عقد لقاء العقبة مطلع الأسبوع الحالي بمبادرة أمريكية وبمباركة مصرية وأردنية وبمشاركة فلسطينية، وباستجابة
إسرائيلية انطلاقا من مصلحة مباشرة في «تهدئة التوّتر الأمني» عشية شهر رمضان.
وأثار اللقاء غضبا عارما في الشارع الفلسطيني، الذي لا يقبل بلقاءات من هذا النوع، خاصة في ظل الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة والوحشية على المدن والقرى الفلسطينية. وفي خضم لقاء «التهدئة» على شاطئ خليج العقبة، اشتعلت النار في جبل النار النابلسي، حيث سبق اللقاء استشهاد 11 فلسطينيا في هجوم إسرائيلي مسلح في وضح النهار، وقُتل بعدها ثلاثة مستوطنين في عمليات إطلاق نار في منطقتي نابلس وأريحا، وقام حوالي 400 مستوطن باقتحام وحشي فاشي لبلدة حوّارة، وقتلوا فلسطينيا وأحرقوا عشرات السيارات والمنازل والمحال التجارية.
العقبة هي شقيقة نابلس في قلب ووجدان وضمير أهلها، لكن المؤتمِرين في العقبة كانوا في واد وصدامات نابلس في جبل آخر، ومن المستحيل مد خط مستقيم بينهما، حتى استنادا إلى الهندسة اللا-إقليدية.
اجتمع المجتمعون في العقبة وكأنّهم، وفق الأسير الفلسطيني وليد دقة، في «الزمن الموازي». هم تحدّثوا عن التوتر الأمني والاحتقان، لكنّهم تجاهلوا أسباب الاحتقان. كيف يمكن الحديث عن تهدئة أيام قليلة بعد مجزرة نابلس، التي ذهب ضحيتها 11 شهيدا؟ أليس نوعا من الهلوسة الاعتقادُ بأن الناس سوف تصدّق قرارات تخفيف التوتر، وأمام أعينهم جرائم الاحتلال اليومية والمتكررة؟ ثمّ، أيهما يؤثّر في الفلسطيني والفلسطينية أكثر: مشهد جثامين الشهداء؟ أم دعوات ضبط النفس؟ ثم لو افترضنا أن الناس ضبطت نفسها، فما الذي سيأتي بعد ضبط النفس؟ أليس كبت النَّفَس؟
لا شيء مما ورد ذكره في نقاشات وقرارات العقبة يلامس ما هو مهم وحيوي بالنسبة للمواطن الفلسطيني العادي، فما بالك بالشباب المنخرط في النضال ضد الاحتلال. هي مصالح أنظمة، وليس كل الأنظمة لأنه لا يمكن لأحد أن يشرح بشكل مقنع ما مصلحة النظام الفلسطيني الاستراتيجية، وليس العابرة فقط، في مثل هذا التوجّه.
لقد دارت قرارات العقبة، المعلنة وغير المعلنة، في فلك المصالح الإسرائيلية، ولم يبق للفلسطينيين غير التقاط فتات مصالح.
ـ ترتيبات أمنية واقتصادية تفرمل انهيار
السلطة، مع العلم أنها ترتيبات مؤقّتة قد تساعد في بقاء السلطة حاليا، لكنّها لن تفيدها وقد تضرها لاحقا. إسرائيل ليست مستعدّة للحد الأدنى من احتياجات السلطة الفلسطينية ولا حتى لتطبيق التزاماتها وفق اتفاق أوسلو (السيئ أصلا) من انسحابات ومعبر آمن بين الضفة وغزّة والامتناع عن خطوات من طرف واحد في القدس والضفة. إسرائيل تريدها سلطة ضعيفة أمامها ومستقوية على شعبها.
ـ الأطراف المشاركة في العقبة تسعى إلى تطوير قدرة السلطة على القيام «بدورها» في منع المقاومة. وأقل ما يقال في ذلك أنّها مصلحة إسرائيلية في تحقيق هدوء في ظل الاحتلال، وهي مناقضة للمصلحة الفلسطينية في تصعيد النضال للتخلّص من الاحتلال. هناك طبعا طريق لإنهاء مقاومة الاحتلال وهي إنهاء الاحتلال، وهذا لا يطرح بجدية في العقبة أو في غيرها.
ـ من منح الحق للمشاركين في العقبة في بحث مرحلة ما بعد محمود عبّاس؟ أليس الشعب الفلسطيني هو الذي يقرر؟
ـ نصب سلّم لإعادة
التنسيق الأمني رسميا، عبر تشكيل لجنة إسرائيلية ـ فلسطينية خاصّة. المصادر الإسرائيلية تدعي أن التنسيق الأمني ألغي في العلن وساري المفعول في غير العلن. في المقابل، الموقف السائد لدى الشعب الفلسطيني هو أن على الأجهزة الأمنية أن تصطف في الدفاع عن الشعب الفلسطيني في وجه اعتداءات الجيش والمستوطنين. وإذ يبدو هذا بعيدا، فهو قد يحدث قريبا، لأن أفراد الأجهزة الأمنية هم من أبناء الشعب الفلسطيني ويعيشون في صفوفه ويؤثّر فيهم ما يؤثّر فيه.
ـ في العقبة تحدّثوا بكل وقاحة عن الالتزام بالاتفاقيات الموقّعة. إسرائيل من جهتها لم تلتزم، لقد آن الأوان لطرح الموضوع بوضوح، على الأقل: إمّا أن تلتزم إسرائيل أو تلغى الاتفاقيات، التي لم يبق منها سوى التنسيق الأمني.
ـ وتحدثوا أيضا عن خطوات بناء الثقة، وهل يصدّق أحد أن الأمر ممكن مع أكثر الحكومات الإسرائيلية تطرفا؟ المطروح إسرائيليا هو عكس ذلك تماما: المزيد من الاستيطان والمصادرة والهدم والتدمير والقتل والعدوان. وباختصار، أنت لا تجني من الشوكِ العنب.
ـ ثم هم بحثوا مهزلة تجميد نقاش مشاريع استيطانية جديدة لمدة 3-6 أشهر. لقد ناقشت الحكومة الإسرائيلية وقررت منح شرعية قانونية لـ13 بؤرة استيطانية، وبناء أكثر من 7 آلاف وحدة سكنية، وهذا بالطبع كاف للمدة المحددة، وبعدها تأتي قرارات جدية. الوزير الإسرائيلي المسؤول عن الاستيطان بتسلئيل سموترتيش رد على ذلك، «أنا المسؤول عن الاستيطان ولن يكون هناك تجميد للاستيطان ولو ليوم واحد».
في حوّارة
المستوطنون الذين اقتحموا بلدة حوّارة جنوبي نابلس ونفّذوا فيها جريمتهم النكراء، كانوا مجموعات منظّمة ولم يتحرّكوا تلقائيا في «فورة دم» بدافع الانتقام، بل تحرّكوا كوحدات ميدانية تعمل بتنسيق وبتقسيم عمل بين فرق تحطيم الزجاج وفرق حرق السيّارات وفرق تكسير المحال التجارية وفرق حرق المنازل. وقد شوهد قادتهم وهم يوزّعون الأوامر ويوجّهون عصاباتهم.
في المقابل لم يكن هناك من يدافع عن المواطن الفلسطيني، حيث اختفت الأجهزة الأمنية الفلسطينية وتوارت وحدات الجيش والشرطة الإسرائيلية التي كانت موجودة في المنطقة والمناطق المجاورة. المستوطنون الفاشيّون، يشعرون بأنهم يواصلون عمل الجيش، ولا يحسّون بأنهم يشذّون عن قواعد الاحتلال، بل هم القاعدة بدليل تعاون الأجهزة الأمنية معهم ووجود وزراء في الحكومة نموا وترعرعوا في أطر ميليشيات المستوطنين المسمّاة «شباب التلال».
هم لا يعترفون أصلا بما يقال في العقبة، وبكل ما يقال للفلسطينيين، وغالبا يُهمس في آذانهم أن لا يأخذوا كلام الاجتماعات بجدّية. ولعل ما يشير لنواياهم ونوايا من خلفهم ومعهم هو تغيير صفحة بلدة حوّارة على «ويكيبيديا» إلى أنّها بلدة يهودية يرأسها إيتمار بن غفير، وبقي هذا التغيير قائما طيلة العدوان على حوّارة. مجزرة نابلس، التي هي أفظع من العدوان على حوّارة على فظاعته، ومجازر جنين والاعتداءات والمداهمات اليومية والليلية، لم تردع الشباب الفلسطيني، وهي لن تردعه مستقبلا.
ومن غباء إسرائيل أن تعتقد أنّها تستطيع إخماد النار المشتعلة بصب الزيت عليها، وأنها قادرة على همد لهيب انتفاضة شعبية برصاص فرق الموت الإسرائيلية. بعيدا في العقبة يتحدّثون عن تهدئة وهنا في نابلس يرتكبون الجرائم وكل الموبقات. في الحقيقة فإن الحديث هو عن تهدئة فلسطينية من طرف واحد، مع مواصلة إسرائيل لاستهداف ما تسمّيه تهديدات محدقة، وكل ما يفعله الفلسطيني أو لم يفعله قابل أن يتحوّل باللغة الإسرائيلية إلى تهديد محدق.
ماذا تريد إسرائيل
ما تطلبه إسرائيل من الفلسطينيين أن يساعدوها في قمعهم واضطهادهم، فهي تريدهم أن يسهّلوا عليها الفوز بقبول دولي لحكومة اليمين المتطرّف، وقد استفادت الدبلوماسية الإسرائيلية كثيرا من اجتماع العقبة، عبر توجّيه رسالة إلى الجهات الدولية، التي تشعر بالنفور من حكومة نتنياهو- سموتريش- بن غفير، بأنها تجري مباحثات وتقيم اجتماعات لبناء الثقة مع الفلسطينيين. وهذا ربح صاف للدولة الصهيونية وحكومتها الفاشية، كيف يمكن أن تطالب فلسطين العالم بمقاطعة حكومة تفاوضها هي؟ المسعى الآخر لحكومة نتنياهو هو أن يعينه الفلسطينيون في الحفاظ على الهدوء حتى يمرر الانقلاب على النظام، ليتفرّغ بعدها لهم ومعه صلاحيات أوسع في البطش بهم، إذ تهدف التغييرات القانونية والبنيوية المطروحة في إسرائيل إلى توفير أدوات وصلاحيات غير محدودة لحسم الصراع.
وهذا يذكّرنا بمحاولة تنفيذ حكم بالإعدام على كرسي كهربائي لرجل سمين في سجن أمريكي، فبعد أن باءت كل محاولات حشره في الكرسي بالفشل، منحته لجنة الإعدام مدة ثلاثة أشهر لتخفيف الوزن. بعدها عادت لتجده كما هو، فسألته عن سبب عدم قيامه بالتخسيس، فأجاب: لم يكن لديّ دافع! والسؤال: ما الدافع الفلسطيني لمساعدة إسرائيل في قمع شعب فلسطين؟ أم أنها حالة عمى وإنكار للواقع؟ ولكن الشعب الفلسطيني قال كلمته في «فصل المقال في ما بين العقبة ونابلس من انفصال».
(عن صحيفة القدس العربي)