قضايا وآراء

الإنسان في القرآن.. إرادة التكذيب والجحود (11)

أحمد أبو رتيمة
 - الأناضول
- الأناضول
يفردُ القرآنُ حيِّزاً واسعاً لبيان طبيعة الإنسان، والقرآنَ في معالجة خفايا النفس الإنسانيَّة يتناول النَّفس من حيث طبيعتها الأصليَّة التي تشمل النَّاس جميعاً، لكنَّ فريقاً منَّا ضيَّقوا واسعاً، فإذا قرأوا الآيات التي تتحدث عن الإنسان ظنُّوا أنَّها تتحدث عن الأقوامِ الآخرين وحدهم وأنَّ المسلمين في مأمنٍ من هذه الأمراضِ، مع أنَّ أسلوب القرآنِ تعميميٌّ بطريقةٍ واضحةٍ جدَّاً. وقد قادت هذه الطريقة الاختزاليَّة إلى الغفلة عن السنن العامَّة التي تتناول النفس والاجتماع والتاريخ في القرآن.

يكرِّرُ القرآنُ كثيراً أنَّ الإنسان كفورٌ جحودٌ وأنَّ أكثر الناس لا يؤمنون ولا يشكرون:

- "وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ".

- "وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ".

والقرآن يقرنُ الشكر والإيمان، لأنَّ مقتضى شكر النعمة الإيمان بواهبها: "مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ..".

لذلك فإنَّ نقيض الكفرِ في القرآن لا يكون دائماً الإيمان، بل إنَّ نقيض الكفر هو الشُّكر:

- "لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ".

- "إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً".

لماذا جاء الشُّكرُ في القرآنِ نقيضَ الكفر؟ لأنَّ طبيعة الكفر أنَّه حالةٌ جحوديَّةٌ، الكفر هو إنكار الحقِّ بعد معرفته: "فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ".

وهذا الربط واضحٌ في آية سورة النَّحل: "يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ".

إنَّ مقتضى معرفة النعمة شكرها، ومن ينكر النعمة فهو الكافر، والكفر لا يكونُ إلَّا بعد معرفة النعمة.
يصف القرآنُ الحالةَ العجيبةَ من الجحودِ والتكذيبِ التي يبلغها الإنسانُ، حتى إنَّه لو حُشدت كل الأدلة العلميَّة والشواهد المنطقيَّة له فإنَّه لن يقتنع لأنَّ هناك في قلبه إرادةً مبدئيَّة بالتكذيب والعناد فلن ينتفع بأيِّ دليل

الكفرُ حالةٌ من الجحودِ والعنادِ والتكذيبِ تصابُ بها النَّفس البشريَّةٌ فلا تنتفع بكلِّ الأدلَّةِ لاتباعِ الحقِّ، وهذا المعنى أساسيٌّ جدَّاً وواضحٌ جداً في القرآن الكريم، لكنَّه ليس بنفس القدرِ من الوضوحِ في ثقافة كثيرٍ من المسلمين.

الكفر لا علاقة له بالموقفِ العقليِّ المتجرِّدِ، فمن لم يؤمن بالقرآنِ لأنَّه لم يتبيَّن له بالأدلة الكافيةِ أنَّه من عند الله فلا يسمَّى كافراً وفق اللغة المفاهيميَّة السائدةِ في القرآنِ. الكافرُ هو من عرف النعمة فجحدها، ومن عرف الحقَّ فأعرض عنه: "مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ".

يصف القرآنُ الحالةَ العجيبةَ من الجحودِ والتكذيبِ التي يبلغها الإنسانُ، حتى إنَّه لو حُشدت كل الأدلة العلميَّة والشواهد المنطقيَّة له فإنَّه لن يقتنع لأنَّ هناك في قلبه إرادةً مبدئيَّة بالتكذيب والعناد فلن ينتفع بأيِّ دليلٍ:

- "وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا".

- "وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ".

- "وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ * حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ".

- "وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا".

إذا سار رجلٌ في طريقٍ فرأى لافتةً على الطريق تحذره أن هناك حريقاً مشتعلةً تحرق من يقترب منها، فإذا واصل السير أوقفه الناس وحذروه، فإذا أكمل سيره أوقفه آخرون وحذروه، فإذا أكمل سيره رأى دخان النار الكثيف يقترب منه. إنَّ الفعل المنطقيَّ المتوقَّع أن ينتفع هذا الرجل من كلِّ هذه الآياتِ والنُّذر فيرجع عن طريقِ الخطرِ، لكن كيف نفهم الإعراضَ والإصرار والتكذيب بكلِّ الإشارات البيِّنةِ، حتى إنَّ دخان النار بدأ يلفحه لكنَّه أصرَّ على العناد وواصل السير في طريق الهلاك؟! "وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَراً لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ"!!

الكفرُ هو حالةٌ عجيبةٌ من الاستعصاء، وهو تجليةٌ لحالة "اللا عقلانيَّة" في الإنسانِ، لأنَّ مقتضى العقل الانتفاع بإشاراته، والكفرُ مع حماقتِه ولا أخلاقيَّته إلا أنَّه ضروريٌّ لتأكيدِ مبدأ الحريَّة الإنسانيَّةِ. فلو أنَّ الإنسان ينتفع آليَّاً بالذكرى والموعظة وتعلُّم الآياتِ لكان هذا يعني أن الداعية أو الرسولَ صار يملك سلطةً على قلب الإنسانِ وإرادتِه، إذ إنَّه بمجرد تبيان الآيات وتعريف الحقِّ له فإنَّ هذا الإنسانَ سيؤمن تلقائيَّاً وسيغيِّر قناعاته، لكنَّ حكمة الخالقِ اقتضت تحرير إرادة الإنسانِ من أيِّ تأثيرٍ خارجيٍّ، حتى لو كان هذا التأثير يهدف إلى هداية هذا الإنسان:

- "إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ..".

- "إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ".

لم يشأ الله تعالى أن يخضع أعناق النَّاس له ويكرههم على الإيمانِ، بل أعطاهم حريَّة الاختيار، وحريَّة الاختيار تحتمل إمَّا سلوك طريق الرشاد أو سلوك طريق الحماقة!

لكن ما الذي يدفعُ الإنسانَ إلى الإعراض عن كلِّ الآياتِ والنُّذر ومعاندة الحقِّ بعد معرفته؟

يذكر القرآنُ أنَّ الإنسان يقيمُ حواجزَ نفسيَّةً تحول دون تأثير داعي الإيمان في قلبه، ولذلك فإنَّه مهما رأى من آياتٍ ودلائل وإشاراتٍ فإنَّه لن ينتفع منها شيئاً لأنَّه قد اتخذ القرار المسبق بالتكذيب والعناد فأغلق منافذ الفهم والتأثر: "وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ..".

والأكنَّةُ والوقرُ والحجابُ هي الموانعُ التي أنشأها الإنسانُ ليحولَ دون بلوغ الحقِّ إلى قلبه. وتتجلى هذه الموانعُ النَّفسيَّةُ في هيئاتٍ ماديَّةٍ يصوِّرها القرآن لإعراض الأقوام المكذِّبة عن داعية الحقِّ والهداية: "وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً".

إنَّ هناك قراراً مبدئيَّاً بالعنادِ وعدم التصديق يتبعه إغلاقٌ متعمَّدٌ لأيِّ منافذَ للسماعِ والفهمِ، وهذه الحقيقة تبيِّنُ وهم الاعتقادِ بأنَّ الإنسانَ كائنٌ عقلانيٌّ يتَّبعُ دليلَ الحقِّ! إنَّ الإنسانَ تحرِّكه دوافع الهوى والرغبة أكثر مما يحرِّكه الحقُّ

وفي حالِ الأقوامِ المكذِّبين في زمان تنزل القرآن: "وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ"..

إنَّ هناك قراراً مبدئيَّاً بالعنادِ وعدم التصديق يتبعه إغلاقٌ متعمَّدٌ لأيِّ منافذَ للسماعِ والفهمِ، وهذه الحقيقة تبيِّنُ وهم الاعتقادِ بأنَّ الإنسانَ كائنٌ عقلانيٌّ يتَّبعُ دليلَ الحقِّ! إنَّ الإنسانَ تحرِّكه دوافع الهوى والرغبة أكثر مما يحرِّكه الحقُّ.

ربما يكونُ من اليسير علينا أن نفهم هذه القوانين في واقعِ الأقوام المكذِّبين الذين يقصُّ القرآنُ علينا نبأهم، لكنَّ هذه السنن عامَّةٌ تشمل الناس في كلِّ زمانٍ ومكانٍ، بمن فيهم نحن المسلمين!

إنَّ أكثرنا يرى الحياةَ من داخلِ إطارٍ نفسيٍّ وثقافيٍّ ضيِّقٍ، وهو لا يحبُّ مغادرة هذا الإطار إيثاراً للاستقرار والمألوف، وهو ذات حال الأقوام الذين يحدِّثنا القرآنُ عنهم، الذين آثروا راحة الاستقرار على مغامرة التجديد: "قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا".

فإذا تبيَّن في واقعنا قصور الإطارِ الذي يحكم رؤيتنا للحياةِ عن الاستجابة للتحدياتِ المعاصرةِ وأنَّ هناك خارج هذا الإطار ما هو أهدى: "أولو جئتكم بأهدى مِمَّا وجدتم عليه آباءكم"، فإنَّ أكثرنا يخشى هذه المغامرةَ، وينفرُ ويصدُّ من أيِّ دعوةٍ يشعرُ أنَّها تهدِّد استقراره، وإن جاءت الدعوة الجديدةُ بكلِّ آيةٍ ودليلٍ على صوابِ موقفِها فإنَّه يميل إلى الإنكارِ والتكذيبِ، لأنَّه لا يتفاعل مع هذه الدعوةِ بعقلٍ متجرَّدٍ في طلب الحقِّ، بل يتفاعل معها منطلقاً من مخاوفه النفسيَّة وحرصه على الاستقرار!

لقد كانت مشكلة الأقوام التي يذمُّها القرآنُ في جانبٍ كبيرٍ أنَّها حريصةٌ على الاستقرارِ على حسابِ الحقِّ الذي تحمله الدعواتُ الجديدةُ، لذلك فإنَّ قضية "الآلهة" التي يشير القرآن إلى عبادة الأقوامِ لها ليست شأناً لاهوتيَّاً يتمثَّل في ركوع الناس البدائيِّين وسجودهم للأحجار والتماثيل! هذا اختزالٌ مخلٌّ لعمقِ المعنى!

الآلهةُ هي منظومة المفاهيم المنغلقة فوق النقدِ والمساءلة التي يجتمع عليها النَّاس ويقدِّسونها ويستمدُّون منها الشعور بالثباتِ والاستقرار، لذلك فإنَّ دعوة الرسلِ المجدِّدين كانت تمثِّل خطراً في نظر الأقوامِ أنَّها تهزُّ ثباتَ تلك المفاهيم: "وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ".

ويبلغ تقديسُ الأقوام للآلهةِ حتى إنَّها تفرض على عقولِهم إطاراً تفسيريَّاً للحياة لا يستطيعون التحرُّر منه: "إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ".

الإيمانُ هو دعوةٌ لمغادرةِ الأكنَّةِ والحجبِ والجدرانِ وفتح السمع والبصرِ خارج دائرة المألوفات "ما وجدنا عليه آباءنا"، فالإنسان لن يهتديَ إلى الحقِّ إلَّا إذا أزال كلَّ الحجب والموانع التي تضيِّق منافذ الفهم وتحدُّ قدرته على الرؤية، وصار قادراً على التجرد في اتباع الحقِّ

هذه الآيةُ الأخيرةُ فيها معنىً نفسيٌّ واجتماعيٌّ؛ هودٌ عليه السلام يدعو قومه إلى تركِ الآلهةِ الباطلةِ وعبادة الله وحده، فيفسِّرون حالته بأنَّ تلك الآلهةَ قد أصابته بسوءٍ! وذلك لأنَّهم حصروا عقولهم في إطارٍ ضيِّقٍ من التفكيرِ فلم يعودوا قادرين على رؤية الحقائق خارج ذلك الإطارِ، مثل الذي يحبس نفسه في غرفةٍ مصمتةٍ فلن يستطيع أن يرى أبعد من تلك الجدران.

الإيمانُ هو دعوةٌ لمغادرةِ الأكنَّةِ والحجبِ والجدرانِ وفتح السمع والبصرِ خارج دائرة المألوفات "ما وجدنا عليه آباءنا"، فالإنسان لن يهتديَ إلى الحقِّ إلَّا إذا أزال كلَّ الحجب والموانع التي تضيِّق منافذ الفهم وتحدُّ قدرته على الرؤية، وصار قادراً على التجرد في اتباع الحقِّ مهما كان مخالفاً لمألوفاته ومستفزاً لاستقراره.

twitter.com/aburtema
التعليقات (1)
السؤال الكبير
الأربعاء، 28-12-2022 06:20 م
السؤال الكبير وتصحيح المسار أما السؤال الكبير فهو: هل من المعقول و المقبول ان يقال ان كل ما قاله واجتهد به العلماء الاوائل والمعاصرون هو من ثوابت الدين؟ وهل كل تفاصيل الحياة المعيشية الدنيوية اليوميه للنبي عليه الصلاة والسلام، واجتهادات من أتى بعده من الخلفاء والائمة والعلماء هي من ثوابت الدين؟ ان هذه الأمة في حاجة ماسة اليوم الى قراءات جديدة للتنزيل الحكيم كتلك التي قام بها بعض المفكرين المعاصرين، (ومنهم مثلا المفكر الكبير د محمد شحرور)، والتي من شأنها احداث ثورة فكرية دينية شاملة، تؤدي لتصحيح القناعات المجتمعيه للعقل العربي، والى احياء الأمة بعد سباتها الطويل. لقد انعزلت أمة العرب عن بقية امم الارض المتحضرة لمئات السنين. وكان من نتائج هذا الانعزال، انها اصبحت عاحزة عجزا شبه تام عن انتاج المعرفة. وكانت الثقافة الدينية الموروثة الخاطئة هي السبب الرئيسي في هذا الانعزال. فالموروث الديني كرس وقبل بوجود الترادف في كتاب الله، والترادف يفتقد الى الدقه. والموروث الديني رسخ فكرة القياس وجعل العقل العربي عقلا قياسيا، فهو يحتاج دائما الى نموذج او نسخة اصليه للقياس عليها وذلك يمنعه من الابتكار. والموروث الديني جعل العقل العربي مكبلا بفكرة المسموح والممنوع فهو يسأل دائما عن "حلالية" كل جديد (أي هل هو حلال ومسموح استخدامه والتعامل معه)، مما قيد انطلاقه في انتاج المعرفه. وذلك اضافة الى التناقضات الكثيرة في كتب الموروث الديني، مع ايات التنزيل الحكيم، سواء بين الطوائف المتعدده او ضمن الطائفة الواحده، مما اثر سلبا في تشكل العقل الجمعي العربي واختلاف طوائفه وتناحرها. وكان السبب الرئيسي لذلك التناقض هو قيام ائمة وعلماء المسلمين (الاوائل والمعاصرين ومن مختلف الطوائف)، بنقل اسلوب الحياة الدنيوية للنبي وصحابته، على انه جزء من الدين، واعطوا ذلك صفة القداسة والشموليه والعالميه والابديه. فكان من تنيجة ذلك ان اصبحت المحرمات بين ايدينا بالمئات بل بالالاف بدلا عن اقتصارها على الاربعة عشر محرما المنصوص عليها في كتاب الله تعالى (وهي المبينة في الايات151،152 سورة الانعام، اية 3 سورة المائده، اية 33 سورة الاعراف، اية 23 و 24 سورة النساء، اية 275 سورة البقرة)، وكلها تؤكد ان المحرمات محصورة في الايات المذكورة ولا يمكن الاجتهاد فيها، وأن الله تعالى هو صاحب الحق الوحيد في التحريم. فكل ما حرمه علماء الفقه في كتبهم خارج المحرمات الالهية المبينة في الايات المذكوره ما هو الا منهيات او محظورات لاترقى الى درجة التحريم. اننا كمسلمين (والبشرية جمعاء في كل العصور والى يوم القيامة) مأمورون باتباع النبي عليه الصلاة والسلام، في كل ما امر به او نهى عنه، من مقام الرسالة، وذلك في نطاق الاوامر والنواهي الربانيه وما يوافقها. لكن اوامر النبي عليه الصلاة والسلام ونواهيه المتعلقة بالممارسات المعيشيه اليوميه، فنحن مخيرون في الاخذ بها او الاجتهاد فيها بما ينفعنا وبما لا يخالف التنزيل الحكيم، لأنها اوامر ونواهي تحمل الصفة المدنيه ضمن نطاق حكمه المدني من مقام النبوه، وهدفها تنظيم الحلال فيما يتعلق بمجتمعه المدني ودولته المدنيه في زمانه فقط، ولا تحمل صفة الشموليه ولا العالمية ولا الابدية، باستثناء ما كان منها يتعلق بشعائر الصلاة والزكاة، حيث امرنا الله تعالى بطاعة الرسول فيهما بشكل منفرد (واقيموا الصلاة واتوا الزكاة واطيعوا الرسول لعلكم ترحمون). لقد كاد فقهاء الاسلام الاوائل والمعاصرين ان يؤلّهوا رسول الله (عليه الصلاة والسلام). وكان من نتائج ذلك أن طغت محورية الحديث النبوي المنقول، على محورية كلام الله تعالى. واصبح ينظر لاحاديث النبي وتشريعاته على انها وحي ثان مواز للتنزيل الحكيم ومطابق له في القدسية، وربما اعلى منه في بعض الاحيان. واستندوا في ذلك على تفسيرهم للاّية الكريمه "وما ينطق عن الهوى ان هو الا وحي يوحى". واعتبروا ان تفسيرهم ذلك لهذه الاية هو تفسير نهائي غير قابل للمراجعة ولا للتصحيح، رغم ان هذا التفسير للآّية الكريمة لم يصدر عن النبي، ولم يرد عنه انه قال ان كل ما يقوله هو وحي من الله. فمعظم كتب الموروث الديني ماهي الا صناعه انسانية بحته، بمعنى انها لاتعدو كونها اجتهادات بشرية قائمة على ما تم جمعه من الاحاديث (بصرف النظر كونها احاديث صحيحة او مفتراه) وفي حدود ما سمح به السقف المعرفي في العصور الاولى. أما التشريع النبوي الانساني (الصادر من مقام النبوه)، فقد كان ينحصر في تقييد المطلق او اطلاق المقيد ضمن دائرة الحلال الواسعه. فالنبي عليه الصلاة والسلام معصوم عن الخطأ من مقام الرسالة فقط، وليس من مقام النبوة (يا ايها النبي لم تحرم ما احل الله لك تبتغي مرضاة ازواجك...) – (ما كان لنبي ان يكون له اسرى حتى يثخن في الارض، تريدون عرض الدنيا والله يريد الاخره...). لقد أعطى الله سبحانه وتعالى للنبي عليه الصلاة والسلام (وللبشرية من بعده كذلك) حق الاجتهاد في التشريع الانساني الدنيوي، دون ان يجعل لذلك الاجتهاد صفة القداسة والشمولية والعالمية والابدية. وكانت تلك هي العلة الكبرى وراء كونه عليه الصلاة والسلام خاتم النبيين (أي لا نبي بعده). والا، فان البشرية كانت ستكون دائما بحاجة الى انبياء جدد. وباعطائه سبحانه للبشرية ذلك الحق في التشريع، فقد قضى بان محمدا عليه الصلاة والسلام هو خاتم النبيين. ان الحقيقة الكبرى التي غفل عنها فقهاء الاسلام قديما وحديثا هي ان الاسلام قد دشّن عصر ما بعد الرسالات، أي عصر صلاحية الانسانية للتشريع لنفسها فيما لا يخالف التنزيل الحكيم. وبغير ذلك فان البشرية كانت ستبقى دائما بحاجة الى انبياء جدد. ذلك، بالطبع، مع تسليمنا الكامل بأن كل فكر جديد هو خاضع للقبول او الرفض او التصحيح او التخطئة. ولكن لنتذكر دائما بأنه ليس كل رأي او فكر جديد هو دائما قادم من متاّمر او عدو. (كانت هذه قبسات من بعض ما فهمته من فكر المصلح العبقري الكبير الدكتور محمد شحرور رحمه الله. واعادة النشر لهذه المقالة متاح بغرض فتح باب النقاش بشكل اوسع وتعميما للفائده)