لعلني لا أبالغ إذ أزعم أن التقارب السعودي
الإيراني هو حدث الساعة، والمتغير الأهم في الفترة الأخيرة، خاصةً أنه ليس مجرد تقاربٍ عادي وإنما تم برعايةٍ صينية وعلى أرضها؛ لذلك فليس من عجبٍ أن يثب العديد من المراقبين والمحللين والمتكلمين في الشأن العام، بتناول هذا الموضوع، إلا أن ما أدهشني أن عدداً لا بأس به منهم كتب بحرارةٍ وحمية، وربما بتدفقٍ، للدفاع عن مواقف سابقة ومعدة سلفاً، شبه معلبة، نابعة من تصوراتهم التاريخية عن الخريطة الجيوسياسية والدور الأمريكي المحوري فيها؛ من اللافت أيضاً أن الكتابة والتحليل في كثيرٍ من هذه الحالات، غلب عليها إسقاط التصورات والأماني، إما تلك المؤمنة بحتمية وأبدية الدور الأمريكي لمميزاتٍ وصفاتٍ وتراكمٍ يتوفر لها، وقطعاً ليس لغيرها، أو تلك التي تتحين الفرص لسقوط أمريكا وإدراك ثاراتٍ تاريخية لا نشكك في مشروعيتها، كدعم إسرائيل وتدمير العراق، على سبيل المثال المخل لكنه كاشف، ولا ينفي ذلك أن كلا الطرفين يصيب في بعض ما يذهب إليه، إلا أن الصورة في رأيي أكثر تعقيداً بكثير، ولا تخضع لإرادة طرفٍ بعينه.
في يقيني أن ما نحتاجه (وهو ما أقدمت عليه بنفسي) أن نتريث في محاولةٍ لقراءة الصورة ببطءٍ وتمعن، مدركين، بل موقنين، أن الوضع العالمي، وفي القلب منه التراكم الرأسمالي، يمر بحالة سيولةٍ واسعة، بقدر ما هي عميقة، وأن المشهد برمته يتغير وما سنكتبه اليوم سيحتاج إلى مراجعة في الغد، في ضوء المستجدات وما سيتكشف من تفاصيل بعضها غائبٌ عنا الآن والآخر ستفرزه الأحداث والتطورات.
بدايةً، لا شك في أن الأطراف الثلاثة، إيران والمملكة
السعودية والصين، لديها ما تكسبه من هذا التقارب، بل إن هناك وجهة نظرٍ تزعم أن أمريكا بذاتها، المشغولة الآن بمناطق ومشاكل أخرى أكثر إلحاحاً، على رأسها بدرجةٍ ربما تقارب اليقين الحرب الروسية – الأوكرانية وما نتح عنها من إعادة شحن وشحذ لحلف شمال الأطلسي ودور أمريكا القيادي فيه، مستفيدةٌ من هذا التقارب، أو هذه الهدنة لتجنب صراعٍ لا وقت ولا طاقة لديها لمتابعته، أو تدارك أخطاره، ولعل وجهة النظر تلك هي التي تحدو بالبعض لتصور أن الصين لم تزل تقوم بدور التابع والمنفذ بالنيابة والوكالة عن الولايات المتحدة، إلا أنني ممن يعتقدون أن الصورة مغايرة، وأن فائدةً كتلك، لو صحت، فهي عرضية أكثر من أي شيءٍ آخر.
لعله من الأدق أن نرى الأمر في صورة إقدام الأطراف الثلاثة على تخطي الأطر التقليدية والقوالب التي كانت قد وُضعت (أو تموضعت) فيها طيلة ما يزيد على الربع قرن، أي منذ اندلاع الثورة الإيرانية، أطر من عينة العداء التقليدي بين إيران الثورة والمملكة السعودية التي دعمت العراق أثناء حرب البلدين، وأطول من ذلك في حالة اكتفاء الصين بالتأثير المباشر في محيطها الإقليمي، دون التطلع أو محاولة الخروج إلى ما وراء ذلك.
لا ننكر أن كل ما أسلفنا ليس جديداً كل الجدة، بل له سوابق لعل أبرزها وأقربها إلى الذاكرة إيران كونترا، حين اضطُرت إيران للحصول على الأسلحة من الولايات المتحدة أثناء حربها مع العراق وحتى في موضوع التفاوض الذي نحن بصدده فقد سبقت جولة بكين قرابة خمس جولاتٍ برعايةٍ عراقيةٍ وعمانية.
الجديد هنا ليس تحدياً سافراً وصاخباً لهيمنة الولايات المتحدة على العالم ومقادير المنطقة، فالقوة الجديدة الصاعدة هي الصين وليست الاتحاد السوفييتي السابق أو ألمانيا النازية، والضجيج والسعي للصدام والمناطحة ليسا أسلوبها المفضل والطبيعي؛ قد تصطدم، كما فعلت كثيراً مع الغرب، وما الحرب الكورية سوى مثالٍ (مع تسليمنا باختلاف الزمن والخطاب والزعامات) وحينذاك تقف وتتصدى وتصد بثباتٍ ورباطة جأشٍ مؤلمة، لكن الأقرب لأسلوبها هو الهدوء: الصين تتسلل عبر الشقوق..
تنافس اقتصادياً، تقدم الأموال والدعم التقني، تستثمر، فتفيق يوماً لتجدها حاضرة وموجودة بكثافةٍ واتساعٍ أكثر وأكبر مما كنت تتصور. كما أن أمريكا لم تنتهِ بعد، لا شك بأنها تعاني من أزماتٍ سياسيةٍ داخلية، أعمق مما قد نتصور حيث يتبدى كل يومٍ ما تواجهه بنيتها السياسية التقليدية بقيادة الحزبين الأشهر، الديمقراطيين والجمهوريين، من تحدياتٍ على رأسها ذلك الشعبوي الذي قاده ومثّله ولم يزل ترامب، إلا أن حرباً عالميةً لم تستهلكها بعد ولم تعلن وفاتها أزمةٌ كحرب السويس، والصين لم تتخطَ الولايات المتحدة بعد، لذا لعله من الأدق أن نتحدث عن التسلل وتوسيع مساحات النفوذ والتمدد، دون الوصول إلى الصدام المباشر، حيث يبقى ذلك معلقاً مهدداً بدمارٍ لا مثيل له. في ضوء تلك السياسة نستطيع أن نفهم الدور والتحركات الصينية في مناوئتها لأمريكا ودعمها ورفضها أن تهزم روسيا في حربها مع أوكرانيا. إن الاقتصاد الصيني يكبر وثراؤها يزيد ومن الطبيعي، بل من البديهي، أن تسعى لترجمة ذلك إلى زيادةٍ في نفوذها وحضورها على الرقعة العالمية.
في ما يخص المملكة السعودية، فإن شيئاً شبيهاً يحدث، نابعٌ من الغضب وفقدان الثقة أو الأوهام، لذا فإنه يبدو أفقع لوناً وأكثر مقدرةً على إثارة الدهشة. لعلنا لا نبالغ حين نقول إنه نوعٌ من التمرد على الدور الأمريكي، أو على الإطار التقليدي الذي حكم العلاقة بين البلدين، حيث تكفلت الولايات المتحدة بتوفير الأمن للمملكة، مقابل النفط الرخيص. والشاهد أن القيادة الجديدة في المملكة ترى للبلد دوراً أكبر من مجرد كونها دولةً إقليمية كبيرة حجماً ونفوذاً بفوائضها المالية التي نجحت في توظيفها تحت مظلة الإسلام السني للتأثير في مناطق عدة وممتدة، بل ترى القيادة الجديدة، ومحمد بن سلمان تحديداً، البلد قوةً عظمى إقليمية، بما تحمل وتتحمل تلك الكلمة من فوارق في القوة العسكرية والقدرة على التدخل المباشر. لقد «شبت المملكة عن الطوق» (أو على الأقل هي تسعى إلى ذلك)، ولها طموحاتٌ منها الاقتصادي، كأن تصير قوةً صناعية، وفي مقابل ذلك وفي سبيله ستتخطى الحدود أو العلاقات التقليدية للحصول على ما تريد، وقد تواترت التحركات التي تؤكد ذلك من عينة، قرارها تقليل ضخ النفط رغم احتجاج أمريكا، ولعل النقطة الأكثر تدنياً في هذه العلاقة كانت مقتل جمال خاشقجي وما وُجه للمملكة من توبيخٍ ووصف بايدن لها بالدولة «المنبوذة». لم تعد المملكة، أو على الأقل بن سلمان، لتبدي مصالح الولايات المتحدة على مصالحها، ولن تنخرط بصورةٍ انقياديةٍ عمياء في مشاريعها ورؤاها الكبيرة، من عينة التقارب الأمني والعسكري مع إسرائيل، دون حسابٍ دقيق وموازنة للمكاسب والخسائر المحتملة. لم تعد المملكة تثق تلك الثقة العمياء في الولايات المتحدة، فقد نضجت بما يكفي لاستيعاب دروس التاريخ، وعلى رأسها ربما أن الغطاء الأمريكي وحده لا يكفى، وما درس ونموذج الشاه الساقط ببعيدٍ تاريخياً ولا جغرافياً. ولعله ثبُت لديها أن صدامها مع إيران في مناطق متفرقة على رأسها اليمن، لم تجنِ منه أي مكاسب، بل نزيفا مستمرا للموارد وخطرا وجوديا كقصف منشآتها النفطية في 2009، خاصةً وأن ميزان القوة العسكرية حتماً ليس في صالحها، لاسيما في ضوء ما تكشف عن قدرات إيران العسكرية وما المسيرات التي تستخدمها روسيا بكثافة ونجاح إلا دليلٌ صارخٌ على ذلك.
هذا الاتفاق إذن يعد بتجميد تلك الصراعات المهلكة المستهلكة المكلفة، وبرهة لالتقاط الأنفاس (على الأقل لفترة) وشراء الوقت، خاصةً في اليمن، حيث تخوض المملكة منذ سنوات حرباً مدمرة وخاسرة بكل الشواهد، حربا ادُعي وقيل إنها خاطفة والنتيجة، كما نرى، مستنقع. ربما وصل الطرفان إذن إلى قناعة بأن المعادلة الصفرية على شكلها الحالي لن يربح منها أيٌ منهما، وقد تتغير النظرة بتغير الظروف أو شعور أي منهما بالتفوق اللاطبيعي الذي يسمح له بتدمير الآخر والقضاء عليه، ولست أرى ذلك واقعاً في المستقبل المنظور، ولا يعني ذلك أن كليهما لن يسعى لتقويض الطرف الآخر من تحت السطح، كما هي السياسة.
(القدس العربي)