الجهادية العالمية والحرب الروسية الأوكرانية

بعد التحولات السريعة في المجال الجيوسياسي الدولي وعودة التنافس بين الدول إلى صدارة المشهد العالمي، لم تعد الجهادية العالمية تجذب الانتباه إليها، رغم أنها حققت تقدماً وتمددت في مناطق عديدة، وأصبح الاهتمام بملف الإرهاب في مرتبة متدنية على سلم الأولويات. وقد ساهمت الحرب الروسية في أوكرانيا بتهميش سردية الإرهاب ومخاطرة على السلم والأمن الدولي، لكن ملف المقاتلين الجهاديين الأجانب بقي حاضراً، وتنامى الحديث عن موقف الجهادية العالمية تجاه الحرب في منطقة جغرافية نائية في شرق أوروبا، ومدى إمكانية الانخراط في الحرب الدائرة.

ورغم استغلال الجهادية العالمية للحرب للترويج لأفكارهم وتصوراتها، فقد اختلفت أنظارها في ومواقفها بتعريف طبيعة الصراع والتنبؤ بمآلاته وإمكانية المشاركة إلى جانب أحد الأطراف. وقد اشتد الخلاف بين الجهاديين بعد مساندة الرئيس الشيشاني رمضان قديروف للرئيس الروسي فلاديمير بوتين وإرسال مقاتلين للقتال ضد الأوكرانيين.

غم استغلال الجهادية العالمية للحرب للترويج لأفكارهم وتصوراتها، فقد اختلفت أنظارها في ومواقفها بتعريف طبيعة الصراع والتنبؤ بمآلاته وإمكانية المشاركة إلى جانب أحد الأطراف. وقد اشتد الخلاف بين الجهاديين بعد مساندة الرئيس الشيشاني رمضان قديروف للرئيس الروسي فلاديمير بوتين وإرسال مقاتلين للقتال ضد الأوكرانيين

تنامى الجدل حول الجهادية العالمية والمقاتلين الأجانب بعد بث تسجيل مصوّر ظهر فيه قائد جماعة "أجناد القوقاز"، رستم آزييف، المعروف بـ"عبد الحكيم الشيشاني"، على جبهات القتال في أوكرانيا، وتكاثر الحديث عن الجماعات الجهادية الأجنبية في شمال غربي سوريا واحتمالات مغادرة سوريا والانخراط في ساحات القتال الجديدة شرق أوروبا.

ففي السابع من كانون الثاني/ يناير الحالي، نشر جهاز المخابرات الأوكرانية تسجيلاً مصوّراً لمقاتلين شيشانيين من بينهم قائد جماعة "أجناد القوقاز"، عبد الحكيم الشيشاني، على جبهات مدينة باخموت شرقي أوكرانيا، وقال إن المتطوعين الشيشان، كجزء من الفيلق الدولي، يواصلون الدفاع عن أوكرانيا في النقاط الساخنة بالجبهة، ومن بين المتطوعين عبد الحكيم "بطل شعب إيشكيريا" الشيشانية، الذي تقاتل فرقته ضد الروس.

لم يغادر عبد الحكيم الشيشاني إدلب السورية إلى أوكرانيا وحيداً، فقد اصطحب معه في تشرين الأول/ أكتوبر 2022، نحو 25 عنصراً من جماعته، وذلك بعد التنسيق مع مجموعات عسكرية من كتيبة "الشيخ منصور" الشيشانية، التي تقاتل إلى جانب القوات الأوكرانية ضد الروس، إضافة إلى كتيبة "جوهر دوداييف"، وهي مجموعة من المعارضين لرمضان قاديروف وبوتين. وكانوا في طليعة الفيلق الدولي عندما اندلعت الحرب الانفصالية في منطقة دونباس الأوكرانية في عام 2014، حيث شهد الإقليم تدفقاً لأعدادٍ كبيرة من المرتزقة والمغامرين والعنصريين البيض الراغبين في تقديم خدماتهم العسكرية والأمنية في الصراع الدائر.

وقبل بدء الهجوم الروسي الأخير على أوكرانيا في شباط/ فبراير 2022، ترددت شائعات بأن عدداً من المتطوعين السوريين يستعدون للتوجه إلى أوكرانيا للمشاركة في القتال إلى جانب الأعداد الكبيرة للمقاتلين الأجانب الموجودين سابقاً.

منذ اندلاع الحرب حاولت أطراف الصراع بناء سردية حول طبيعة المعركة، فبعد يومين من بداية الغزو الروسي، وجه الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، نداءً للمتطوعين الأجانب للانضمام إلى الفيلق الدولي الذي تم تشكيله حديثاً. وسرعان ما حظيت دعوته بدعم رئيس الوزراء الدنماركي ميت فريدريكسن ووزيرة خارجية المملكة المتحدة (حينها) ليز تروس التي أعلنت أن معركة أوكرانيا هي معركةٌ من أجل الحرية، ومن أجل "أوروبا بأكملها".

السردية الروسية هدفت إلى تحويل الغزو العسكري الروسي لأوكرانيا إلى حرب "وجودية" ضد "المتطرفين"، من النازيين واليمينيين والجهاديين، والسردية الأوكرانية أردت تحويل الحرب إلى معركة وجودية في سبيل الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان ضد الدكتاتورية

لكن الحماسة الدنماركية والبريطانية لم تجد صدى لدى أعضاء حلف الناتو الآخرين؛ الذين تحفظوا في منح المتطوعين الأجانب تفويضاً شبه رسمي للانضمام إلى الفيلق الدولي. وفي المقابل، شجع الرئيس فلاديمير بوتين المقاتلين الأجانب على الانضمام إلى ما أسماها "الحرب ضد النازية الجديدة".

ومن الجلي أن مسألة المقاتلين الأجانب كانت تستخدم لتعزيز بناء السرديات المتقابلة، فتعداد المقاتلين في القوات المسلحة الروسية يبلغ 900 ألف مقاتل، وتعداد المقاتلين في القوات المسلحة الأوكرانية يبلغ 700 ألف مقاتل، فضلاً عن جنود الاحتياط في البلدين. فالسردية الروسية هدفت إلى تحويل الغزو العسكري الروسي لأوكرانيا إلى حرب "وجودية" ضد "المتطرفين"، من النازيين واليمينيين والجهاديين، والسردية الأوكرانية أردت تحويل الحرب إلى معركة وجودية في سبيل الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان ضد الدكتاتورية.

موقف الجهادية العالمية من سرديات الحرب الروسية الأوكرانية انقسم حسب تعريف العدو والصديق، وهي مسألة حاسمة في تحديد الاختلافات والانقسامات والتصنيفات الجهادية. فتنظيم الدولة الذي يشدد على دمج الأبعاد المحلية والعالمي كان واضحاً؛ في افتتاحية العدد 328 من صحيفة النبأ الأسبوعية الصادرة عن ديوان الإعلام المركزي، وقد عنون مقالته الافتتاحية بـ"حروب صليبية صليبية" وجاء فيها: "ما يجري اليوم من حرب دموية مباشرة بين الصليبيين روسيا وأوكرانيا ما هو إلا مثال على هذه العقوبة المسلطة عليهم الملتصقة بهم، وهي ترجمة لحالة التنافس المتصاعد بين أمريكا وروسيا على السيطرة على دول أوروبا الشرقية، وأن هذه الحرب الروسية الأوكرانية طالت أو قصرت ما هي إلا بداية وتوطئة للحروب الصليبية الصليبية المقبلة، فما نراه اليوم في أوكرانيا الصليبية سيمتد إلى عواصم صليبية أبعد وأعمق حاولت لسنوات أن تنجو من ذلك".

لم يكن موقف تنظيم الدولة من الحرب الروسية الأوكرانية شاذاً، فقد تبنى معظم منظري الجهادية ذات الموقف، وكتب أبو محمد المقدسي: إن كلاً من روسيا وأوكرانيا "صليبيون وكفار" وتمنى أن يؤدي الصراع إلى تدميرهما، وقال: هي "حرب نأمل أن تغرق وتحرق كل من يشن الحرب على أمتنا ويحتل بلادنا ويقتل إخواننا المسلمين ويضطهدهم في كل مكان." وقال لاحقاً إن المسلمين لا يمكن أن يقاتلوا مع أوكرانيا أو روسيا لأن كليهما يحكمهما "الطاغوت" ولأن الرئيس الأوكراني، فولودمير زيلينسكي، يهودي، ولأن البلد الذي يمثله شارك في غزو العراق في 2003. وتابع: "يجب على المسلمين في روسيا وأوكرانيا أن يتجنبوا المشاركة بأي قتال تحت راية الطواغيت والحكومات الكافرة، وأن ينأوا بأنفسهم عن هذا القتال ولا يكونوا وقوداً لمعارك ليست معركة الإسلام"..

أما تنظيم القاعدة فلم يصدر عن مؤسسته الإعلامية السحاب أي إعلان رسمي، وهو ما يُظهر حالة انحدار التنظيم المركزي في أفغانستان وغياب الإجماع حول خلافة أيمن الظواهري، ولذلك انقسم الموالون للقاعدة حول الموقف من الحرب الروسية الأوكرانية حسب تعريف العدو والصديق، ووفق المصالح والمفاسد، وعلى أسس إقليمية.

فقد نشرت "الفجر" وهي مؤسسة إعلامية موالية للتيار القاعدي في سوريا، على تيليغرام في 28 شباط/ فبراير2022، منشوراً يحض المسلمين على ألا يدعوا لانتصار أوكرانيا على الروس على اعتبار أن الطرفين لا يختلفان عن بعضهما، ودعت إلى حرب طاحنة من الصين إلى أمريكا.

وفي المقابل، دعت مجموعات من أنصار القاعدة ينتمون إلى القوقاز وآسيا الوسطى؛ إلى المشاركة في القتال ضد روسيا، فمجلة "المجاهدون في الغرب"، دعت في عددها الثاني الصادر في 22 شباط/ فبراير الماضي؛ "حراس التوحيد" الجهاديين إلى الإعداد للجهاد ضد الروس وإلى "انتهاز الفرصة، وبدء الغزوات في القوقاز" على أساس أنه "لم تكن أمريكا الوحيدة التي قصفت سوريا".

أما أنصار أولوية الجهاد المحلي فقد تباينت مواقفهم، وكانت هيئة تحرير الشام وأنصارها بحكم تعريف عدوهم بالروس وحليفهم النظام السوري؛ مواقفها واضحة بالانحياز إلى جانب أوكرانيا ضد روسيا، فقال مظهر الويس، القيادي في هيئة تحرير الشام، في 25 شباط/ فبراير الماضي: "بدأت الحرب على أوكرانيا، ونسأل الله أن يكسر الصلف الروسي ويخزي بوتين وجنده، وأن ينصر المستضعفين المظلومين في كل مكان". ولاحقاً دعا إلى أن تتخذ أوكرانيا "النموذج السوري" وأن تأخذ زمام المبادرة لتلقين الدب الروسي درساً لا ينساه، وأن تحذو حذو الشعب السوري الذي صمد لسنوات دون التفات لمشاعر الخيبة والخذلان.

وقال أبو مارية القحطاني إن "المسلم في أوكرانيا إن أخلص النية لله بمواجهة مجرمي الروس وكسر شوكتهم فهو مأجور وإن قتل فهو شهيد". وبرر انحيازه لأوكرانيا بأن "من مصلحة المسلمين أن تنكسر شوكة الروس الذين أجرموا في عدة بلدان مسلمة وآخرها في الشام". وفي 26 شباط/ فبراير الماضي، قال القحطاني إنه "لا يحل للمسلمين الشيشان مناصرة روسيا المجرمة في قتال الأوكران، وعلى المسلمين في الشيشان أن لا يسيروا خلف قديروف في مناصرته لبوتين، فروسيا قتلت آلاف المسلمين وما زالت تقتلهم. تقوية روسيا في اوكرانيا هو تقوية للمجرمين". ودعا لجعل "أوكرانيا مقبرة لجنود بوتين ومن يناصره".

كشفت الحرب الروسية الأوكرانية أن الحركات الجهادية تختلف مواقفها وأولوباتها على أسس إقليمية، وأن الأيديولوجيا تعمل وفق السياقات المختلفة، فالحركات الجهادية الإقليمية المناهضة لروسيا من آسيا الوسطى والقوقاز كانت مواقفها واضحة

كشفت الحرب الروسية الأوكرانية أن الحركات الجهادية تختلف مواقفها وأولوباتها على أسس إقليمية، وأن الأيديولوجيا تعمل وفق السياقات المختلفة، فالحركات الجهادية الإقليمية المناهضة لروسيا من آسيا الوسطى والقوقاز كانت مواقفها واضحة. وقالت جماعة "جنود الشام" التي يقودها أبو الوليد الشيشاني في إدلب وتتألف من مقاتلين شيشان؛ إن "كثيرا من الجهاديين الشيشان في إدلب يريدون أن يكونوا جزءاً من المقاتلين المسلمين المشاركين في القتال ضد روسيا في أوكرانيا". ويمكن فهم مواقف جهاديي القوقاز ووسط آسيا، الذين فقدوا ملاذاتهم الآمنة في مناطقهم وبات نشاطهم في بلدانهم يقتصر على يعض الخلايا النائمة، وهم يأملون باستمرار الحرب لإعادة تنشيط خلاياهم ومواصلة القتال من جديد، واستغلال انشغال الجيش الروسي في جبهة أوكرانيا.

في ظل المواقف الصريحة لتنظيم الدولة ومعظم فروع القاعدة بعدم التدخل في الحرب الروسية الأوكرانية، فإن الحديث عن دور المقاتلين الجهاديين الأجانب وتكرار سيناريو أفغانستان لا يتمتع بالمصداقية والواقعية، لكن مجاهدي القوقاز وآسيا الوسطى لهم مواقف مختلفة تجاه الحرب باعتبارها فرصة يمكن من خلالها إعادة تفعيل أنشطتهم ضد روسيا، وهي مشاركة لا تُحدث فارقاً في الحرب، لكنها مهمة لهم.

ومع الصعوبات التي تعاني منها هذه المجموعات في سوريا، تمثل جبهة أوكرانيا فرصة سانحة. ومن أهم هذه المجموعات "جنود الشام" التي يقودها أبو الوليد مسلم الشيشاني، وقد سبق لهذه المجموعة خوض الحرب ضد روسيا، وتتألف المجموعة بشكل أساسي من مقاتلين شيشان وقوقاز وأوزبك وطاجيك؛ بالإضافة إلى عناصر لبنانية وسورية. والمجموعة الثانية هي "كتائب التوحيد والجهاد"، وهي جماعة جهادية تتألف من مقاتلين أوزبك بقيادة عبد العزيز الأوزبكي، والمجموعة الثالثة هي "كتائب الإمام البخاري"، وتتألف من مقاتلين بقيادة أبو يوسف المهاجر، والمجموعة الرابعة هي "كتائب جند المهدي" وتتألف من مقاتلين تتر وباسكمن تتارستان وبشكبرستان..

دور الجهادية العالمية وتكرار سيناريو أفغانستان لا ينطوي على أي مصداقية، لكن المفارقة أن سيناريو مغاير قد ينشأ عن الحرب، بتنامي اليمينية المتطرفة والنازية الجديدة، فحالة عدم استقرار أوكرانيا تمنح متطرفي التفوقية البيضاء الإمكانات ذاتها التي وفّرها انعدام الاستقرار في أفغانستان والعراق وسوريا، فقد أصبح الصراع في شرقي أوكرانيا مركزاً دولياً لاجتذاب عناصر التفوقية البيضاء، وهذا السيناريو هو ما يقلق أمريكا وأوروبا

خلاصة القول أن الحديث عن مشاركة مقاتلي الجهادية العالمية في الحرب الروسية الأوكرانية لا يعدو عن كونه صراعاً على السرديات، فالفيلق الدولي الذي أعلن عن تشكيله الرئيس الأوكراني غالبيته من النازيين الجدد واليمينيين المتطرفين، ورغم أن مسؤولين أوكرانيين ذكروا أن نحو 20 ألف شخص من أكثر من 50 دولة مختلفة قد تطوعوا للقتال في أوكرانيا، لكن التقارير تشير إلى أن الغالبية العظمى منهم عادوا إلى بلدانهم. ولذلك فإن ملف المقاتلين الأجانب جاء في سياق سرديات الحرب، فأوكرانيا تصور الصراع الدائر حالياً على أنه نضال عالمي من أجل الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، في مواجهة لنظام الروسي الاستبدادي، بينما روسيا تستغل مسألة المقاتلين الأجانب لتبرير سرديتها أن الحرب هي لحماية العالم من النازية.

بصرف النظر عن توظيف السرديات المتضاربة للروس والأوكران، فإن الحديث عن دور الجهادية العالمية وتكرار سيناريو أفغانستان لا ينطوي على أي مصداقية، لكن المفارقة أن سيناريو مغايرا قد ينشأ عن الحرب، بتنامي اليمينية المتطرفة والنازية الجديدة، فحالة عدم استقرار أوكرانيا تمنح متطرفي التفوقية البيضاء الإمكانات ذاتها التي وفّرها انعدام الاستقرار في أفغانستان والعراق وسوريا، فقد أصبح الصراع في شرقي أوكرانيا مركزاً دولياً لاجتذاب عناصر التفوقية البيضاء، وهذا السيناريو هو ما يقلق أمريكا وأوروبا بعدة هؤلاء لاحقاً إلى بلدانهم ومباشرة أنشطة إرهابية.

twitter.com/hasanabuhanya