ما أقسى الموت
حين يرتبط بيومٍ تَجْهد الأنفسُ فيه لتُبدي فرحاً، أو لتهديه!
أيُّ قدرٍ وأيُّ
تصادفٍ هذا الذي جعل يوم وفاتك يا أُمّي هو اليوم الذي يحتفل فيه النَّاس
بأُمّهاتهم!
بغضِّ النَّظر
عمّا إذا كان الاحتفال بالأُمّهات في يوم مخصَّصٍ من كلِّ عامٍ لا يروق لكثيرٍ من
النَّاس؛ على اعتباره طقساً غربياً وافداً على مجتمعاتنا العربية والإسلامية، إلّا
أنّ السَّواد الأعظم من الناس يحتفلون فيه ولا يأبهون بفكرة أصالة هذا اليوم أو
بدعته؛ لأن الناس بفطرتها وطبيعتها تسعى إلى خلق الفرح وما يُؤدي إليه من أفعال
وأقوال، فكيف إذا ما تعلّق الأمر بالأمّهات! ليكن بدعة؛ وليكن وافداً غريباً؛ لن
يفلت من أيدينا ما دام يبعث السعادة في أحب الناس إلينا؛ هكذا يبدو الأمر منطقياً.
اعتاد كثير من
الناس على الاحتفال بهذا اليوم وإكرام الأمهات بالهدايا والمفاجآت، واعتادت
الأمهات على ذلك، حتى باتت بعض الأمهات تعتب أو يميل طرفها حزناً إن لم تجد من
أبنائها رغبة بإكرامها في هذا اليوم، كيف لا وكل ما حولنا واقعاً وعلى صفحات
التواصل الاجتماعي يضج بالحدث بمبالغة قاسية -للأسف- من دون قصد أو وعي في معظم المواقف
والأحيان!
من عشر سنوات مضت
كتبت: "لعله من نعم الله عليّ أن أكون من الأقلية الذين فقدوا أمهاتهم فصبروا،
ومن الأكثرية الذين فقدوا سكينتهم في وطن باسمٍ حدّ الإعياء فاحتسبوا؛ وسواء أكنتَ
من الأقلية أو من الأكثرية فالمعوّل عليه بين الحالين هو أنت نفسك، فَلَكَ الله؛
وكفى به وكيلاً وحسيباً.
ما زلت حتى اليوم
ومن اثني عشر عاماً أتمنى لو يُحذف اليوم الواحد والعشرون من آذار/ مارس من تقويم
حياتنا لشدة ما تثقله
الذكريات التي حفظتها ذاكرتي بدقة متناهية. أسألك يا الله أن
تُنزل على أمي رحمة ومغفرة تُبرد لهيب شوقي الذي ما يزال في استعار كلما مضت بنا
الأيام أكثر، وأن تجعلها في فردوس يفوق حجمه حجم لوعتي على فراقها.
واليوم أقول: اثنان
وعشرون عاماً قد مضت يا أمي؛ اثنان وعشرون عاماً أحتسب كل ما لاقيت فيها من دونك
عند الله، فكل المعاني في بعدك خاوية، وكل القلوب من بعدك باردة.
أمَا من لقاء يدثّر
هذه الرّوح الفزعة من غيابك يا حبيبة!
خارت قواي واستُنفدت
طاقتي...
ألا يجود العمر
بلقاء يطمئن هذا القلب الشريد!
كلما مضى على
غيابك وقت أطول ضاقت نفسي وتاقت لدفء يبعثر عن النفس شعثها ويلم أوصالها ويهدهد
اضطرابها...
"ما أطيبَ
العيشَ لو أنّ الفتى حجرٌ تَنْبُو الحَوادثُ عنهُ وهو مَلمومُ"...
تعبَتْ من الفقد
الطويل حكايتي.
مجبرون على
البقاء، ولولا الإيمان وترويض النفس على الرضا والقبول وتحليتها بالتسليم لضجت
الروح وضاقت بالقلب الكليم بين ضلوعها.
لقد هرمت يا "أُمّي
فَرُدِّي نجومَ الطُّفولةِ حتى أشارك صغارَ العصافيرِ دربَ الرجوع لِعُشِّ انتظاري".
كلما كبرنا أكثر
ندرك كم كنا صغارا أنقياء حين كنا نظن أننا كبار واعون ناضجون...
أنت وحدك؛ ووحدك
تدركين معنى ذلك، فأعيديني إلى حضنك طفلة يا أمي؛ أعيديني إليك فالديار غريبة
والقلوب مريرة والروح عطشى لعطفك وحنانك.
لِكلِّ فاقدي
أمّهاتِهم أقول: قد تكون أصوات الناس من حولنا اليوم وما يصل إلى أسماعنا من أصداء
احتفالاتهم مصدرَ قلق وحَثّاً للنفس على تذكر ما لا تنساه ولا تغفل عنه أصلاً؛ فهوِّنوا
عليكم...
واسألوا الله
كلما تعاظمت بكم آلامُ الفقد أن يعظّم الأجرَ في الاحتساب والصّبر، فالروح تتناوب
بين كدر واضطراب لتذكِّرنا بِبَشَريَّتِنا وحَقِّنا في أن نحيا الألمَ بعيداً عمَّن
وعمَّا ينكأ الجراح...
لله در الشاعرِ
حين قال:
"أُمَّاهُ
يوماً قد مضيت
وكان قلبي كالزُّهور
وغدوتُ بعدَك
أجمعُ الأحلامَ من بين الصُّخور
في كلِّ حلمٍ كنت
أفقدُ بعضَ أيَّامي وأغتال الشُّعور
حتَّى غدا قلبي
مع الأيَّام شيئاً من صخور
ما زلتُ يا أمي
أخاف الحزنَ
أن يستلَّ سيفاً
في الظَّلام
وأرى دماءَ العمر
تبكي حظَّها وسط
الزّحام"
وإنّي اليوم وكلّ
يومٍ أُشهِد الله أنّكِ كنتِ لنا الدُّنيا ببهجتها، وأنَّك قبل الموت وبعده أَعنْتِنا
بحقيقة وذكرى على الدّعاء لك بأَكُفٍّ ملآى بالرّضا عنك؛ أُشهدكَ يا الله أنّها
كانت ممّن يُعِين على بِرّها بالحسنى، فارحمها واغفر لها واجعلها في الفردوس
الأعلى مع الصّدّيقين والشّهداء.
إلى كلِّ الذين
يرزحون تحت وطأة الفقد والذكرى: كلّ عام وأمَّهاتكم يَرتَقِين في الجنان بدعائكم.
وإلى الذين
ينعمون بِقُرب أُمَّهاتهم أقول: حفظ الله أمهاتكم ورزقهنّ بركم.