قبل أكثر من شهر (تحديدا يوم 26 كانون الثاني) نفذ جيش الاحتلال مذبحة في مخيم جنين مماثلة لتلك التي نفذها قبل عشرة أيام في مدينة نابلس. في مجزرة جنين استشهد عشرة فلسطينيين، أما في نابلس فقد استشهد أحد عشر فلسطينيا، وفي كلا الجريمتين كان هناك العشرات من الجرحى.
لا أعتقد أن أحدا من الفلسطينيين فوجئ بمثل هذه الجرائم، والذاكرة الفلسطينية مليئة بمثلها.
إذا تحدثنا فقط عن غزة منذ بدأ الحصار عليها العام 2007 فإن عدد شهداء الجرائم
الإسرائيلية بحق أهلها يفوق الـ 4240 شخصا، بالإضافة إلى الآلاف من الجرحى وعشرات الآلاف من البيوت المدمرة.
المقاومة العنيفة للاحتلال نتائجها معروفة، ليس من واقع تجربتنا فقط، ولكن من تجارب الآخرين.
كلما تصاعدت المقاومة العنيفة تصاعد معها القتل العشوائي وتدمير البنى التحتية والضغط اللامحدود على القاعدة الشعبية للمقاومة – على حاضنتها، بهدف عزل المقاومة عنها، وتحييدها، ومنع تصاعدها. لذلك كل ما يقوم به الاحتلال الآن من عمليات قتل وتدمير هو معروف مسبقا للفلسطينيين.
حتى هجوم عصابات المستوطنين على قرية حوارة قبل يومين لا جديد فيه؛ لأن هذه العصابات قد هاجمت الفلسطينيين سابقا في أكثر من قرية ومدينة، ووجود هذه العصابات في قلب مدينة الخليل واعتداءاتها شبه اليومية على سكانها معروف، لدرجة أن العديد من الفلسطينيين يتجنب التجول فيها خوفا من المصير المجهول.
في هذا السياق هنالك سؤال علينا أن نجيب عنه:
هل يمكن للمقاومة المسلحة أن تعزز من قوتها وحضورها، وفي نفس الوقت تجنب قاعدتها الشعبية الإرهاب الإسرائيلي؟
لا يوجد جواب مختصر لهذا السؤال، لكن تجارب الآخرين تقول؛ إن تجنيب الحاضنة الشعبية للمقاومة إرهاب دولة الاحتلال، هو مسألة ممكنة، لكنها تأتي مع الوقت ومع قدرة المقاومة على تطوير قدراتها على
الردع وعلى المحافظة على وحدتها الميدانية وتعزيزها.
سنأتي على ذلك من واقع التجربة اللبنانية، لكن ما هو مهم الآن، هو أن نتذكر أن الاحتلال الإسرائيلي ليس له مثيل في التاريخ يمكن القياس عليه. الأقرب قد يكون الاستعمار الفرنسي للجزائر أو استعمار البريطانيين والإسبان لأمريكا الشمالية والجنوبية أو البريطانيين لجنوب أفريقيا. لكن التشابه هو أيضا محدود.
في حالة الجزائر، أحضرت فرنسا مئات الآلاف من الفرنسيين لاستيطانها، لكن فرنسا كانت بعيدة عن الجزائر، وعندما هُزِمت أمام المقاومة الجزائرية عاد المستوطنون الفرنسيون مع جيشهم إلى بلدهم. المقاومة الجزائرية، لم تنجح في حماية قاعدتها الشعبية أو تجنيبها عنف الجيش الفرنسي ومستوطنيه، لكنها صمدت وانتصرت.
في حالة أمريكا الشمالية والجنوبية، أباد المستوطنون البيض السكان الأصلين كليا، ولم يبقَ منهم إلا القليل الذي يطالب الآن ببعض الحقوق الثقافية والمادية. القاعدة الشعبية أبيدت بكاملها!
في جنوب أفريقيا استقل «المستعمرون البيض» عن بريطانيا العام 1934 وأسسوا نظام فصل عنصري فيها، لكن هذه الأقلية العنصرية البيضاء لم تهدف إلى ترحيل الغالبية السوداء، وإنما إلى الحفاظ على سيطرتها على الدولة وإبقاء الغالبية السوداء «عُمالا» لديها. كانت هناك معاناة جماعية بالتأكيد ولكنها غير مرتبطة بالمقاومة العنيفة أو السلمية التي نظمها حزب المؤتمر الوطني، ولكن بالرغبة في الحفاظ على النظام العنصري القائم، الذي انتهى باضمحلاله بالمقاومة وبتأييد المجتمع الدولي الذي عزل وقاطع نظام الفصل العنصري.
في الحالة الفلسطينية الوضع مُختلف. لا يوجد تماثل مع فرنسا أو المستوطنين البيض في أمريكا الشمالية أو الجنوبية، ولا تماثل مع دولة جنوب أفريقيا العنصرية، رغم تشابه السلوك العنصري معها، لأن الغرب لا يريد مقاطعة وعزل إسرائيل، بل يقوم بدعمها بكل الثقل الموجود لديه.
أيضا والحمد لله لم يتمكن الاحتلال من إبادة الشعب الفلسطيني، ولم ينجح في إخلاء الأرض الفلسطينية من أهلها، واليوم عدد الفلسطينيين بين البحرين الأبيض والميت يُماثل أو يزيد على عدد الإسرائيليين.
يتبع ذلك حقيقتان: الأولى أن الصراع مع دولة الاحتلال سيكون قاسيا وطويلا؛ فلا وجود لدولة «إسرائيلية أخرى» يَرحلُ إليها جنود الاحتلال ومستوطنوه. والثانية أن الاسرائيليين أيضا مكشوفون للفلسطينيين وللمقاومة، وهذا مصدر ضعف كبير لهم.
انكشافهم هذا هو ما يُجبرهم على عقد صفقات مع المقاومة بعد كل حرب معها. صحيح أنهم لا يلتزمون بهذه الصفقات ويعودون مجدداً لقصف حاضنة المقاومة وإيلامها، لكن ذلك فقط لأن قدرة المقاومة على الردع لم تصل إلى درجة تسمح لها بفرض معادلاتها، وهي مسألة وقت، وجهد، وصبر، وتصميم.
بالعودة للمثال اللبناني، أول معادلة تمكنت المقاومة اللبنانية من فرضها على إسرائيل لتجنيب التعرض لحاضنتها الشعبية كانت العام 1996، أي بعد أحد عشر عاما على انطلاق المقاومة اللبنانية (بافتراض انطلاقها بشكل رسمي العام 1985). قصف إسرائيل لقرية قانا اللبنانية أعقبه قصف شديد من المقاومة اللبنانية للمستوطنات الإسرائيلية، تم على ضوئه الاتفاق بين الجانبين على عدم التعرض للمدنيين.
هذا الوضع بقي قائما إلى العام 2006 عندما اندلعت الحرب مع دولة الاحتلال، خلالها قامت الأخيرة باستهداف البنى التحتية اللبنانية وبتدمير الضاحية الجنوبية، لكنها اضطرت في النهاية لقبول وقف إطلاق النار؛ لأنها تعرضت على مدار 33 يوما لقصف استهدف مستوطناتها الشمالية وأحياءها في حيفا وتل أبيب. بكلمات أخرى، القصف بالقصف فرض معادلة إنهاء الحرب وتجنيب المدنيين الدمار.
في لبنان نجحوا لسبيين: الأول لأن سوريا أبقت خطوط إمداد المقاومة بالعتاد والغذاء مفتوحة وساعدت حتى على إيواء اللاجئين. والثانية هي مركزية قيادة المقاومة. هنالك فصيل مقاوم واحد قيادته تتخذ القرارات، والجميع يلتزم بها.
ليس من السهل فلسطينيا وصول المقاومة لنفس الحالة التي وصلت إليها المقاومة اللبنانية. لا يوجد ظهير داعم خطوطه مفتوحة للمقاومة، ومن ثم لا تمتلك المقاومة في غزة إلى الآن أسلحة رادعة، وهناك أكثر من عشرة فصائل فلسطينية مقاومة، بعضها أحيانا يقرر وحده ما يجب القيام أو عدم القيام به.
هذا لا يعني استحالة الوصول إلى مرحلة ردع تمكن المقاومة من حماية قاعدتها الشعبية وتجنيبها أعمال القتل.
المسألة ممكنة، لكنها تحتاج إلى الوقت الذي يمكن خلاله، إذا كانت هنالك إرادة بالطبع، من امتلاك قوة رادعة، وهذا يحتاج أيضا إلى وحدة حقيقية ميدانية، وإلى قيادة مركزية للمقاومة لحماية هذه الوحدة.
إلى أن تصل المقاومة لذلك، لن تستطيع بالتأكيد حماية قاعدتها أو حاضنتها الشعبية.