكانتها. وتحاول أن تحبّر فراغات هذه المصادر.

4

تنتهي الباحثة إلى أنّ المرأة اقتحمت المجال السياسي. ويكون ذلك غالبا من وراء ستار، كأن تكون حبيبة مالكة لجماع قلب الرّجل أو أمّا حانية تسعى إلى أن تدعم حكم ابنها وأن وترسّخه. ويتجلّى دورها في الإسهام في بناء أجهزة الدولة برأيها أو بمالها. وتذكر من النساء الفاعلات أخت ثالث أمراء الزيريين باديس بن منصور (ت 406)، السيدة أم ملال بنت المنصور بن يوسف الصنهاجي. فقد كان أخوها يشركها في تدبير أمره ويأخذ برأيها لرجاحة أفكارها. ومن وجوه حكمتها إخفاء خبر موت ابنه عنه لمّا كان يواجه بني حمّاد حتى لا يؤثر الخبر فيه فيكون وبالا على سلطة حكمه، أو إرسالها لهدية جليلة لأخت الخليفة الفاطمي بمصر لتوطيد علاقة أخيها بالفاطميين وتأكيد الولاء لهم، مستغلة إرسال باديس مائة فرس بسروج محلاة إلى الحاكم بأمر الله. وتعرض نموذجا آخر من البلاط الأندلسي. فخلال النّصف الأول من القرن الخامس هجري كان المعتصم العامري يتلقى الأموال الكثيرة من أمه حتى يستعيد أمجاد العامريين.

لعل الحضور النسوي بدا أكثر جلاء مع المرابطين، فقد كان لنساء لمتونة منزلة في البلاط وحرية حياة ورثنها من ماضيهنّ في الصحراء. فتذكر المصادر أنّ زينب النفزاوية، وهي ابنة أحد التجّار من أصل قيرواني، "قد كانت لبيبة ذات رأي وعقل وجزالة ومعرفة بالأمور حتى وصفت بالسّاحرة". فيذكر ابن خلدون أنها كانت زوجة ليوسف بن علي بن عبد الرحمن بن وطّاس شيخ وريكة وهزرجة في دولة أمغارن في بلاد المصامدة. ثم زوجة لقوط بن يوسف المغزاوي. ولمّا افتتح المرابطون بلاد المصامدة وقُتل قوط تزوج أبو بكر بن عمر منها.

وتورد الباحثة عن ابن عذاري المراكشي في البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب، أنْ "قد شاع ذكرها وأمرها في قبائل المصامدة وغيرها، فكان يخطبها أشياخهم وأمراؤهم فتمتنع وتقول لهم: لا يتزوجني إلا من يحكم المغرب كلّه". ثم تزوجها يوسف بن تاشفين سنة 463 "فسرّت به وسرّ بها، وأخبرته أنه يملك المغرب كلّه. فبسطت آماله، وأصلحت أحواله وأعطته الأموال الغزيرة، فأركب الرّجال الكثيرة، وجمع له القبائل أموالا عظيمة [هكذا]، فجنّد الأجناد وأخذ في جمع الجيوش من البربر والاحتشاد.. بنفسه وبتدبير زوجته زينب في كلّ يوم مع أمسه.." وتسهب في ذكر النّماذج التي تبرز ما للمرأة من تأثير في أروقة الحكم، ثم تعرض دورها في تولية المناصب كاختيار ولي العهد وتقديم المشورة السّياسية وتقديم الدّعم للجيوش.

5

وتجد الباحثة حضور المرأة لافتا في الحياة العلمية والثّقافية. وتردّه إلى الازدهار الحضاري الذي عرفه الغرب الإسلامي. وترصد إسهامها في الحياة الأدبية، بما تجود قريحتها من أشعار أو بما تلهم به الشعراء فتكون موضوعا لإبداعهم. ولكن تكاد تقصر الأمر على  ذوات المكانة الاجتماعية منهن. فأم الكرام مثلا نظمت الشعر والموشّح، ولكنها مثلت امتدادا لإبداع متأصل في أسرتها، فوالدها ليس إلا المعتصم أمير ألميرية وابناه رفيع الدولة ورشيد الدّولة من شعراء العصر بدورهما. ومن الطّبيعي أن تكون ولّادة بنت المستكفي على رأس القائمة لصلتها بعشاقها ومناكفاتها مع ابن زيدون خاصّة. فمن لطيف شعرها قولها لما علمت أنّ ابن زيدون يعشّق جارية لها: [لو كنت تنصف في الهوى ما بيننا - لم تهو جاريتي ولم تتخيّر][ وتركت غصنا مثمرا- وجنحت للغصن الذي لم يثمر] [ولقد علمتَ بأنني بدر السّما- لكن ولعت لشقوتي بالمشتري]. ومن بلاط بني عبّاد بإشبيلية تذكر الرّميكية زوجة المعتمد بن عبّاد، التي لم يعشقها ويتزوجها إلا لما لمس منها من الإبداع. فقد شاركت زوجها معظم مجالسه الأدبية. وتضيف المصادر ابنتها بثينة دون أن تحفظ شيئا من نظمها.

المرأة اقتحمت المجال السياسي. ويكون ذلك غالبا من وراء ستار، كأن تكون حبيبة مالكة لجماع قلب الرّجل أو أما حانية تسعى إلى أن تدعم حكم ابنها وأن وترسّخه. ويتجلّى دورها في الإسهام في بناء أجهزة الدولة برأيها أو بمالها.
من الجواري اللواتي نظمن الشعر، تذكر غاية المنى جارية ابن صمادح والعبادية جارية المعتضد التي تقدمها مصادر الكراز على أنها "كانت أديبة ظريفة كاتبة شاعرة ذاكرة لكثير من اللغة". وتلاحظ أن النّساء نظمت شعر الغزل خاصّة رغم ذكرها لأبيات في المدح والتكسّب، وأنّ بعضهنّ بلغن قدرا كبيرا من الجرأة وتستشهد بقول ولّادة المشهور: [أنا والله أصلح للمعالي_ وأمشي مشيتي وأتيه تيها] [وأمكّن عاشقي من صحن خدّي_ وأعطي قبلتي من يشتهيها]

6

ويمثّل الدّين مجالا أثيرا منح المرأة المكانة بين الرّجال. فقد فسح لها مجتمع قبيلة نفوسة الإباضي (في المنطقة الشمالية الغربية ليبيا) المجال في الحياة الدينية، وأشير إلى صاحبات العلم بصفة الفقيهة أحيانا. وفي المصادر أنّ الناس كانوا يجتمعون إلى إحداهنّ يستفتونها في أمور الدين فتجيبهم. وكان لها مصلى تختلف إليه.  والطريف أنهم كانوا يطلقون صفة العجوز للإشارة إلى المرأة العالمة الفقيهة نظيرا لصفة الشيخ.

ولم يكن الأمر يختلف كثيرا عند المذهب السّني في المغرب والأندلس. وتذكر الباحثة أسماء كثيرة لنساء عرفن بالعلم والورع شأن حفصة بنت الفقيه أبي عمران بن حماد الصنهاجي (ولدت في 519)، وزينب بنت عباد سرحان (ت 580). فعرف على الكثير من هنّ حفظ القرآن والزهد والإيثار. ومن أسماء الزّاهدات تذكر عائشة المنوبية التي أخذت علوم اليقين عن الشيخ الصوفي أبي الحسن الشاذلي، وختمت القرآن 1520 مرّة. ولكنّ الوحيدة التي أطلق عليها لقب فقيهة هي "خيرونة الأندلسية". وفضلا عن إسهام المرأة في الحياة الدينية فقها وتصوّفا، كان لها دوره بارز في التّعليم.

وتلاحظ الباحثة أنّ ظهورها الثقافي والعلمي اقتصر على العلوم النّقلية، خاصّة منها الأدب. فبرزت المرأة الأندلسية الشاعرة في الفرن الخامس، وبرزت المرأة المغربية في علوم الدين خاصّة بعد إلزام الموحدين الجميع بالتّعلّم. ولم تجد في مصادرها ما يشير إلى إسهام المرأة في العلوم العقلية باستثناء امرأتين من أسرة بني زهر المشتهرة بالطّبّ.

7

من البديهي أن تختلف أدوار المرأة باختلاف الطّبقة التي تنتمي إليها، لما بين المكانة الاجتماعية والدّور الاقتصادي من التّفاعل. فامرأة الطبقة الخاصّة كانت تحظى بالجواري والخدم، لذلك تفرغت إلى أدوار أخرى غير الاهتمام بشؤون البيت، ولابن حزم تخريج لا يخلو من التّعسّف في هذا. فيذكر "أنهن متفرّغات البال من كل شيء، إلا من الجماع ودواعيه والغزل وأسبابه والتأليف ووجوهه، لا شغل لهن غيره ولا خلقن لسواه". ولكن مباحث عديدة بيّنت مدى انفتاح نساء الطبقة الحاكمة على مشاغل السّياسة والثّقافة، فيما انشغلت أخريات بتديّنهن وصرفن عنايتهن إلى الأعمال الخيرية. والأمر نفسه يمكن أن ينسحب على نساء الطبقة الوسطى، وإن بإشعاع أقل. ولكن الأمر سيختلف في طبقة العامة خاصّة ضمن مجتمع ذكوري أقرب إلى الأمية.

تمنح الأدوار المهمة في تدبير شؤون العائلة في هذه الطّبقة إلى الأب خاصّة وإلى الرّجل عامة. ولن تحظى المرأة بغير دور هامشي. بالمقابل سيتضاعف دورها في إعالة الأسرة على اختلاف بيئتها، فقد شاركت الرّجل في خدمة الأرض ورعاية الدّواب. أما في المدينة، فامتهنت الحِرف العديدة وزاولتها في المنزل وشاركت في البيع والشراء. وقد عرف الأديب أبو بكر بن عيسى الداني (ت 507) وأشقاؤه مثلا، بأبناء اللبانة لاشتغال أمهم ببيع اللبن.

يبقى هذا الدور محلّ تقييمات مختلفة، بين من يرى في ذلك إسهاما فاعلا من المرأة في الحياة الاجتماعية والأسرية، ومن يراه ضربا من الاجحاف في حقها، وفق الدّارسة. ولكن في الأحوال جميعا، تمتعت المرأة في الغرب الإسلامي، سواء في جنوب المتوسط أو في شماله، بقدر وافر من حرية الحركة؛ كالذهاب إلى والمساجد. والمشاركة في الجنائز والاستسقاء وارتياد الأسواق.

7

لقد بذلت الباحثة جهدا محمودا في التّوثيق وجمع المعلومات وفي التّصنيف لتقدّم لنا صورة عن امرأة المغرب الإسلامي في التاريخ الوسيط على قدر من النصاعة والوضوح. فأبرزت أنها تبوأت الأدوار الفاعلة. وتشابه إسهامها، سواء كانت في الأندلس أو في بلدان المغرب، وسواء انتمت إلى المذهب السني أو الإباضي أو الشيعي؛ فكانت تسهم في الحياة العامة بطريقة مباشرة معلَنة حينا ومن وراء ستار حينا آخر. ولكن رغم كثرة الأمثلة التي عرضتها، يطرح السؤال عن مدى صلاحية النّماذج المدروسة لتعميم نتائجها على صورة المرأة في المغرب الإسلامي عامة.
التعليقات (0)