وإذ فجأة أجد المنشور أمامي، وقد مر على نشره شهر
بالتمام والكمال (5 شباط/ فبراير)، وكأنه يذكرني بنفسه، وكنت قد عقدت النية على
الكتابة عنه، ثم نسيت ذلك!
المنشور المطول، ولعله مقال، تروي فيه الزميلة نور الهدى
زكي، جانباً غير معروف من أداء القوم بعد
30 يونيو، وسعيهم للتقرب من المشير عبد
الفتاح
السيسي بالنوافل (بدون طلب منه)، وقد نشرته بعنوان "قلة عقل حول مائدة
الرئيس"، حيث إن هناك عشرين شخصاً (أغلبهم ناصريون) ذهبوا للقاء المرشح
الرئاسي. القائمة تبدأ بعبد الحليم قنديل، وعبد الحكيم جمال عبد الناصر، وشاهندة
مقلد، ولا تنتهي بمحمد الأشقر، وصفوت حاتم، والمطربة عزة بلبع (مات اثنان منهما
هما الأشقر ومقلد، رحم الله الجميع)!
والزميلة نور الهدى زكي صحفية ناصرية معروفة، وكانت من
الذين شاركوا في كثير من الوقفات في زمن مبارك، ضد الاستبداد وتمديد الحكم
وتوريثه، وكانت تقود الهتافات أحياناً، ومن بينها هتاف نصه تساؤل: "وإيه
أخرتها مع الضباط"؟، بجانب الهتاف الأثير بسقوط حكم العسكر، وعندما أجد القوم
وقد استدعوا العسكر من جديد ووثقوا فيهم إلى درجة البلاهة، يستقر في وجداني أن
المقصود بالعسكر هنا وهناك هو رئيس مباحث قسم شرطة قصر النيل، الذي تقع نقابة
الصحفيين بسلالمها الشهيرة ضمن الحيز الجغرافي التابع للقسم، وكان بمأموره وضباطه
وجنوده يقفون في مواجهتنا!
واللافت أن هذه الثقة التي استحدثت من العدم، كانت بعد
أقل من عام من وقوف الثوار ضد حكم المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وكتب خلالها عبد
الحليم قنديل نفسه عن فساده المالي، وكيف أن فساد أعضاء المجلس أكثر من فساد أحمد
عز والذين معه (الذراع الأيمن لجمال مبارك)!
هذه الثقة التي استحدثت من العدم، كانت بعد أقل من عام من وقوف الثوار ضد حكم المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وكتب خلالها عبد الحليم قنديل نفسه عن فساده المالي، وكيف أن فساد أعضاء المجلس أكثر من فساد أحمد عز والذين معه (الذراع الأيمن لجمال مبارك)!
ولا يخلو الأمر من فكاهة:
إن قلة خرجت يوم 30 حزيران/ يونيو ضد حكم الإخوان، لكن
موقفها تغير يوم 3 تموز/ يوليو، بالبيان العسكري الذي ألقاه الجنرال وعطل فيه
العمل بالدستور، وعيّن رئيساً مؤقتا للبلاد، والبعض لم ير غضاضة في ذلك، واستمر
إلى أن أعلن السيسي ترشحه. وقد كان هناك من يقولون صادقين إنه لن يترشح، وذلك للرد
على ما قلناه من أول يوم إنه انقلاب عسكري مكتمل الأركان. وأذكر أن أحدهم قال هذا
المعنى كثيراً، في استوديو قناة الجزيرة، وأكد عليه في الليلة السابقة لإعلانه
قراره بالترشح، فلما أعلن ترشحه استشعر صاحبنا الحرج، وامتنع عن الظهور، لأنه يدرك
مغبة أن يقول رأيا معارضاً ضد جنرال منقلب!
بيد أن "مجموعة الزميلة نور"، ذهبت لتأييد
المشير مرشحاً رئاسياً، مع أنها تضم اثنين من منسقي حركة كفاية، أحدهما منسق سابق (عبد
الحليم قنديل)، والثاني منسق قائم (محمد الأشقر)، ولا يخلو الأمر من فكاهة!
فالمجموعة أعدت برنامجاً في الإصلاح السياسي والاقتصادي،
كتبه قنديل، وأوحى به عليه جراح الكلى الشهير محمد غنيم، وبمباركة من عبد الرحمن
الأبنودي، وقد أرسلوا البرنامج للمرشح الرئاسي الآخر حمدين صباحي فقبله على الفور،
فذهبوا إلى المشير الذي لم تقل إنه قبل هذا البرنامج، وفي جميع الأحوال فقد ذهبوا إليه،
والتفوا حوله في فندق الماسة، ومع ذلك كانت أحلامهم في "الجمهورية
الجديدة" تلامس السماء! والأكثر فكاهة هو قولها إنهم ذهبوا إليه -حسب ما كتبت-
محمّلين بروح يناير المغدور بها!
فهل الإخوان وحدهم من خُدعوا في السيسي؟ دعك من محاولات
بائسة، وروايات من تأليف أصحابها تسعى إلى التأكيد أنهم لم ينخدعوا فيه يوماً،
لإزالة الشعور بالغفلة، فيثبتوا على أنفسهم -من حيث لا يدرون- الاتهام بالعجز،
فماذا فعلوا لتدارك الأمر، وهم يعرفون أن الجنرال عدو لهم؟ وماذا كانوا ينتظرون
لعزله؟!
هل الإخوان وحدهم من خُدعوا في السيسي؟ دعك من محاولات بائسة، وروايات من تأليف أصحابها تسعى إلى التأكيد أنهم لم ينخدعوا فيه يوماً، لإزالة الشعور بالغفلة، فيثبتوا على أنفسهم -من حيث لا يدرون- الاتهام بالعجز، فماذا فعلوا لتدارك الأمر، وهم يعرفون أن الجنرال عدو لهم؟ وماذا كانوا ينتظرون لعزله؟!
ولو صمت الإخوان المندفعون لمثل هذه الروايات، لوقفوا
على أن خصومهم كانوا أكثر غفلة، إنهم يا إلهي ذهبوا لمن عيّنه الرئيس المخلوع
مديراً للمخابرات الحربية، وترقّى داخل الجيش في عهده للرتب العليا. ولم يكن مبارك
يعتمد تقارير التحريات العسكرية وحدها، ولكنه كان يعتمد تقارير مباحث أمن الدولة
في الترقية والإحالة للاستيداع، ومع ذلك فإن نفراً من أهل الدراية ذهبوا إلى
الجنرال محمّلين بروح يناير المغدور بها، ولا في أفلام إسماعيل ياسين يمكن أن
تستوعب هذا المستوى من عدم الواقعية.
إنني قد أستوعب عدم حساسية
الناصريين من الانقلابات
العسكرية أو للاستبداد، فالعرق دساس وأصل السلالة قام بانقلاب عسكري، واعتمد
الديكتاتورية أصلاً من أصول الحكم، يغفر له عند البعض أنه صاحب مشروع ينحاز
للاستقلال الوطني، فأي تصور جعلهم يعتقدون أن السيسي من نوعية العسكريين
الانقلابيين هؤلاء، ولم ينطق بحرف أو تصدر منه إشارة تفيد ذلك؟!
في الأيام الأولى للانقلاب العسكري، وإزاء زفة الناصريين
عن روح الزعيم الراحل التي حلت في الفريق أول (لم يكن المؤقت رقاه لدرجة المشير)،
كتبتُ مقالاً حمل عنوان: "الاستدعاء القسري لعبد الناصر"، ذهبت فيه إلى
أن من يقولون عنه جمال عبد الناصر إنما يخدعون أنفسهم، وأنه في الاتجاه المعاكس
تماماً. فهل كانوا فعلاً حَسَني النية، تخفيفاً لوصف الزميلة نور لمجموعتها بـ"قلة
العقل"؟!
علامة الرضا:
ولم تنته الفكاهة عند المقطع السابق، فمجموعة الزميلة
نور التي التفّت حول المشير في فندق الماسة، عندما كانت أحلامهم في الجمهورية
الجديدة تلامس السماء، وقد ذهبوا إليه محمّلين بروح يناير المغدور بها، ظلوا
يتحدثون خمس ساعات، تكلموا جميعهم، في حين أن السيسي لم يقل أي شيء، استمع فقط ولم
يعلق بكلمة!
يا إلهي خمس ساعات مستمعاً، ولم يلفت هذا انتباه أحدهم
فيوجه له سؤالاً، لا ليعرف الإجابة ولكن ليتأكد من أن طبقة الصوت تخصه.. خمس ساعات
ومجموعة الزميلة نور تتكلم، كلهم تكلموا، ولم يسأل أحدهم بعد ساعتين، ثلاث، أربع
ساعات، إن كان سيادته خلفه ارتباطات أخرى، فربما يواصل الاستماع لهم من باب
المجاملة، وحتى لا يكسر بخاطرهم!
والمثير هنا أنه رغم أنه لم يفتح فمه بكلمة، أو تعليق،
أو بحرف، فإن الزميلة نور تقول عن مجموعتها "ونحن نصدق أنه يصدقنا ويوافق على
كل ما نقوله"!
لا شك أن القوم بما جرى إنما أقروا على أنفسهم بالغفلة، لا قلة العقل التي ترفع القلم وتمنع الحساب، وهو أمر يكفي لاعتزالهم السياسة، والتزامهم الصمت، لأنهم لم يكونوا في حضرة أخرس، ولأنه في لقاءات أخرى عندما كان يواجه بأسئلة يجيب عنها حتى وإن كانت إجابته مضحكة
لا نعرف من أين جاءهم الاعتقاد أن صمته موافقة، وقد
فسروا الصمت بأنه علامة الرضا، ونسوا أن السكوت الذي هو علامة الرضا مرتبط
بالزواج، وليس بالسياسة، وبزمن أفلام الأبيض والأسود، وليس بزمن أفلام محمد رمضان!
يتحدثون خمس ساعات متواصلة، بينما هو لا يصد ولا يرد، ثم
يخرجون من عنده وهم يقولون: "نحن نصدق أنه يصدقنا ويوافق على كل ما
نقوله"!
ولا شك أن القوم بما جرى إنما أقروا على أنفسهم بالغفلة،
لا قلة العقل التي ترفع القلم وتمنع الحساب، وهو أمر يكفي لاعتزالهم السياسة،
والتزامهم الصمت، لأنهم لم يكونوا في حضرة أخرس، ولأنه في لقاءات أخرى عندما كان يواجه
بأسئلة يجيب عنها حتى وإن كانت إجابته مضحكة، مثل حله لأزمة البطالة بعربات
الخضار، أو حل أزمة ارتفاع الأسعار بتقسيم رغيف الخبز إلى أربعة أقسام، لكن أن
يصمت تماماً، ولا يعلق بكلمة واحدة، فكيف مرت الخمس ساعات على من تحدثوا وأفاضوا،
وكأنهم في غيبوبة، ثم يخرجون من عنده وهم يعتقدون أنه مؤيد لكل ما قالوه؟ فكم عمر
البلاهة؟!
في تقديري إنها ليست البلاهة، كما أنها ليست الخديعة، فقد
ذهبوا إليه ولم يطلبهم، وسعوا إليه ولم يتقرب إليهم، وكانت بدايتهم مع من قال إنه
محامي الأسرة للوساطة، وبتركهم لحمدين صباحي، والأصل أنه زعامة ناصرية، وأنهم
كانوا يرونه ممثل الثورة الوحيد قبل الانقلاب، إنما هدفهم البحث عن المصلحة،
بتأييد المؤكد نجاحه، لكي يفيض عليهم بما في يده، فلا روح يناير ولا أحلام عامة
تلامس السماء. وفي الدعوة لـ30 يونيو، قال حمدين لأتباعه إن عليهم ألا يسألوا من
بجوارهم إن كانوا من الحزب الوطني، فمعركتنا مع الإخوان وليست مع الحزب الوطني،
فأين يناير التي يعد من تجلياتها أنها أسقطت الحزب وحكمه؟!
عدم الاعتذار للإخوان:
في لقاء تلفزيوني قديم، وبينما كانت تتحدث الزميلة نور
الهدى عن دور القوى المدنية في جمع الناس يوم 30 حزيران/ يونيو، قالت لها إحدى
ضيفات البرنامج من المنتمين لهذا الحزب، دور من؟ أنتم عشرة أنفار، في إشارة إلى
أنها حشود الحزب المنحل، لكن من الواضح أن القوم كانوا يعتقدون أن الحكم (أي حكم)
في
مصر لا بد له من يسار يؤيده، فكانت هي الدوافع، لا روح يناير، ولا ملامسة
الأحلام السماء!
بعدما اكتشفت أن "قلة العقل" هي الدافع، ذهبت تعلن أنها لم تندم على الخروج على الإخوان وأنها لن تعتذر لهم كما فعل ممدوح حمزة. ولم يفرض عليها الإخوان الصمت كما فرضه الحاكم العسكري، ولم يعتقلوا نشطاء الثورة كما فعل
وهذا ما يفسر أنها بعدما اكتشفت أن "قلة العقل"
هي الدافع، ذهبت تعلن أنها لم تندم على الخروج على الإخوان وأنها لن تعتذر لهم كما
فعل ممدوح حمزة. ولم يفرض عليها الإخوان الصمت كما فرضه الحاكم العسكري، ولم يعتقلوا
نشطاء الثورة كما فعل، ولم تتحفظ عليها قواتهم لمجرد أنها رفعت علم فلسطين في
ميدان التحرير، ولم يفرطوا في مياه النيل، أو في تيران وصنافير، وموقف القوم
المعادي للحكم المنتخب هو الذي أنتج ما نعيشه الآن!
لقد أعادت تجديد الأسطوانة القديمة المشروخة، عن دعوة
الجزيرة لها ومعها جمال زهران ليكون الظهور مقابل الدولارات، وهو ما لا تملّ من
قوله، وقاله زهران في مقابلة بإحدى القنوات المصرية، قبل أن يشكو من التجاهل، فقد
قضى الانقلاب منهم وطراً ولم يعد بحاجة إليهم!
وهو أمر يوحي بأن الدفع مقابل أن تغير موقفها، في حين أن
الاستضافة هي بهدف أن تدافع عن الموقف المنحاز للانقلاب العسكري، وأن الاعتذار ليس
وطنية، فكثيرون قبلوا وظهروا، ومن أول سعد هجرس، إلى عماد الدين حسين، والأخير جرى
تعيينه عضواً في مجلس النواب بقرار رئاسي، بينما تغني هي وجمال زهران مع العندليب
"ظلموه"!
وليس لأحد أن يدعي وصلاً بثورة يناير أن يتخذ من الجزيرة
هذا الموقف، لأنها من حمتنا يوم موقعة الجمل، ونقلت المجزرة للعالم، والموقف
المعادي لها سلطوي بالأساس، كان في زمن مبارك، واستمر في عهد المجلس العسكري، ثم
جاء السيسي فدشن لمرحلة عداء جديدة. والزميلة نور ومن يتسمون بقلة العقل (حسب
وصفها) اعتقدوا أنهم انتقلوا من خانة المعارضة إلى مربع السلطة وقد صاروا شركاء في
الحكم، فاعتمدوا سياسة أهل الحكم مع الجزيرة، وعندما اكتشفوا أنه تم التغرير بهم،
أو غرروا بأنفسهم، كانوا يدركون أن الظهور على الجزيرة ليقولوا رأيا معارضاً، ضريبته
باهظة، وقد رأوا رأس الذئب الطائر. وكانت مقابلة عبد المنعم أبو الفتوح، وقراءة
الجزيرة مقالا ليحيى حسين عبد الهادي، كفيلة باعتقالهما، فالمعارضون في أمان نسبي
ما دامت هذه الآراء لم تعلن عبر المحطة التلفزيونية الأوسع انتشاراً!
هذا فضلا عن أن كثيرين من المغرر بهم، كانت تفتح لهم
القنوات التلفزيونية المصرية في السنة الأولى من عمر الانقلاب، فكانوا في حالة
استغناء عن الجزيرة، فلما تمت إحالتهم للاستيداع، ظهر جمال زهران، وعمار علي حسن،
ونجيب جبرائيل، وأنور السادات، وغيرهم، ومن أول عرض، فهل حصلوا على دولارات أم أن
الثمن بالجنيه المصري هذه المرة؟! وهل حصلوا على مكافآتهم لأنفسهم أم لصالح صندوق
تحيا مصر!
إنها الحرب والرأي والمكيدة.
twitter.com/selimazouz1