رحل المخرج أسامة فوزي عن عالمنا مبكرا في سن الـ57 عام 2019، مخلفاً وراءه أربعة أفلام، وتحديات مع الرقابة والإنتاج التي حالت دون تمكنه من إكمال طريقه السينمائي.
قدم فوزي بالشراكة مع صديقه الكاتب مصطفى ذكري أول فيلمين له وهما عفاريت الأسفلت 1996 وجنة الشياطين 1999 برفقة نجمه محمود حميدة في كل من الفيلمين، وتعاون لاحقاً مع الكاتب هاني فوزي في فيلمي بحب السيما 2004 وفيلم بالألوان الطبيعية 2009 ليكون نهاية مشروعه السينمائي.
عفاريت الاسفلت وجنة الشياطين يمثلان عالماً خاصاً من العنف، عالمٌ قادر على إطلاق كلّ وحشية الزمن المدفونة، حكاية الشوارع والبيوت، حكايات الناس التي تحيا في الظلمة ضمن زواريب وأزقة المدينة. حكايات عن الموت والسعادة عن الشهوة والسجائر، عن الشاي والميكروباصات، عن الأسفلت وماسحي الأحذية، عن الحلاق وحكاياته عن الجنون والطمع.
في عفاريت الأسفلت قدم فوزي صورة اجتماعية عارية مسحوقة، وكلما سُحقت أكثر تأكلُ أهلها، مع محمود حميدة الذي يحاكي جيمس دين الحارات الشعبية وأسرته، أسرة من قاع المدينة من قلب المدينة، عائلة تضخم بشكل فجّ كلّ احتقان البلد، نتلصص برفقة كاميرا فوزي على حياة العائلة، نخترق عالمهم من الشبابيك ونتلصص من الأبواب، على عبدالله "سواق الميكروباص" الرجل الستيني برفقة زوجته وابنته وابنه "سيد" ووالده الشيخ الكهل.
في يوميات عبد الله وابنه السيد، نشعر باختناق أمام دوامة من التكرار والعود الأبدي، الرجل الستيني الذي يحمل سيجارة بيد وبخاخة موسعة للقصبات الهوائية بالأخرى والمحكوم عليه بالمرض سلفاً قبل أن يحيى، والسيد الابن الشاب والفتى المتلاعب الشقي الوسيم الذي يفتتح الفيلم عبر سعاله وإشعاله سيجارة ليكمل مشوار والده كسائق للميكروباص يتناوب عليه برفقة الأب مع نفس الحركات المتوارثة، يسرق برتقالة من عربة متجولة عبر تمزيق غطاء العربة بسكينه (مطواه) ليقشرها وينثر قشرها في الشارع ويعاد المشهد في نهاية الفيلم ليكون السيد برفقة والده عبدالله ويقومان بنفس الفعل، بأسلوب الشاب الوحش القاسي الذكوري الحاد والفج "جدع" الحي ومجموعة الشباب، المستعد للتضحية بحياته من أجل صديقه رينجو، صديق الأسفلت والحشيش والكحول في رهان تافه. ولكن لا يمكن أن يسمح لأخته من الزواج بهذا الصديق، فهو يعرف تمام المعرفة هذا العالم هو مدرك بالأساس كوالده لحقارة وقسوة هذه الحياة وهذا القاع، هو ابن القاع الذي يسخر منه بابتسامة ماكرة، هذه الدوامة من التكرار أمام ثلاث أجيال متوالية من الذكور ابتداءا من علي الجد المقعد اليوم الذي يُحملُ كطفل في أحضان الأخت انشراح وصولاً إلى عبدلله الأب وسيد الأبن الذين يرون من يحافظ على صحته مقابل حياة مملة ليس رجلاً بل خسيس، فالحياة هي مغامرة وتستحق أن تعاش بكلّ ما فيها من جنون.
إلا أن هذه النظرة لا تنطبق على الجميع فسيد مستعد أن يقيم علاقة مع فتاة جامعية من طبقة اجتماعية بعيدة كلّ البعد عن عالمه، ولكنه مستعد للقتل في سبيل إيقاف زواج أخته من رينجو صديقه، ومستعد للانكسار أمام الفتاة الجامعية وطعن مجتمعه بأكمله، عندما يعرض على الفتاة الجامعية أن تسأل أخيها إن كان مستعداً للزواج من أخته انشراح وكأنه باع طبقة بأكملها لانتشال الشيء الوحيد الذي يراه نظيفاً ونقياً فيها، الأخت الأشبه بقديسة في نظر سيد.
يغدوا العالم الذي بناه فوزي في عفاريت الأسفلت هائماً بين الواقع والخيال، أشبه بأفلام الواقعية السحرية الإيطالية، الحكايات التي تحمل في طياتها طبقات متعددة، والحكاية الدائرية تكرر دورياً، بدايةً من افتتاح الفيلم في أجواء التحضير لزواج أحد أبناء الشارع وهو موظف في دائرة للميكروباصات، وصولاً للنهاية حيث تستخدم زينة العرس ذاتها لأغراض لمجلس عزاء الجد علي، حيث تتفكك ضمن هذه الدائرة أجزاء الحكايا لنغوص في عوالم متنقلين بين المتخيل أو السحري الذي ندخله عبر حكايا الحلاق محمد بشكل شفوي أو عبر مفتاح بيت العائلة القديم الذي يتكرر ظهوره كعلامة واضحة مجسداً السر والأحلام والشهوة في عالم موازي سحري، يمتلك أعرافه الخاصة ومن قواعده الواضحة والصارخة "الصمت" وعدم الإفصاح، عالم من الأسرار أشبه بحكايا محمد الحلاق المرمزة.
يلعب محمد الحلاق دوراً أساسياً في الفيلم، محمد الذي يحيا على الحكايا كحلاق كلاسيكي، هو مركز السرد، حاضر بقوة لينقل الشخصيات من الواقع لعالم الخيال، يحكي عن الأديب يحيى ذو الشعر الأبيض، ويحكي حكايا هارون الرشيد ووزيره البرمكي والنساء، حكايا ألف ليلة وليلة التي لا يغدو لها نهاية أو بداية، التي تنساب وتتناقل بين الكل، في مشهد النهاية ينقل محمد الجميع من طاولة العشاء ضمن عزاء الجد، إلى بيت الأحلام والشهوة السرية، عبر قصة هارون الرشيد والصراع على النساء، حيث صور فوزي المشهد بلقطة واحدة متصلة طويلة مغبشة بألوان باهتة ضبابية ليقودنا المشهد إلى فضاء قصر هارون الذي استعاره عوضاً عنه بيت العائلة القديم، بيت الأحلام والشهوة المكبوتة ليعثر كلّ فرد على الطاولة على عشيقه، مشهد طاولة العشاء سحري كلّ فرد بجانب سره والكل صامت، وحده محمد يدير السرد.
تتماهى الشخوص مع المكان لتصبح جزءاً منه، فحضور المكان صارخ في الفيلم نحن نرى مقتطفات من هذا العالم المكثف، أجزاء متفرقة من حيوات أهل المكان العبثية، حيث يستطيع عبد الله اقتطاع جزء من وقت عمله على الميكروباص ليزور عشيقته وزوجه صديقه المتوفي زاهية فوق قبر الصديق ويعبر عن حبه وشهوته لها، في مكان تستطيع انشراح إغراء عامل تركيب الزينة من على سور الشرفة لتشعر بأنوثتها المدفونة، وبالرغم من عنف المواقف وحدتها إلا أنها صورة مصغرة عن العالم الأصلي، العالم بفجاجته ووقاحته، العالم بأسراره التي لا تريد الظهور بغريزته، عالم فوزي غريزي بالدرجة الأولى، أبطاله يدركون معاناتهم فهم ليسوا تراجيديين لا يسعون لحيازة لقب بطل، هم شخوص متصالحة مع واقعها لا تحاول اكتساب موقعها العادل في المجتمع الذي هو أصل كلّ مشكلة.
فوضى الشوارع
ومن الداخل إلى الخارج، في عفاريت الأسفلت ينقلنا فوزي ومصطفى ذكري لعالم آخر في جنة الشياطين، عالمٌ نقتحمه من الخارج، عالم أهل الشوارع وناسها، عالمٌ يطلق كلّ أشكال الشرّ الجذري والغريزة، عالم عبثي وسحري، يبدأ الفيلم مع هبوط الكاميرا من قبة مسجد إلى أرضية مقهى قذر، تصعد الكاميرا على مهل لتلتقط وتقتحم ضحكات نونا وعادل وبوسي، صعاليك الشارع المفعمين بالنشاط والعنف واللامبالاة، إلى جانبهم يجلس طبل الجثة مبتسما ضاحكا، يقتبس ذكري قصة الفيلم من رواية الروائي البرازيلي جورجي أمادو "الرجل الذي مات مرتين". جسد محمود حميدة دور جثة "طبل" الموظف السابق الهارب من مجتمعه الأصلي من طبقته الوسطى، والهائم كعربيد سكير مقامر بين العاهرات والبلطجية في أسوأ وأسفل شوارع البلد.
يفرغ فوزي الموت من محتواه، ويصنع حلبة مصارعة بين طبقتين اجتماعيتين متناقضتين بين حياتين مختلفتين بين الشارع والمنزل العائلي الفخم، بين العربدة والصعلكة في وجه طبقات الاتيكيت المزيفة والتصرفات الكلاسيكية المصطنعة التي تناقض لغتها الواقع فتتلعثم وتصبح مغربة بعيدة عن هذا المكان.
اظهار أخبار متعلقة
طبل مات مرتين، مرّةً عندما هرب من منير شخصه القديم ومن تلك الطبقة ليعيش كصعلوك مقامر ويحيا، ومرّة عندما مات مادياً بجسده المبتسم الساخر، يقدم فوزي سخرية جادة من الموت ومرثية لنعى السعادة التي غدت هرباً مجنوناً من الواقع.
شخصيات غريزية وحيوانات إنسانية تستحوذ عليها الطاقة لتصنع عالم من العنف الخاص جداً، عالم من القسوة حفنة من الأولاد يلعبون مع الحياة في قاع المدينة، أولاد صاخبون شهوانيون طماعون متمسكين بالحياة.
يصور فوزي البيئة بكم من العنف والضراوة، البيئة بتنوعها الاجتماعي المزدوج وصراعها المستمر صراع دفع طبل ليموت مرتين في بحثه عن الحياة والسعادة، وهذا ما نراه مع ابنته سلوى التي يعيش طبل في داخلها، سلوى المتمسكة بالطبقة والتي حقدت على طبل وتراه جلب العار للعائلة عندما تخلى عن شخصية منير وتاه كصعلوك، سلوى التي وقفت أمام الموت لتضحك بهستيرية وتظهر طبل الذي يكبر داخلها، تضحك بسخرية وتبكي بجنون كطفلة، تسمح للصعاليك الثلاثة بالدخول لرؤية جثة طبل وتفرح عند سرقة الجثة في مكر وكأنها تنتقم من بيئة بأكملها من صورة اجتماعية وقواعد تافهة كأنها بلحظة تعطي لجثة طبل ما طلبه تعيده للشارع وتعيده لعالمه.
في الشارع كلّ شيء مباح من الجسد للروح، كلّ شيء يمتد للأقصى، "الحي أبقى من الميت" كما اعتاد طبل قولها أثناء حياته، وهذا ما تعلمه منه الصعاليك الثلاثة، فقاموا بالقتال على ما تبقى من جسده المادي فنزع عنه كل ما يمكن أن يفيد الحيّ، من أسنان ذهبية إلى بدلة الموتى.
الحركة والصخب تميز المشاهد فالكل مفعم بالحياة، يتقافزون أمام الكاميرا يضربون يشتمون يمارسون الجنس كله في مواجهة جثة مبتسمة وكاميرا فوزي الثابتة.
قدم كلاً من أسامة فوزي ومصطفى ذكري في عمليهما صورة سحرية عن الواقع صورة تشرح وتفكك البيئة والشخصيات، تضعنا كمشاهدين أمام جمالية القسوة والشهوة والإنسان في حده الأقصى.