يعود تاريخ
السجون إلى قرون ما قبل الميلاد إذ كانت مكانا للاحتجاز قبل
تنفيذ العقوبة على المتهم الذي ثبتت إدانته، ثم تحولت بعد ذلك كأماكن تسمى أماكن
للعمل يقوم فيها المدانون بالعمل أثناء قضاء العقوبة، ثم تحولت إلى مكان لعزل
الجناة عن المجتمع حتى لا يتضرر من وجودهم وتتم محاكاتهم إجراميا، ثم تحول السجن
إلى مكان لتأهيل المساجين. وفي عصر الانقلاب تحول إلى معسكر اعتقال لكل من يخشى
النظام من معارضتهم له، ثم وفي العشرية السوداء تحولت السجون إلى أماكن للقتل البطيء
للتخلص من هؤلاء المعارضين سواء كانوا في السجون لتنفيذ أحكام باطلة وظالمة أم
كانوا
معتقلين ولو لسنوات دون محاكمة.
يخبرنا موقع
تاريخ السجن أن أول سجنين في العالم كان أحدهما في بلاد ما بين
النهرين والآخر كان في
مصر في القرن الأول قبل الميلادي، وأن السجون كانت في أبراج
مشيدة تحت الأرض. وكانت تعد لحبس من ستنفذ فيهم أحكام الإعدام أو من سيصبحون عبيدا
بعد ذلك عقوبة لهم على ما ارتكبوا من جرائم.
لم تعد السجون في عصر الانقلاب مكانا لقضاء عقوبة بعد إدانة ثبتت قطعيا
وبعد استنفاد درجات التقاضي التي تم اختصارها في بعض المحاكم التي أنشئت خصيصا
لمحاكمة المعارضين (محكمة أمن دولة عليا طوارئ)، بل أصبحت طريقة يتباهى بها النظام؛
ليس من حيث جودتها كما يزعم بل من حيث فلسفة سجن المعارضين. فالسيسي يقول إننا
نحمي هؤلاء المساجين من أنفسهم ونحتجزهم حتى نعيد تربيتهم وتأهيلهم من أجل إعادتهم
إلى المجتمع. وهنا مكمن الخطورة، إذ أن النظام لم يتجاوز فكرة القضاء والأحكام قبل
إيداع الناس السجون، بل تجاوز فكرة أنه وحده له حق معرفة من الصالح ومن الطالح، من
يستحق التربية وإعادة التأهيل داخل السجون ومن يستحق أن يمنح الفرصة للعيش خارج
السجون.
السيسي يقول إننا نحمي هؤلاء المساجين من أنفسهم ونحتجزهم حتى نعيد تربيتهم وتأهيلهم من أجل إعادتهم إلى المجتمع. وهنا مكمن الخطورة، إذ أن النظام لم يتجاوز فكرة القضاء والأحكام قبل إيداع الناس السجون
أصبح الجنرال يرى نفسه صاحب الحق الوحيد في إنزال العقوبة على من يشك في
أنه قد يتحول يوما ما إلى معارض، حتى ولو لم يصبح معارضا، ويطالب الأهالي بأن
يقوموا بتسليم أبنائهم إن شكوا في صحة تصرفاتهم، دون أن يقول للناس ماهية التصرفات
الخاطئة التي يجب أن تلفت نظر الآباء والأمهات، وبالتالي ترك المهمة للشرطة والمليشيات
التابعة لها والبصاصين والمخبرين ليحددوا من المراد اعتقاله وحبسه، وبالتالي فلا
قيمة لا للقضاء ولا قيمة للنيابة ولا قيمة للعملية العدلية برمتها، وهذا أخطر
تجاوز يحصل في مصر وبصورة علنية، وإن كان يحدث في عصور سابقة ولكن بصورة لا
تتبناها السلطة ولا توافق عليها الدولة (طالع
التقرير عن امتطاء السيسي للقضاء).
في 16 أيلول/ سبتمبر 2021 نشرت إحدى
الصحف المصرية ملخصا لمداخلة تلفزيونية للسيسي أعلن فيها عن افتتاح
مجمع للسجون، وفي سياق عرض فلسفته لماذا سجون جديدة قال إن مصر دولة فيها 100
مليون مصري، مضيفا: "نعمل على الحفاظ على حالة الاستقرار، وهناك من يتحدث عكس
الاتجاه وتحويل كل شيء لإساءة".. فالرجل يرى أن السجون تساهم في حالة
الاستقرار وليست مكانا لتنفيذ عقوبة بعد حكم محكمة، لا بل السجون هي مكان لنقل كل
من يراه سببا في عدم الاستقرار سواء ثبت ذلك عليه أم لا، ولدينا عشرات القضايا
التي أخذ الناس فيها بالشبهة، وآلاف الحالات من الشباب والشيوخ الذين اعتقلوا
لأسباب لا نعلمها ولا يعلمها حتى من اعتقلوا وربما لا يعلمها من اعتقلوهم.
المشكلة التي تواجه السيسي خلال السنوات العشر الماضية ولا تزال تؤرقه هي كيفية
إسكات أصوات معارضيه ومنتقديه، بعدما اعتقد أنه أسكت صوت الثورة المصرية تماما،
لذلك فقد تحولت استراتيجيته في الدفاع عن نفسه في موضوع انتهاك حقوق الإنسان من
نفي وجود معتقلين وأبرياء خلف القضبان إلى التباهي ببناء سجون جديدة مريحة كما
يقولون وتراعى فيها حقوق الإنسان، أي أنه لا يرى للمعارضين والمناوئين حقا للحياة خارج
السجون وأنه يفضل إبقاءهم داخل السجون ولو ببناء سجون جديدة ومريحة كما يروج هو
وإعلامه.
أصبحت مسألة التباهي بالسجون الجديدة مثيرة للانتباه والشفقة في بلد يعاني
من انهيار اقتصادي وتراجع في العملة المحلية ومعدلات تضخم مرتفعة وتراجع في مستوى
الخدمات الصحية والتعليمية والمرافق وخصوصا النقل والمواصلات التي زادت أسعارها
بشكل مطرد وغير مسبوق وغير محتمل أيضا.
أصبح من الطبيعي في عصر الانقلاب أن يتحدث الجنرال عن
السجون الجديدة وكأنها أحد أهم الإنجازات البشرية على الإطلاق، فراح
يجري المقابلات التلفزيونية ويتحدث مع
طالبات كلية الشرطة عن فلسفة السجون لا فلسفة العمل الأمني الاحترافي، كما
جرى مؤخرا أثناء
زيارته لأكاديمية الشرطة المصرية فجرا، وأصبح من الطبيعي التباهي بأعداد السجون في العشرية
السوداء، وحجة النظام وأنصاره في ذلك هي أن السجون القديمة لم تكن تراعي حقوق
الإنسان، كما ذكر ضياء رشوان رئيس هيئة الاستعلامات في
مداخلة مع عمرو أديب حول السبب في بناء سجون جديدة: "من
يسخر من مجمع الإصلاح والتأهيل بوادي النطرون هم من كانوا ينتقدون أوضاع السجون في
مصر قديماً"، مضيفاً: "اطلب المزيد ولكن لا تسفه ما يحدث لأن كل الشعوب
تطلب دائماً الأفضل".
وبالتالي، فالسجون الجديدة والمصممة على الطريقة الأمريكية ستراعي ذلك،
ولكنهم لا يناقشون السؤال الرئيسي عن لماذا هم معتقلون؟ أو بأي طريقة تم إدخالهم
السجون. وهذا هو التحول في استراتيجية النظام في مواجهة الاتهامات المتواترة عن
انتهاك حقوق الإنسان في مصر والتي تأتي من الشرق والغرب، بالليل والنهار، ولا
يستطيع النظام تقديم تبرير لذلك سوى النفي سابقا والتبرير ببناء سجون جديدة لاحقا.
حسب تقرير لموقع العربي الجديد فإن عدد السجون في مصر حوالي 88 سجنا وهي ما
تم حصره من سجون، ناهيك عن أماكن الاحتجاز في أقسام الشرطة وغيرها. وبني 45 سجنا
منها في العشرية السوداء، أي أن العدد زاد بنسبة تقترب من 130 في المئة مقارنة بالموجود
عبر عقود في مصر. وللعلم فإنه في الفترة من 2011 وحتى 2016 بُني حوالي 16 سجنا
والباقي بني في الفترة من 2016 وحتى اليوم، وهذه الأرقام إن دلت على شيء فإنها تدل
على أن الدولة العميقة معنية بتشييد السجون ومقار الاحتجاز منذ اندلاع ثورة يناير
2011 أكثر من عنايتها بأي مشاريع تنموية أخرى.
يقول ضياء رشوان في تصريحه المشار إليه إن أعداد المسجونين في مصر تتجاوز
120 ألفا غالبيتهم من الجنائيين وأقلية هم من المعتقلين السياسيين، بينما الحقيقة
أن أكثر من نصف هذا الرقم هم من المعتقلين السياسيين منذ انقلاب 3 تموز/ يوليو
2013 حسب تقدير منظمات حقوق الإنسان العربية والعالمية. فحسب
تقرير للشبكة العربية لمعلومات حقوق
الإنسان نُشر على موقع الجزيرة مباشر
نت، فإن مصر فيها حوالي 120 ألف سجين ومعتقل (محبوس احتياطيا) منهم قرابة 82 ألف محكوم
عليه و37 ألف محبوس احتياطيا. أما الرقم المخيف من بين هذه الأرقام فيتعلق
بالسياسيين المحبوسين والمعتقلين دون محاكمة، فالعدد الكلي حسب المنظمة يصل إلى 65
ألف سجين، منهم 39 ألف محكوم عليه بأحكام باطلة وأمام محاكم شكلية وهزلية أحيانا
والباقي (36 ألفا) محبوس احتياطيا (يعني معتقل).
لا تنفق سلطة الانقلاب على التعليم والصحة النسبة التي أقرها الدستور الذي كتبوه
بأيديهم بعد الانقلاب، فميزانية التعليم أقل مما نص عليه (4 في المئة) وكذا الصحة (3
في المئة). في الواقع فإن الميزانية التي تزداد سنويا هي ميزانية وزارة الداخلية،
ناهيك طبعا عن ميزانية الدفاع التي لا يعلم عنها أحد شيئا ولا عن ميزانيات التسليح
سوى من وسائل الإعلام الغربية.
حسب بيانات رسمية للموازنة العامة ميزانية وزارة الداخلية قد زادت خلال الفترة
من 2018-2019 بحوالي 7 مليارات جنيه، وحسب مشروع الموازنة الجديدة فالزيادة
الجديدة تقدر بـ9 مليارات جنيه لتصبح 57.5 مليار جنيه. كان ذلك قبل ثلاثة أعوام.
لم تتحدث وزارة الداخلية عن كلفة بناء السجون الجديدة ولكن
بعض المواقع
نشرت أن المجمع الجديد في وادي النطرون قد تكلف 8 مليارات جنيه.
وزارة الداخلية أجابت عن سؤال لم يسأله أحد وهو كيف وفرت هذه الميزانيات
التي يفترض أنها ضخمة لإقامة مجمع سجون على الطريقة الأمريكية، فكان الجواب كما نشره
موقع كايرو 24 -وهو قريب من جهاز المخابرات العامة- هو أن الوزارة قامت بإغلاق عدد كبير
من السجون الموجودة وخصوصا في منطقة سجون طرة، وتم بيع هذه السجون لمستثمرين عرب من
خلال شركة تملكها وزارة الداخلية تسمى شركة التحسين للتنمية والاستثمارات، كما ورد في خبر نشره
موقع العربي الجديد. ولا ندري حتى هذه اللحظة بكم
بيعت هذه الأراضي الخصبة والمطلة على النيل، وإن كنا علمنا أن مبنى وزارة الداخلية
القديم في لاظوغلي سيتحول إلى
مجمع خدمي متكامل، يعني مول تجاري.
يفترض أن السجون الجديدة تكون أكثر آدمية ومراعاة لحقوق الإنسان، ولكن
التقارير الواردة من بعض هذه السجون تفيد بأن هذه السجون هي مقابر لنزلائها وهي
مقار للموت البطيء (
شاهد تقرير قناة الجزيرة) والمهين. وقد صدرت عدة تقارير دولية تندد بالموت
البطيء داخل هذه السجون، وعلى رأس تلك المنظمات منظمة العفو الدولية التي نشر
موقع عربي21 تقريرا لها يرصد الحالات التي لقيت حتفها جراء الإهمال الطبي –
يمكنكم مراجعة تقرير العفو الدولية عن حالة حقوق الإنسان في مصر هنا- كما أدان
البرلمان
الأوروبي في تشرين الثاني/ نوفمبر 2022
انتهاكات حقوق الإنسان في مصر. وقد سُربت عدة
رسائل لمعتقلين ومسجونين في سجن بدر الجديد يتمنون الموت من سوء المعاملة
والإهمال الطبي، وهو ما دفع النظام للرد بأن كل هذه ادعاءات باطلة، ولكن الحقيقة
التي لا يمكن إنكارها هي جثث الشهداء الذين لقوا حتفهم داخل السجون.
وفقا لتقرير مركز الشهاب لحقوق الإنسان فإن عدد المتوفين داخل السجون (الفخمة)
ومقار الاحتجاز بلغ 46 مصريا عام 2021، وشهد العام 2020 وفاة 73 سجينا، وقبلهم 40
شخصا عام 2019، و36 في العام 2018، و80 في 2017، و121 عام 2016، و185 في 2015،
و166 عام 2014، و73 في 2013، بإجمالي 820 مصريا خلال تلك الفترة، أي أن الرقم
تجاوز الألف معتقل وسجين قضوا جراء المعاملة الفندقية التي يتحدث عنها
إعلام
النظام.
يحاول النظام غسل سمعته عبر إخلاء السجون القديمة وبناء سجون جديدة في
الصحراء، والإعلان عن تغيير تسمية السجون إلى
قطاع الحماية المجتمعية وتحويل اسم السجان إلى مشرف والسجين إلى نزيل، وكأن
الفنادق خمس نجوم وهو وهم يحاول النظام إيهام العالم بتغيير حقيقي داخل منظومة
يعلم القاصي والداني مدى إجرامها وحقيقة فسادها. ويكفي أن الصحف العالمية كتبت
تدين ممارسات النظام في السجون، ففي العام الماضي 2022 نشرت صحيفة
نيويورك تايمز قصة إخبارية بعنوان "الموت
الذي يعاني منه المسجونون السياسيون في مصر"، كما نشر موقع ميدل إيست مونيتور
تصريحات المرشح الرئاسي السابق
د. عبد المنعم أبو الفتوح عن تعرضه للموت البطيء في
مملكة السجون المصرية.
السجون المصرية ليست مشكلتها في سوء المباني بل في سوء الإدارة وثقافة
التنكيل والتنمر على المسجونين باعتبارهم مجرمين حتى ولو لم تتم إدانتهم أو حتى
محاكمتهم، ناهيك عن أن السجون المصرية تعتبر مرتعا للفساد والتربح المالي من
المساجين وأسرهم، ويمكنك سؤال أي شخص اعتقل أو قريب له عن الإكراميات التي تُدفع
للسجانين وطواقم العمل في السجون كي يتم تمرير الغذاء والدواء والأغطية والألبسة
للمعتقلين، رغم أن هذا من أبسط حقوقهم وفقا للقانون المنظم لإدارة السجون (الحماية
المجتمعية).
تدير مافيا السجون عصابات تبدأ بالشاويش (مساعد الضابط) وتنتهي عند كبار
الضباط الذين من شأنهم تحويل حياة أي سجين إلى جحيم أو جنة، كما فعلوا ولا يزالون
يفعلون بطبقة المسجونين الـ"VIP"، وهم سراق المال العام وتجار
المخدرات والبلطجية الذين تتوفر لهم حياة كريمة داخل السجون مقابل ما يدفعونه من
أموال شهريا لضباط السجون أو من هم أعلى رتبة منهم في وزارة الداخلية.
يحتاج السجين أو المعتقل أن يصرف ألوف الجنيهات شهريا على الكانتين التابع
لوزارة الداخلية، وهي إتاوة مفروضة عليه حتى ينعم بمعاملة لا إهانة فيها وحتى يحصل
على نوع من الترفيه مثل البسكويت والحلوى؛ وهي بضاعة أسعارها أضعاف مضاعفة مقارنة
بسعرها خارج السجون، وكأن السجين يعيش فعلا وكما يقول إعلام النظام في سويسرا.
يقود النظام حملة بروباجندا إعلامية لإقناع الرأي العام بأنه معني بحقوق
الإنسان، وفي 11 أيلول/ سبتمبر 2021 أعلن النظام عن الاستراتيجية الجديدة لحقوق
الإنسان، والحقيقة أنها مجرد عبارات فضفاضة تصطدم كليا مع واقع أليم ومؤلم لحالة
السجون وحقوق الإنسان عموما. وفي إطار حملة النظام لإقناع الرأي العام المحلي بعد
أن عجز عن إقناع العالم، دشن النظام عدة زيارات لأماكن قيل إنها سجون، والحقيقة أن
ما شاهده الرأي العام هو انتقال سلس لخدمات الفنادق إلى بعض السجون من أجل التصوير
ثم بعد ذلك عادت الأمور إلى سيرتها الأولى.
من بين من زاروا هذه السجون الفخمة المذيع تامر أمين والذي
تمنى أن يسجن
في سجن برج العرب 48 ساعة من فرط تميز الأوضاع وخصوصا الخبز المصري الذي تنتجه
الأفران في السجون، وعلى هذا النهج
سارت قافلة إعلاميي النظام دون حرج ولا حياء ولا حديث عمن يلقون حتفهم بشكل مستمر
داخل جدران تلك السجون.
لقد تجاوز النظام مرحلة الدفاع عن نفسه في مواجهة الانتقادات وانتقل إلى
مرحلة ترويج القيمة المضافة للسجون الجديدة، ونسي النظام أن إدارة السجون تحتاج
إلى ثقافة جديدة غير متوفرة في ظل بحث النظام عن الاستقرار على حساب كل شيء آخر،
وبالتالي لا يمكن أن تتغير هذه الثقافة الإجرامية بمجرد الانتقال إلى سجون أكثر
فخامة واعتقال مئات الألوف على مدار الشهور والسنوات.
في المقال المقبل نتكلم عن العدالة العرجاء في العشرية السوداء إن شاء الله.