سنويا، يعقد في مدينة ميونيخ الألمانية «مؤتمر الأمن» (Münchener Sicherheitskonferenz) الذي يأتي إليه لتسجيل المواقف وتبادل الرأي مسؤولون حكوميون وسياسيون وإعلاميون من كافة الدول الأعضاء في حلف الناتو ومن دول أخرى قريبة من الحلف الغربي أو بعيدة قليلا عنه.
إلى دورة 2023 من المؤتمر والتي عقدت قبل أيام جاءت كاميلا هاريس نائبة رئيس الولايات المتحدة الأمريكية ومعها وزير الخارجية ووزير الدفاع في إدارة جو بايدن، وشارك فيها أيضا المستشار الألماني أولاف شولتز وعديد وزراء حكومته وكثير من مسؤولي الاتحاد الأوروبي ورئيس الوزراء البريطاني ووزير الخارجية الأوكراني ووزير الخارجية التركي والسكرتير العام لحلف الناتو وقادة عسكريون بارزون وبعض المسؤولين الحكوميين من دول آسيوية وأفريقية وأمريكية لاتينية.
سيطرت الحرب الروسية على أوكرانيا على نقاشات مؤتمر ميونيخ للأمن، حيث سجل الحضور الأمريكي والأوروبي دعمه الكامل لأوكرانيا سلاحا وتدريبا ومالا إلى أن تدحر العدوان الروسي وتستعيد سيادتها على أراضيها المحتلة في الشرق والجنوب. في كلماتهم أمام المؤتمر، عدد ممثلو إدارة بايدن وممثلو الحكومة الألمانية ورئيس الوزراء البريطاني وسكرتير عام حلف الناتو أنواع السلاح الذي قدم للجيش الأوكراني وصنوف الدعم التدريبي واللوجيستي والمالي الذي منح لحكومة كييف وتصدرت التفاهمات الأخيرة المتعلقة بدبابات أبرامز الأمريكية وليوبارد الألمانية القائمة.
في كلماتهم أمام المؤتمر أيضا، شدد الأمريكيون والأوروبيون على حتمية انتصار أوكرانيا واستعدادهم لمواصلة دعمها إلى أن يخرج الجيش الروسي من أراضيها وعزمهم عدم تمكين روسيا من الحصول على مكاسب من جراء عدوانها. وفي كلمات أخرى، أكد الغربيون رغبتهم في إتمام ضم السويد وفنلندا إلى حلف الناتو والعمل على تأمين حدود الدولتين مع روسيا مثلما تؤمن حدود أعضاء الحلف الحاليين في وسط وشرق أوروبا وفي دول البلطيق إزاء التهديدات الروسية.
وتميز فريق إدارة بايدن بالمزج بين حديث السلاح والدعم وبين المقولات الأيديولوجية التي توصف بها الحرب بين روسيا وأوكرانيا كحرب بين الاستبداد والديمقراطية، بين الاعتداء على السيادة الوطنية للآخرين والدفاع الشرعي عن السيادة الوطنية، بين الشر الذي يمثله فلاديمير بوتين والخير الذي يمثله فلوديمير زيلينسكي. أما وزير الخارجية الأوكراني، ديمترو كوليبا، فقد وظف مشاركته في نقاشات المؤتمر للمطالبة بالمزيد من العتاد العسكري الغربي لبلاده خاصة طائرات مقاتلة والمزيد من النظم الصاروخية، هجومية ودفاعية.
غريب أمر
الحكومات الأوروبية التي كان السلام والتفاوض ديدنها في كل النزاعات والصراعات بعد 1945، غريب أمر الرأي العام في ألمانيا وفرنسا وبريطانيا الذي صار مرحبا بأحاديث الحروب والسلاح
تابعت النقاشات والكلمات العلنية في المؤتمر، وهالتني، من جهة أولى، مقولات التعبئة العسكرية لحلف الناتو وشعارات الدعم اللانهائي والنصر الحتمي لأوكرانيا وإشارات الأمريكيين والأوروبيين الكثيرة لصنوف السلاح التي قدموها لكييف وأيديولوجيا «الخير في مواجهة الشر» التي لم يعد للغرب من حديث سواها.
هالتني جميعها لأنها عنت سيطرة أجواء الحرب بمفردها على مؤتمر للأمن يعقد في قلب القارة الأوروبية التي ذاقت الأمرين من الحروب، أوروبا التي تدرك شعوبها قبل شعوب القارات الأخرى أن سياسات السلام والتعاون والحوار وحسن الجوار هي ضمانات الأمن الأكثر فاعلية والأطول مدى، أوروبا التي تمثل ألمانيا قلب اتحادها الذي تمكن باعتماد مبادئ السلام والتعاون من إبعاد الحروب عن القارة العجوز والحفاظ على الاستقرار لعقود طويلة.
هالني، من جهة أخرى، أن يعقد مؤتمر ميونيخ للأمن ولا تخرج عنه ولو مبادرة حقيقية واحدة بهدف التفاوض بين روسيا وأوكرانيا والبحث عن حل سلمي للحرب الدائرة منذ أكثر من عام.
تشدد الأمريكيون والأوروبيون في العلن ليقبلوا موقف حكومة كييف الرافض للتفاوض قبل انسحاب القوات الروسية من شرق وجنوب أوكرانيا، وكرروا نفس الموقف من وراء الأبواب المغلقة مستخفين بتداعيات أمد طويل للحرب (وفقا لما ذكر لي أحد المشاركين في المؤتمر). وفي هذا جنون كامل، ليس فقط لأن الحسم العسكري في حرب روسيا وأوكرانيا يظل أمرا خياليا، بل لأن إطالة أمد الحرب ينعكس على العالم واقتصاده وأوضاعه بالسلب، بل إن القارة الأوروبية تعاني على وجه الخصوص من سلبيات خطيرة في مجالات الاقتصاد والمال والطاقة وسباق التسلح المشتعل على أراضيها ومجمل الضغوط المجتمعية التي تتعرض لها بلدانها.
هالني انسحاق إرادات الأوروبيين للموقف الأمريكي الراغب في مواصلة المواجهة العسكرية مع روسيا على الأراضي الأوكرانية إلى أن تركع موسكو وتنسحب وتتخلى عن رفضها للتوسع المطرد لحلف الناتو وعن الاهتمام باعتبارات أمنها القومي الأخرى التي دفعتها إلى إشعال الحرب ويعتذر الرئيس الروسي بوتين عن عدوانه ويحاسب على جرائم الحرب، وجميع هذا لن يحدث. لا يتحمل الأمريكيون الكلفة الاقتصادية والمجتمعية الباهظة التي يتحملها الأوروبيون، وعلى الرغم من ذلك تنسحق إرادات أوروبا إزاء الرغبة الأمريكية في تركيع روسيا وحماية هيمنتها على النظام العالمي بعين على الصراع الأهم والتنافس الأكثر تعقيدا مع الصين.
غريب أمر أوروبا في سياق الحرب الروسية على أوكرانيا، معاناة لا تدفع بلدانها إلى الدعوة إلى التفاوض، وسباق تسلح مهلك تقبل عليه حكوماتها على الرغم من الضغوط، وانجرار وراء الرغبة الأمريكية في تركيع روسيا والأوروبيون يدركون أن روسيا جارتهم التاريخية ولا يملكون إلغاءها من خريطتهم.
غريب أمر الحكومات الأوروبية التي كان السلام والتفاوض ديدنها في كل النزاعات والصراعات بعد 1945، غريب أمر الرأي العام في ألمانيا وفرنسا وبريطانيا الذي صار مرحبا بأحاديث الحروب والسلاح بدلا من مبادرات التفاوض والحلول السلمية.
حين يضطر الفيلسوف الألماني المعاصر الأهم، يورجن هابرماس، لأن يلقي باسمه ووزنه الأكاديمي والفكري إلى الصحافة اليومية، كما فعل منذ أيام قليلة في مقال على صفحات جريدة «زويددويتشه تسايتونج (Süddeutsche Zeitung) يدعو به إلى التفاوض ويشدد على المسؤولية التاريخية للأوروبيين في المزج بين دعم أوكرانيا وبين تشجيعها على التفاوض مع روسيا ويذكر بأن القارة العجوز لا تملك ترف تجاهل روسيا، فإن هذا يقدم إشارة بالغة الوضوح على مدى انسحاق مواقف الحكومات الأوروبية والرأي العام أمام السياسة الأمريكية ومدى صعوبة مجرد الدعوة إلى التفاوض والحل السلمي وكأن الهدف هو إطالة أمد الحرب والبحث عن نصر نهائي على روسيا أبدا لن يأتي.