طلّع الجازيتّا يا أمين (الخيانة كوجهة نظر- 6)

(من دفاتر الخلع والانقلاب)

يتوهم كثيرون من إخوتنا المحدثين بالسياسة في أوطاننا المنكوبة أن تاريخ الانقلابات والخلع وتبديل الرؤوس بدأ مع 23 تموز/ يوليو 1952، فحركة الضباط المباركة توزع توصيفها بين مصطلحات من نوع "حركة" و"ثورة" و"انقلاب"، أما عملية انتقال السلطة فكانت موزعة بين مصطلحات من نوع "تنازل" و"عزل" و"خلع". ومع أزمة آذار/ مارس 1954 تمت الإطاحة بأول رئيس عسكري من الحكم (اللواء محمد نجيب) تحت مسمى جديد هو "إعفاء"، وفي أعقاب نكسة 67 ظهر مصطلح "التنحي" الذي استخدمه مبارك في مثل هذه الأيام من عام 2011 (بيان التفويض في 11 شباط/ فبراير).

وقد كان الخديوي عباس حلمي الثاني واحدا من الحكام الذين أصابهم الخلع، كما أصاب من قبل جده الخديوي إسماعيل، وكان الخالع في تلك الأيام معلوما من غير وكيل محلي، فقد اتخذ الاحتلال الإنجليزي القرار في نهايات سنة 1914، عقب سماع دوي طلقات الحرب العالمية الأولى، وقاموا بتنصيب الأمير حسين كامل (عم الخديوي الأخير) ومنحوه لقب "السلطان".

وبرغم أن الحاكم الجديد كان يرغب في لقب "ملك"، إلا أن الإنجليز رفضوا أن يتساوى لقب "العميل الجديد" مع لقب ملك بريطانيا العظمى، فاختاروا "السلطان" كرسالة علنية لقطع الوصاية العثمانية على مصر وانتهاء علاقة الباب العالي بقصر الحكم وشؤون البلاد في بر مصر، فقد صار الحاكم في مصر سلطانا، رأساً برأس مع السلطان العثماني وليس نائبا له كما كان الحال في الفترة الخديوية.

والإشارة التي أود توضيحها هنا، طبيعة القوة الكبرى التي تهيمن على "ميزانسين" التغيير السياسي في بلادنا، والتي يتحكم فيها مخرج أجنبي يقول: "الآن يعني أمس" فيستجيب الحاكم وينخلع طائعا أو مرغما. وفي العادة تتم تسمية التدخل الأجنبي بمسميات لطيفة تناسب كل عصر، لكن الرسالة التي يجب أن نتذكرها دائما، هي عدم الفصل بين ما يحدث في الداخل من تغييرات في رأس السلطة، وبين المشيئة الدولية التي تخضع لها البلاد. وهكذا يمكننا أن نفهم ببساطة دور الحاكم "المعيّن" في تنفيذ أوامر السيد الذي جاء به إلى الحكم، مهما اجتهد في تحسين مظهر تبعيته والتحرك في الحدود المرسومة له، حتى لا يتعرض للعزل كسلفه.

(لعبة الأمم)

لما أطاح الإنجليز بحاكم مصر المثير للجدل عباس الثاني، كان يقضي إجازته السنوية في إستانبول، وهناك تعرض لمحاولة اغتيال مددت فترة إقامته حتى صدر قرار عزله. محاولة الاغتيال كانت مؤشرا على وجود رغبة في التخلص من الخديوي، وانحصرت هذه الرغبة بين جانبين: الإنجليز والأتراك، ولما صدر قرار العزل رجح الرأي الذي يقول إن الإنجليز قد اتخذوا قرارهم بإبعاد عباس من طريقهم نهائيا لأنه يلعب على كل الأطراف ولا يمكن ضمان ولائه، لكن عباس ظل متمسكا بشرعيته في الحكم، وقام بنشاط كبير للاستعانة بأعداء إنجلترا من أجل إعادته للحكم.

في تلك الفترة كانت العلاقات الدولية تتبدل وتتقلب بسبب مجريات الحرب، فالأتراك وصلوا إلى حائط مسدود في علاقتهم ببريطانيا وتقاربوا مع الألمان إلى درجة التحالف، بينما كانت فرنسا تسعى للوقوف على الحياد، لكنها انتهت إلى عداء مع ألمانيا وحلفائها..

هكذا فرضت الأوضاع الجديدة خريطة تحرك للحاكم المعزول دفعته رويدا رويدا للمعسكر الألماني، باعتباره الأمل الأخير في استعادته للحكم بعد انتصار ألمانيا في الحرب..

هكذا تتكشف لنا بعض ملامح "لعبة الأمم" حسب تعبير عميل الاستخبارات الأمريكية "مايلز كوبلاند" الذي ربط بين التغيرات السياسية في معظم بلدان العالم (خاصة الشرق الأوسط) وبين الإرادة (أو الإدارة) الأمريكية، وفي المراتب التالية تأتي انحيازات السياسيين لهذا الطرف الدولي أو ذاك، ومن هذه النقطة بدأت علاقة الخديوي مع صديقه "بولو باشا" تتخذ منحى جديدا وخطرا..

كانت العلاقة في بداياتها تستهدف استخدام بولو كغطاء للصفقات المالية التي يرتبها الخديوي وأكبرها صفقة منح بريطانيا امتيازا جديدا لإدارة قناة السويس حتى عام 2008، وبعد عزل الخديوي بدأ يفكر في كيفية تهريب ثروته من مصر، وعقد أمله كله على "بولو"، وفي هذه الأثناء طلب عباس لقاء وزير الخارجية الألماني "جوتليب فون ياجوف" ليتناقش معه في مسألة عودته للحكم مقابل دعمه لألمانيا، وبعد أن ذهب إلى برلين اعتذر الوزير عن مقابلته لانشغاله، وتم اللقاء مع أحد المساعدين.

كتم عباس شعوره بالإهانة، لكن الأمر الخطير الذي شغل تفكيره هو دلالة نظرة الألمان لمكانته في البروتوكول السياسي، وما إذا كان ذلك مقصودا كتخفيض لمستوى الشخصيات التي يمكن أن يقابلها. وعبّر عباس عن غضبه وقلقه لصديقه القديم الكونت "أنطون جراف مونتس"، وهو دبلوماسي كبير كان يعمل سفيرا لألمانيا في إيطاليا، حيث خلفه "ياجوف" الذي صار وزيرا للخارجية في الفترة الحرجة، وطمأنه مونتس ووعده بالتدخل لحل الأمور العالقة. وفي اللقاء التالي تمت ترضية عباس والترحيب به، وأثمر التعاون مع الألمان عن اتفاق مع عباس على شراء ولاء عدد من الصحف الفرنسية وعلى رأسها "فيجارو" للضغط على المسؤولين الفرنسيين والتأثير على الرأي العام في اتجاه حياد فرنسا وعدم تحالفها مع أعداء ألمانيا.

وعرض الجانب الألماني دفع عشرة ملايين مارك على دفعات لتمويل الصفقة، وعاد عباس سعيدا إلى فندق سافوي في زيوريخ حيث كان يقيم مع بطانته، وشرع عباس في تنفيذ خطته عن طريق بولو، واستدعى عميلته الفرنسية القديمة "عزيزة دي روشبيرون" وعددا من المساعدين للتشاور في كيفية إتمام المهمة، وفي الاجتماع اعترض بولو على توسيع المشاركة وأعلن تخوفه من الطريقة التي يتم بها تلقي الأموال من ألمانيا وتحويلها إليه، وانتهى الاجتماع دون نتيجة واضحة.

وبعد أسابيع أرسل عباس سكرتيره صديق باشا للتفاهم مع بولو والتوصل إلى طريقة لتنفيذ المهمة بأعلى قدر من السرية والأمان، واقترح بولو إنشاء بنك كاثوليكي في سويسرا للحفاظ على سرية التحويلات، لكن الخديوي رفض الفكرة، إذ لا يعقل أن يتورط حاكم بلد مسلم في تأسيس بنك كاثوليكي، خاصة وأن وضعه حرج ويحتاج لكل أنواع الدعم من أجل استعادة سلطته المنزوعة.

في نهاية المفاوضات تحمس بولو للمهمة بشرط ألا يتلقى الأموال من الطرف الألماني مباشرة، بل يتم تحويل الأموال إلى حساب الخديوي الشخصي في جنيف ومن ثم يقوم عباس بتحويلها إلى حساب يفتحه بولو في أحد البنوك الأمريكية. وبينما كانت الأمور تمضي بآمال عريضة كانت روشبيرون تتابع عن بعد، وتشعر بالتهميش وعدم الربح مما يدور، لهذا فكرت أن تغادر معسكر الخديوي وتلعب لصالح فرنسا التي تذكرت أخيرا أنها "الوطن".

ذهبت إلى ما قالت إنه زوجها (محمد بك فريد) في زيارة أشبه بالوداع، كان فريد يعاني من استسقاء في البطن وحالته الصحية تتدهور، وأبلغته أنها قد لا تراه ثانية، تأثر فريد ونامت روشبيرون على كتفه وهما يبكيان (حسب روايتها المشكوك فيها)، وفي الصباح غادرت سويسرا إلى بلدها وهي عازمة على "الوشاية الوطنية" والانتقام من الجميع، لعلها تجد في المعسكر الآخر نفعا لم تحصل عليه من معسكر الخديوي والأتراك.

(الحاكم والصحافة)

ما الذي جعل حاكم مصر "وسيطاً" و"عميلاً" في صفقة شراء ولاء الصحف؟

ولماذا تدفع الدول مبالغ ضخمة مثل التي عرضها الألمان من أجل حفنة مقالات تتحدث عن السلام والحياد؟

قصة عباس مع الصحافة طويلة ومليئة بالحكايات الشيقة، لذلك أفضّل تأجيلها للمقال التالي، وقبل أن أختتم مقال اليوم لاعتبارات الخوف من "الإطالة" وتأثيرها على تركيز القارئ، أسوق قصة معبرة عن التناقض المثير في علاقة الحكام بالصحافة:

تقول القصة إن حسين كامل عم الخديوي عباس قبل تكليف الإنجليز بعد أيام من التردد والتخوف من رجال عباس في السياسة والصحافة، والذين يمكنهم بسهولة أن يروّجوا لفكرة خيانة العم للوريث الشرعي للحكم وقبوله التعاون مع سلطات الاحتلال ضد العائلة والوطن!

كان حسين كامل بعيدا عن معارك السياسة ومشغولا بالزراعة في أرضه ومحبوبا في أوساط الفلاحين ويلقب بـ"صديق الفلاح"، لذلك لما تولى الحكم تعرض لهجوم كبير من أنصار عباس الذين يجاهدون من أجل استعادته للحكم، ونجح هؤلاء في الربط بين استقلال الأمة وانتصار عباس وعودته رغما عن الإنجليز. وخرجت المظاهرات تناصر عباس وتندد بالسلطان الخائن، واشتهرت الشعارات التي تطالب بذلك وتحولت إلى أغنيات شعبية أشهرها "الله حي.. عباس جيّ.. ضرب البمبة في "مؤخرة" العمدة وهو جيّ". وكان المقصود بالعمدة هو حسين كامل في إشارة لجهوده الزراعية القادمة.

ووصل الهجوم على السلطان إلى درجة تكرار محاولات اغتياله بدعم وترتيب من حركات وطنية صنفته كعميل مباشر للإنجليز، مما استدعى إعلان الإنجليز عن منح مصر الاستقلال في حال انتصارها في الحرب. وسعى حسين كامل لاجتذاب أطياف من الحركة الوطنية ودعوتهم والاستماع إليهم، وحضر الكاتب والصحفي أمين الرافعي أحد هذه الاجتماعات بعد خروجه من السجن وإغلاق صحيفة "الشعب" التي كان يصدرها، وفيما يشبه إغواء النخبة الصحفية بالتعاون مع السلطان ووقف التهجم عليه، وجه كلامه لأمين الرافعي قائلا: "طلّع الجازيتة يا أمين"، على اعتبار أن الصحف تصدر وتصادَر بكلمة من الحاكم. ولم تقتصر رغبة السلطان على الدعوة بالإصدار، فالحكام يعرفون أن الصحف تحتاج إلى تمويل، يضمن للممول التحكم في اتجاه وسياسة الصحيفة، لذلك كان سكرتير السلطان يقف على باب قاعة الاجتماعات ومعه ظرف مغلق يحتوي على خمسة آلاف جنيه، مد يده بها إلى أمين الرافعي الذي سأل باندهاش: ما هذا؟

فقال السكرتير: هدية من السلطان للمساعدة في إصدار الجازيتة كما أمر.

رفض الرافعي إصدار الصحيفة التي سجن بسببها، والتي كان يعمل على إعادة إصدارها بشغف واهتمام.

تأملت كلمة "أمر السلطان" التي قالها السكرتير، وتنبهت إلى أن ما تصورته (وربما تصوره الرافعي) أنه "رجاء"، فإذا بالسكرتير يعتبره "أمرا"..

هكذا نفهم أن الحكام يحبون ويدعمون الصحف التي تغني لهم، ويحاربون الصحف التي تذكرهم بالدستور وحقوق الناس والوطن. والمضحك المحزن أنني تخيلت سلاطين مصر الجدد، وهم يأمرون قائلين: "طلّع الجازيتة يا أمين"، فإذا بالأمين الجديد وأمثاله يهرولون لإصدار صحف التغني بالسلطان وافتتاح شاشات الرقص على جثة الوطن المختطف.

وفي المقال المقبل نواصل ما لا يجب أن تهمله الذاكرة من دروس التاريخ المكررة..

[email protected]