قضايا وآراء

الإنسان في القرآن.. الرضى عن النَّفسِ مهلكة (13)

أحمد أبو رتيمة
ينهى القرآنُ النَّاس عن مدحِ أنفسِهم- الأناضول
ينهى القرآنُ النَّاس عن مدحِ أنفسِهم- الأناضول
بينما يحبُّ النَّاسُ أفراداً وجماعاتٍ المدح والثناءَ وتشيعُ فيهم طريقةُ تمجيدِ الذات وإظهارِ مناقبِها وعدِّ إنجازاتِها، فإنَّ القرآنَ يتخذُ وجهةً أخرى وهي تأكيدُ منهجِ الشُّعورِ بالتقصيرِ ومقاومةُ الميلِ الإنسانيِّ إلى الإحساسِ بالرضى، وإبقاءُ النفسِ في حالةِ سعيٍ دائمٍ إلى التزكيةِ والاستزادةِ في الخيرِ دون ركونٍ إلى أعمالِها.

ينهى القرآنُ النَّاس عن مدحِ أنفسِهم: "فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى".

ويقرِّر القرآنُ أنَّه ليس لأحدٍ من الناسِ على الإطلاق فضلٌ إلا برحمةِ الله، فلا يغترَّ أحدٌ أنَّ فضائله هي طبعٌ أصيلٌ فيه مستحقٌّ له: "وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ".

لو كان لأحدٍ من النَّاسِ أن يزكِّي نفسَه فإنَّ الأحقَّ بذلك هم الرسلُ صفوة الخلقِ، ومع ذلك لم يرض لهم القرآنُ إلا أن يبقوا في حالةِ الخشوعِ والإشفاقِ واتِّهام النَّفس وإظهار الافتقارِ إلى عفوِ الله ومغفرتِه.

لو كان لأحدٍ من النَّاسِ أن يزكِّي نفسَه فإنَّ الأحقَّ بذلك هم الرسلُ صفوة الخلقِ، ومع ذلك لم يرض لهم القرآنُ إلا أن يبقوا في حالةِ الخشوعِ والإشفاقِ واتِّهام النَّفس وإظهار الافتقارِ إلى عفوِ الله ومغفرتِه

والقرآنُ يتعاملُ مع الرسولِ محمد صلى الله عليه وسلَّم في مرحلتين زمانيَّتين ونفسيَّتين؛ في بداية دعوته حين كان فرداً ضعيفاً وفي نهاية أمره حين دخل مكةَ غالباً ظاهراً، وفي كلتا الحالتين يذكِّره القرآنُ بالحذرِ من الاستكثارِ والبقاءِ في حالة الاستغفارِ، والاستغفارُ يعني عدمَ رضى الإنسانِ عن عملِه وشعورَه بالتقصير.

في بداية دعوتِه في سورة المدثر: "وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ".

وفي نهاية دعوتِه بعد أن جاء نصر الله والفتح: "فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ".

وما بين هذين الحدَّينِ يذكِّر القرآنُ الرسول محمداً على نحوٍ متكرِّرٍ بفضلِ الله وامتنانِه عليه، وتذكُّرُ فضلِ الله ورحمتِه هو دواءُ الإعجابِ بالنفسِ ونسبةِ الفضائلِ إليها.

- "وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ (..) وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً".

- "فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ".

وفي مثالِ إبراهيم الذي اتخذَه اللهُ خليلاً وجعلَه للنَّاسِ إماماً، وهاجرَ إلى ربِّه وجاءه بقلبٍ سليمٍ وأسلم لأمرِ ربِّه بذبحِ ابنِه، ومع كل هذه الفضائل لأبينا إبراهيم عليه السلام إلَّا أنَّه لم يركن إلى ذلك وبقيَ في حالةِ افتقارٍ ورجاءٍ في دعاءِ الله: "وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ".

وحفيده يوسف عليه السلام بعد أن نجح في كلِّ مراحل الابتلاء وصبَرَ وكان من المحسنين لم يقل عن نفسه إنَّه من الصالحين، إنما كان طامعاً أن يُلحِقَه الله بالصَّالحين: "تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ".

هذه هي الحالةُ التي يزكّيها الله تعالى في القرآنِ أن يبقى الإنسانُ في حالةٍ دائمةٍ من الافتقارِ والخشيةِ والإشفاقِ، وألا يغرَّه عملُه ولا يركنُ إلى فضائل نفسِه.

يقولُ القرآنُ في سورة المؤمنون:

- "إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57)"..

- "وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)".

حالة "الوجل" والشعور بالتقصيرِ ليست مرتبطةً باقترافِ الذنوبِ، بل مرتبطة بارتفاع وعي المؤمنِ وشفافيَّتِه، فيبصر الفجوة الواسعةَ بين الغايةِ العظيمةِ التي يقصدُها وبين عملِه الصَّالحِ فيستقلّ عمله بالنسبة لعِظَمِ الغاية

سألت عائشة الرسول محمَّداً صلى الله عليه وسلَّم عن تفسيرِ "وَالَّذِينَ يَأْتُونَ مَا أَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ"، هل هو الذي يذنب الذنب وهو وجل منه؟ فنفى الرسول عليه الصلاة والسلام هذا المعنى وأجابَ بأنَّهُ الرَّجُل يَصُومُ وَيُصَلِّي وَيَتَصَدَّقُ وَيخافُ أنْ لا يُقْبَل مِنْهُ.

حالة "الوجل" والشعور بالتقصيرِ ليست مرتبطةً باقترافِ الذنوبِ، بل مرتبطة بارتفاع وعي المؤمنِ وشفافيَّتِه، فيبصر الفجوة الواسعةَ بين الغايةِ العظيمةِ التي يقصدُها وبين عملِه الصَّالحِ فيستقلّ عمله بالنسبة لعِظَمِ الغاية..

وهذه الآياتُ من سورةِ المؤمنون تتضمَّن قانوناً، فالذي يعملُ وقلبُه في حالةِ وجلٍ فإنَّ النتيجة تكونُ في الدنيا أنَّه يسارعُ في الخيراتِ ويسبق: "أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ".

هذه الآيةُ تبيِّن لنا مقصد إشادةِ القرآنِ بموقفِ الذين لا يشعرون بالرضى عن أنفسِهم، فالإشفاقُ والوجلُ يُحدثُ حالةً من التوتر الذي يدفع النَّفسَ إلى المسابقةِ والمسارعةِ.

ونحن نعلم هذا المعنى في أمثلةِ الحياةِ، فالطالب إذا شعر بالأمانِ الكاملِ لم يذاكر للامتحانِ فيرسب، بينما الطالب المجتهد عادةً يكونُ في حالةِ توترٍ داخليٍّ ولا يرضى عن جهدِه فيدفعَه ذلك إلى مزيدٍ من السعيِ والجهدِ حتى ينجحَ فعلاً.

ويتمثَّلُ هذا المعنى في قصةِ الأرنبِ والسلحفاةِ الشائعةِ، إذ يُحكى أنَّ أرنباً وسلحفاةً تسابقا، فركنَ الأرنبُ إلى سرعتِه وقالَ أنَّى لهذه السلحفاةِ أن تسبقَني! فقرَّرَ أن يأخذَ قسطاً من الراحةِ لأنَّهما لا يزالان في بداية الطريقِ، والفوزُ مضمونٌ حسبَ تقديرِه.

أمَّا السلحفاةُ فقد تابعت المشي ولم تتوقّف أبداً، ووصلت إلى النّهاية، فلمّا استيقظ الأرنب من نومه وجد أنّ السلحفاة قد انتصرت عليه!

هذا المثالُ معبِّرٌ جدَّاً، والناسُ يودِعون الحكمة التي جرَّبوها في قصصٍ رمزيَّةٍ، وما أضرَّ بالأرنبِ في هذه القصَّة هو رضاهُ عن نفسِه وركونُه، بينما نفع السلحفاةَ حالةُ التوترِ الداخليِّ و"الوجل"، فهذه الحالةُ استفزَّتها لمواصلةِ السعي وعدمِ الركونِ حتى سبقت فعلاً "وهم لها سابقون"!

من اللافتِ في القرآنِ أنَّه ربطَ مثال النَّصرِ بالضعفِ والذلَّة: "وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ".

وربطَ مثالَ الهزيمةِ بالكثرةِ: "وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ".

ذلك أنَّ حالةَ القلَّةِ تعلي شعور النفسِ بالخطرِ فيستفزّ ذلكَ فيها كوامن السعيِ حتى تفوزَ، بينما خطورة الكثرةِ أنَّها تؤدِّي إلى الإعجابِ والتَّراخي.

ومِمَّا لفت انتباهي في العقليَّة الجمعيَّةِ في المجتمعِ الصهيونيّ أنَّهم يبالغون بشكلٍ لافتٍ في تضخيم الأخطارِ المحيطةِ بهم، فهم يبالغون في تصوير قدراتِ المقاومةِ الفلسطينيَّةِ، ويبالغون في تصويرِ خطر إيران الوجوديِّ، ويضعون في التعاملِ مع أيِّ حدثٍ أسوأ الاحتمالاتِ وأشدَّها قتامةً.

المؤمن يرتقي في المعارجِ إلى اللهِ بإنكارِ "الأنا" والاستغراقِ في الغايةِ الكليَّةِ التي يسعى إليها، فإذا أحسَّ بنفسه ورضي عن عملِه تعثَّر لأنَّ قلبه يتوزَّعُ بالالتفاتِ ويفقدُ وحدته واجتماعَه واستغراقَه في الغاية

نحن نفرحُ بذلك لكنَّهم يحمون أنفسهم بهذه الطريقةِ، لأنَّ رفع مستوى الشعور بالخطرِ يستفزُّ دوافعَ العملِ ويحمي من الركونِ والغفلة.

يقولُ العارفونَ بالله: "هلك من ذاق طعم نفسِه"، فالمؤمن يرتقي في المعارجِ إلى اللهِ بإنكارِ "الأنا" والاستغراقِ في الغايةِ الكليَّةِ التي يسعى إليها، فإذا أحسَّ بنفسه ورضي عن عملِه تعثَّر لأنَّ قلبه يتوزَّعُ بالالتفاتِ ويفقدُ وحدته واجتماعَه واستغراقَه في الغاية.

ويعبِّر عن هذا المعنى حكمةُ ابن عطاء الله السكندري: "رُبَّ معصيةٍ أورثت ذلاً وانكساراً خيرٌ من طاعةٍ أورثت عزَّاً واستكباراً". ومن الطبيعيِّ أنَّ الثناء هنا ليس على المعصيةِ بل على حالةِ الذلِّ والانكسارِ التي تملأ نفس العاصي فتكونَ سبباً في معراجِه إلى الله، بينما لا قيمةَ لأيِّ طاعةٍ إن أورثت في النفسِ شعورَ الاستكبار.

والوجهة القرآنيَّةُ واضحةٌ في دعوة الناسِ إلى أن يكونوا في حالةِ تضرُّعٍ وافتقارٍ وعبوديَّةٍ إلى الله:

- "وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ".

التضرُّعُ يعني أنَّ الإنسانَ لا يشعر بالاستغناءِ والاستكبارِ، إنَّما يشعرُ بالافتقارِ إلى رحمةِ الله.

كان مهلكُ إبليسَ في القرآنِ أنَّه قال "أنا خيرٌ منه"، ورأى لنفسِه فضلاً دفعه إلى الاستكبارِ عن طاعةِ أمرِ اللهِ، فكانت عاقبةُ استكبارِه الطرد من رحمة الله: "قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغرين".

أمَّا آدم فقد عصى، لكنَّ ذنبه كان في لحظةِ ضعفٍ ثمَّ أنابَ ورجعَ إلى ربِّه ولم يصرّ ولم يستكبر، ففتح الله له أبواب الرحمةِ والمغفرة: "فتلقى آدمُ من ربِّه كلماتٍ فتابَ عليه إنَّه هو التوابُ الرحيم".

يقتربُ الإنسانُ من رحمةِ اللهِ كلَّما ضعُف شعوره بنفسِه وتواضعَ وافتقرَ إلى اللهِ، بينما كلَّما تضخَّم شعورُ الأنا والاستكبار فإنَّه يقتربُ من طريق إبليس وعاقبتها الطرد من رحمة الله

يقتربُ الإنسانُ من رحمةِ اللهِ كلَّما ضعُف شعوره بنفسِه وتواضعَ وافتقرَ إلى اللهِ، بينما كلَّما تضخَّم شعورُ الأنا والاستكبار فإنَّه يقتربُ من طريق إبليس وعاقبتها الطرد من رحمة الله، وقد قيل في الأثر: "أين أجدك يا رب! عند المنكسرةِ قلوبُهم".

في مقابلِ حالة الإشفاق والوجلِ التي يزكِّيها القرآنُ، فإنَّ القرآنَ يذمُّ حالةَ الفرحِ بغير الحقِّ الذي يدخلُ الناسَ في حالة سكرةٍ وغفلةٍ تشبه الخمرَ:

- "إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ".

- "فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ".

إنَّ المشفقَ الوجِلَ الخاشعَ يتذكَّرُ فإذا هو مبصرٌ فيواصل الكدحَ في الطريقِ إلى اللهِ: "قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ".

أما الفرِح المختالُ الفخورُ فيغفل عن الطريقِ، مثل الأرنب المعجبِ بنفسِه، فيركنَ إلى الدنيا فتنقطعَ به الطريق: "ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ".

إنَّ الفوزَ والفلاحَ يقتضي المحافظةَ على حالةٍ من التوترِ الداخليِّ تحفِّزُ النفسَ على السعيِ وتحميهِا من الغفلةِ والركون.

twitter.com/aburtema
التعليقات (0)