حذرت في مقالي السابق «أزمات الشرق الأوسط تتصدر أجندة
بايدن في 2023»، من أنه إذا لم تمارس إدارة بايدن والرئيس شخصيا ضغطا حقيقيا وفي العلن، وبسرعة وتلجم بشكل جدي وصارم حكومة أقصى اليمين برئاسة نتنياهو لوقف جرائم وتصعيد آلة القتل والموت الممنهج، وهو نهج جميع الحكومات
الإسرائيلية المتعاقبة، بوقف التصعيد ضد الفلسطينيين في الداخل الفلسطيني، فإنه قد يفجر انتفاضة ثالثة وحتى حربا سادسة على
غزة.
خاصة أننا نشهد منذ تسلم حكومة أقصى اليمين المتطرف الصهيوني تصعيدا عسكريا خطيرا وقتل الفلسطينيين بشكل يومي واقتحام المدن، وآخرها اقتحام مدينة جنين ومخيمها في أعنف تصعيد منذ اجتياح مخيم جنين عام 2002 بعد قمة بيروت.
ارتكبت آلة القتل الإسرائيلية مجزرة دموية قتلت 9 فلسطينيين، ما أجبر السلطة الفلسطينية العاجزة والمحاصرة، الإعلان وقف التنسيق الأمني، وليست المرة الأولى التي تجمد فيها التنسيق الأمني، وهددت بإضافة مجزرة جنين إلى ملف مجازر القتل الممنهج الذي يرتكبه
الاحتلال، ما تفسره ضوءا أخضر للاستمرار بجرائمها، بعد ذلك قام الفلسطينيون بعملية في
القدس المحتلة، ردا على المجزرة، ما يحرج ويربك حكومة أقصى اليمين من الفاشيين والحاخامات المتشددين ووزراء الصهيونية الدينية كبن غفير والمتطرف سموترتش. غير مستبعد إقرار إجراءات متطرفة بضم أجزاء من الضفة الغربية واقتحام المسجد الأقصى ومصادرة عوائد الضرائب الفلسطينية، لدفع تعويضات لأسر الإسرائيليين المتضررين من عمليات المقاومين الفلسطينيين! مع استمرار القتل والقمع وهدم المنازل.
تتحمل إدارة بايدن كثيرا من المسؤولية واللوم على انحيازها ومحاباتها لإسرائيل. تاريخيا يتجنب الرؤساء الأمريكيون مواجهة وتحدي إسرائيل علنا، برغم مخالفة إسرائيل المتعمد للقانون الدولي وقرارات مجلس الأمن، والإضرار بالمصالح الأمريكية وإفشال خطة حل الدولتين، السياسة الرسمية للإدارات الأمريكية منذ إدارة كارتر وخاصة إدارة بوش الأب وكلينتون وأوباما. ومع ذلك تلتزم أمريكا بتفوق إسرائيل ـ العسكري التقني على جميع جيرانها وخصومها العرب. وزاد بايدن الالتزام بيهودية الدولة وديمقراطيتها.
يبدو نتنياهو في موقف ضعيف وهش لارتهانه لشركائه المتطرفين. برز ذلك واضحا بعد إعلان نتنياهو عقب زيارته ولقائه مع الملك عبد الله الثاني بن الحسين في عمان الأسبوع الماضي -في أول زيارة ولقاء بينهما منذ 2018-، بتعهده الالتزام بالوضع القائم في الحرم الشريف! وذلك بعد إهانة الشرطة الإسرائيلية السفير الأردني في تل أبيب ومنعه من دخول المسجد الأقصى سابقا، ليتحدى بن غفير نتنياهو علنا، وتأكيده لا وصاية لأحد على إسرائيل وتعهد بمواصلة اقتحامه المسجد الأقصى (جبل الهيكل).
السؤال: ماذا سيكون موقف إدارة بايدن لو أوغلت إسرائيل في قمع وقتل الفلسطينيي،ن وضمت أجزاء من الضفة الغربية؟ وقرر بن غفير التصعيد والاستفزاز وتقاسم الفترة الزمنية والمكانية بين المسلمين واليهود في المسجد الأقصى في تعدّ سافر يدفع لانتفاضة وربما حرب.
وكالعادة في موقف الإدارات الأمريكية، تأخذ مواقف رمادية لا تسمن ولا تغني من جوع، وتتجنب انتقاد إسرائيل برغم تجاوزاتها الصارخة -لو أي دولة أخرى تمارس جزءا مما تقوم به إسرائيل من قمع وحصار، والتنكيل بالتمييز ضد مليونين من شعبها (فلسطينيو 1948الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية)، وتقمع وتقتل الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال وتهدم منازلهم، وتقتحم مدنهم ومخيماتهم وتهدم منازل أهالي من ينفذون عمليات ضد الاحتلال-، لقادت أمريكا حملة تنديد واستنكار وفرضت عقوبات خاصة على الوزراء المتطرفين والقيادات السياسية والعسكرية، ومنعت الوزراء المتطرفين من زيارة أمريكا والتواصل معهم، وأوقفت الدعم المالي السنوي 3.8 مليار سنويا. لكن إسرائيل وحلفاءها في الكونغرس وخاصة قيادات الحزب الجمهوري والإعلام الأمريكي ومراكز الدراسات المحسوبة على إسرائيل، تقف بالمرصاد وترهب وتؤلب وتحرض الرأي العام الأمريكي ضد النواب والمسؤولين والإعلاميين والأكاديميين، الذين يجرؤون على تحدي الخطاب الموالي السائد، حتى لا يجرؤ الكثير على انتقاد قمع إسرائيل.
وكالعادة، كان معيبا تصريح الناطق باسم الخارجية الأمريكية ردا على مجزرة القوات الإسرائيلية في جينين، «سيركز وزير الخارجية الأمريكي أنطوني بلينكن في زيارته لإسرائيل والسلطة الفلسطينية اليوم على وقف العنف والحفاظ على الوضع القائم في الحرم الشريف»، وعبرت وزارة الخارجية الأمريكية في بيان بلا طعم وبلا معنى، ويساوي في العنف بين الجلاد الإسرائيلي والضحية الفلسطيني: «نتواصل مع المسؤولين الإسرائيليين والفلسطينيين، ونحن قلقون من استمرار دوامة العنف في الضفة الغربية! وهناك حاجة لاستمرار الحوار والتواصل بين الإسرائيليين والفلسطينيين لخفض التصعيد لحماية أرواح المدنيين، والعمل على تحسين الوضع الأمني في الضفة الغربية». والذهاب لمجلس الأمن ومحكمة الجنايات الدولية ليس في محله.
هذا موقف متكرر لا يرتقي لخطورة الوضع في فلسطين المحتلة القابل للاشتعال، يربك ويحرف استراتيجية الأمن الوطني الأمريكي، وأولوية مواجهة الصين وروسيا، ويرفع التوتر في الشرق الأوسط ـوينسف حل الدولتين ـ، ويفرمل التطبيع العربي. وبات واضحا فشل التطبيع والاتفاق الإبراهيمي بعقلنة السياسة الإسرائيلية المتهورة، بل منذ التطبيع والاتفاق الإبراهيمي عام 2020، ازدادت إسرائيل وشعبها تطرفا وصهيونية وقمعا ضد الفلسطينيين.
الصادم، لم تعر إدارة بايدن تحذير رئيس وزراء قطر الأسبق الشيخ حمد بن خليفة عن «الخشية من عمل عسكري يهز أمن واستقرار منطقتنا، في حال فشل التوصل لاتفاق نووي مع إيران ـ وزودت إدارة بايدن إسرائيل بأسلحة نوعية»!
لا يعبأ نتنياهو بخطابه الهستيري وتصعيده بمنع إيران امتلاك السلاح النووي بأي طريقة، وتلميحه باستخدام القوة وتحريضه إدارة بايدن القيام بعمل عسكري ضد إيران، بالتداعيات الخطيرة التي ستدفع المنطقة لحافة الهاوية وتهدد الاستقرار وأمن الطاقة، ويضر باقتصاد أمريكا والاقتصاد العالمي، واستراتيجيتها وأولويتها بمواجهة الصين وروسيا.
مجاملة إدارة بايدن إسرائيل والشركاء المتطرفين، وعدم لجمها سيفجر العنف انتفاضة ثالثة في الداخل، وربما حربا إقليمية، وعندها ستحصد أمريكا زرعها وتجد نفسها وحلفاءها عالقين في مستنقع من صنعها.
القدس العربي اللندنية