ربما لم أوفّق في
المقالة السابقة في الحديث عن الفوائد والمزايا التي
يجنيها الكيان الصهيوني جراء عمليات
التطبيع؛ وقللت من آثار ذلك حين قلت في مقدمة
المقال: "لن يجني الكيان الصهيوني الكثير من المنافع، ولن
يحقق الكثير من النجاحات جراء اتفاقيات التطبيع التي يسارع فيها مع دول عربية وغير عربية، كما
يتوهم"، وأعترف هنا أن ما قلته سقطة ربما جلبتها لذهني بعض التصريحات
والمواقف هنا وهناك -وليس
عيبا أن يعترف الإنسان بخطئه- إلا أن الحقيقة غير ذلك؛ فهو يكاد يكون المستفيد
الوحيد من عمليات التطبيع المؤلمة التي باتت تؤرق الشعب
الفلسطيني والشعوب العربية
التي كانت وما زالت وستظل مؤيدة لحقوق الشعب الفلسطيني، وإن خلع حكامها ورقة التوت
ليستبدلوا بها ورقة نعناع غضة للإيهام بأن عوراتهم المكشوفة لم تزل مصانة..!!
تتسارع عمليات التطبيع بوتيرة عالية، ويسابق نتنياهو الزمن مستغلا العلاقات
الحميمة مع الولايات المتحدة وجماعات الضغط الصهيونية فيها للَيّ عنق الدول
المترددة في التطبيع، والتي باتت على شفا توقيع صغير على ورقة معدة مسبقا، قوامها استيراد
التكنولوجيا
الإسرائيلية، مقابل ما لا يعد ولا يحصى من مزايا للكيان المحتل، بعضها
مرقوم في هذه الورقة، وبعضها الآخر يمكن أن نطلق عليه "ما خفي أعظم"، وعلى
رأسه سكوت هذه الأنظمة عما يقوم به المحتل من عمليات إجرامية في محاولة تهويد
الأقصى الشريف، وقتل الفلسطينيين، واعتقالهم وتعذيبهم وهدم بيوتهم، ناهيك عن صيحات
المتطرفين التي تنادي بضم الضفة الغربية للكيان.
الدول المطبّعة وبينها الدولتان الراعيتان للاجتماع، وهما مصر والأردن، لا تعني شيئا للكيان الصهيوني، وأن التطبيع ليس أكثر من مجرد حبر على ورق حين يتعلق الأمر بالمطبعين العرب، وليس أقل من دم على أرض محروقة حين يتعلق الأمر بالكيان المحتل
-وبعد
الاجتماع الذي عقد في مدينة العقبة جنوب الأردن الأحد الفارط (26
شباط/ فبراير) بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي بحضور أردني مصري أمريكي لمعالجة
المشكلات الأمنية القائمة- لم ينتظر المستوطنون طويلا؛ حين قاموا بعد الاجتماع،
بحماية من جيش الاحتلال،
بالاعتداء على بلدتي "حوارة" و"زعترة"
جنوب مدينة نابلس، حيث أحرقوا نحو 35 منزلا بشكل كامل، ونحو 100 سيارة، و40 منزلا
بشكل جزئي، واعتدوا على 3 سيارات إسعاف، وأصابوا 390 مواطنا وقتلوا آخر؛ بما يؤكد
أن الدول المطبّعة وبينها الدولتان الراعيتان للاجتماع، وهما مصر والأردن، لا تعني
شيئا للكيان الصهيوني، وأن التطبيع ليس أكثر من مجرد حبر على ورق حين يتعلق الأمر
بالمطبعين العرب، وليس أقل من دم على أرض محروقة حين يتعلق الأمر بالكيان المحتل..!!
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل تستطيع مصر والأردن وبقية الدول العربية
المطبعة أن تتخذ والحال هذه، إجراءً جادا وجريئا لصالح الفلسطينيين، كأن يمتنعوا
عن الحضور المتفق عليه في مصر بعد أيام قليلة لاستكمال التفاهمات حول التهدئة
المزعومة بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي على أقل تقدير؟
إن الجرائم المروعة في حق الفلسطينيين تمر بشكل طبيعي، وشهداؤهم لا تعزي
فيهم هذه الأنظمة المتواطئة السادرة في غيّها، كأنها خُشب مسنّدة، لكنهم يسارعون
لتعزية الصهاينة إذا قُتل أحد منهم، ويعدّون المنفّذ إرهابيا، والعملية إرهابية..!!
من الواضح أن عمليات التطبيع مع الكيان الصهيوني لا تخدم الفلسطينيين ولا العرب، والادعاء الساذج بأنها تخدم الفلسطينيين كلام لا أساس له من الصحة، ولو استعرضنا الفوائد والخدمات التي يقدمها الكيان للدول المطبعة، لوجدناها لا تعدو كونها نوعا من التدجين والتحييد لهذه الدول مقابل تزويدها ببعض التقنيات الإسرائيلية، وعلى رأسها أنظمة التجسس على الشعوب
ومن الواضح أن عمليات التطبيع مع الكيان الصهيوني
لا تخدم الفلسطينيين ولا العرب، والادعاء الساذج بأنها تخدم الفلسطينيين كلام لا
أساس له من الصحة، ولو استعرضنا الفوائد والخدمات التي يقدمها الكيان للدول
المطبعة، لوجدناها لا تعدو كونها نوعا من التدجين والتحييد لهذه الدول مقابل
تزويدها ببعض التقنيات الإسرائيلية، وعلى رأسها أنظمة التجسس على الشعوب، أما بقية
التقنيات فهي متوفرة في الدول الأوروبية، وليست حكرا على الكيان الصهيوني، ويمكن
الحصول عليها بسهولة من دون اللجوء إلى الأخير.
لقد استطاعت القوة الناعمة للولايات المتحدة أن
تقنع المغرب بالتطبيع مقابل الاعتراف الأمريكي بأحقية المغرب في الصحراء المتنازع
عليها؛ فما كان من المغرب إلا أن ضحّى بالقضية الفلسطينية، وصمت على فظائع المحتل
وجرائمه، ونسي أنه ترأس لجنة القدس الشريف العائدة بتبعيتها إلى منظمة التعاون
الإسلامي؛ ونسي تاريخه المشرف منذ عهد صلاح الدين في القدس، وهدم المحتل لحي
المغاربة وللوجود المغربي الشامخ في القدس، وبكل بساطة، وبسرعة غريبة استسلم
المغرب للكيان الصهيوني وسلمه رقبته على طبق من هوان وعار. لكن الشعب المغربي لم
يستسلم، ولن يستسلم؛ فهو من الشعوب الحية والعصية على التدجين، والرافضة بقوة لكل
أشكال التعاون مع الكيان المحتل، وشهدت على ذلك التحركات الشعبية في معظم المدن
المغربية رفضا لعملية التطبيع وما نتج عنها، وما سينتج..
أما السودان فكان الأسرع في تسليم ذقنه للكيان
المحتل، بلا مقابل يذكر سوى دعم الانقلاب الأسود للجيش الذي يقوم بدور قمة في
الهوان، محاولا السيطرة على مقاليد الأمور بشكل أسوأ مما كان إبان حكم البشير؛ بما
يجعلنا نحس بأن نظام السودان الحالي نظام كرتوني هش إلى أبعد الحدود، وأنه لا يقيم
وزنا للقضية الفلسطينية، ولا يضطلع بدوره القومي ولا بلاءات الخرطوم الثلاث التي
صدرت عن القمة العربية التي عقدت في الخرطوم 29 آب/ أغسطس 1967، إثر الهزيمة
المهزلة.
تعمل الإمارات جنبا إلى جنب مع الكيان المحتل على إقناع بعض دول أفريقيا بتقبّل التطبيع مقابل وعود بروابط اقتصادية وتجارية وتقديم مساعدات مالية؛ حتى لكأن الإمارات باتت أحد الأفرع السياسية والأمنية للكيان الغاصب
وعلى الطريق دول أخرى ستدخل الماخور الصهيوني
عاجلا أم آجلا، بعد أن سارعت تشاد التي يتكلم أهلها العربية ويدين أكثر من 50 في
المئة منهم بالدين الإسلامي، إلى التطبيع وقام رئيسها مؤخرا بزيارة الكيان المحتل،
كما قام ساسة إسرائيليون بزيارات لبعض دول أفريقيا في محاولة لإدخال هذه الدول في
مستنقع التطبيع، وذلك في محاولة لتحييد أفريقيا تجاه الصراع الفلسطيني الإسرائيلي،
وإيقاف دعمها للفلسطينيين في المحافل الدولية. وتعمل الإمارات جنبا إلى جنب مع
الكيان المحتل على إقناع بعض دول أفريقيا بتقبّل التطبيع مقابل وعود بروابط
اقتصادية وتجارية وتقديم مساعدات مالية؛ حتى لكأن الإمارات باتت أحد الأفرع
السياسية والأمنية للكيان الغاصب.
وفي تصريح لوكالة الأناضول قال المتحدث باسم رئيس
الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو: "توسيع رقعة العلاقات الإسرائيلية الأفريقية
يحظى باهتمام كبير، بل بأولوية كبيرة بالنسبة إلى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو،
الذي يبذل جهودا حثيثة لتعزيز العلاقات الإسرائيلية مع الدول الأفريقية، وخاصة مع
الدول التي قطعت علاقاتها مع إسرائيل في السبعينيات من القرن الماضي". إلا أن
محللا سياسيا إسرائيليا صرح بأن "تل أبيب لم تنجح بعد في وقف دعم الأفارقة
السياسي للفلسطينيين، على الرغم من الاختراقات المحدودة هنا وهناك". إلا أن
ذلك لن يثني الكيان المحتل عن استمرار المحاولات، لا سيما في ظل التهافت العربي
على التطبيع، وهو ما يجعل دول أفريقيا ترى الأمر بمنظار جديد، فالتطبيع العربي
يفتح الباب على أفريقيا واسعا، ليطرح الأفارقة
على أنفسهم السؤال التالي: إذا طبع العرب أصحاب القضية، فلماذا نمتنع نحن عنه؟!