تُعرّف
الموازنة العامة بأنها تقدير للإيرادات والنفقات العامة، عن مدة محددة، وفقا للظروف الاقتصادية للدولة، ويمكن هذا التقدير من تحقيق خطط تتعلق بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية. وأهم مبدأ فيها هو «وحدة الموازنة» أي أن ترد نفقات الدولة وإيراداتها كاملة في وثيقة واحدة، من أجل معرفة الوضع المالي الحقيقي للدولة من جهة، وضمان نجاعة الرقابة عليها وتدقيقها محاسبيا من جهة ثانية.
وكي نعطي صورة مبسطة عن الموازنة العامة الاتحادية في
العراق من جهة محايدة، سنعتمد هنا على التقييمات التي تقدمها منظمة «شراكة الموازنة الدولية» وهي منظمة تعمل على قياس مدى الشفافية والمشاركة المجتمعية والمساءلة فيما يتعلق بالموازنات العامة في الدول حول العالم. وهي تقوم بمسح تحت عنوان «مسح الموازنة المفتوحة « لتقييم مدى وصول الجمهور إلى معلومات الموازنات العامة، والفرص المتاحة رسميا للمشاركة في إعدادها، ودور مؤسسات الرقابة على الموازنة، مثل السلطة التشريعية ومكاتب التدقيق الرسمية فيها أيضا.
في المسح الذي جرى عام 2021، وشمل 120 دولة، كانت النتائج كالآتي: فيما يتعلق بالمشاركة العامة في السياسات المالية، نجد أن العراق حصل على درجة (صفر من 100)!
وفيما يتعلق بمدى وصول الجمهور إلى المعلومات الخاصة بالموازنة العامة، ومن خلال 109 مؤشر، نجد أن العراق حصل على درجة 6 من 100، ليأتي بالمرتبة 122 من بين 120 دولة! والمفارقة هنا أنه يأتي بعيدا عن دول عربية لا يمكن وصفها بأنها دول ديمقراطية التي سجلت الدرجات 61، و 48 و 23 من 100 على التوالي!
أما فيما يتعلق بالجانب الرقابي الذي يلعبه مجلس النواب، وديوان الرقابة المالية، حصل العراق على درجة 55 من 100، وكانت درجة مجلس النواب 44 من 100! إذ يرى المسح أن مجلس النواب العراقي لا يوفر سوى رقابة محدودة خلال مرحلة التخطيط للموازنة العامة، وإشراف محدود خلال مرحلة التنفيذ! والأهم أن المسح يقول أن لا وجود لمؤسسة مالية مستقلة غير حزبية تقوم بتدقيق مالي ومحاسبي للموازنة العامة!
تعكس هذه الأرقام حقيقةً تحولت إلى سياسة منهجية، هي أن الموازنة العامة في العراق أصبحت شأنا سياسيا، وليس شأنا اقتصاديا. وأن الفاعلين السياسيين يعدونها وفقا لمصالحهم المباشرة، الحزبية والشخصية، وليس وفقا لبرامج واضحة وخطط حقيقية!
واستنادا إلى هذه الحقيقة وحدها، تستطيع أن تفهم لماذا لا تُقدم الحسابات الختامية للموازنة العامة في العراق، وهي تقرير سنوي يعكس عملية تنفيذ الموازنة العامة لأنه يعبر عن الإيرادات المتحققة والنفقات الفعلية للدولة وليس التقديرية! فوفقا لتصريحات رسمية للمستشار الاقتصادي لرئيس مجلس الوزراء، فان مجلس النواب العراقي لم يستطع إقرار الحسابات الختامية للموازنة الاتحادية العامة بعد العام 2012! وهذا يعني أن مجلس النواب قد مرر الموازنات الاتحادية منذ العام 2012 حتى اللحظة، دون أن يقّر الحسابات الختامية، وهو انتهاك واضح للدستور العراقي الذي قرر في المادة 62 أن «يقدم مجلس الوزراء مشروع قانون الموازنة العامة والحساب الختامي إلى مجلس النواب لإقراره»!
إن «تصميم» قانون الموازنة العامة الاتحادية في العراق، يخضع لعلاقات القوة، وقواعد الاستثمار في المال العام، بسبب تحول سلطات الدولة ومؤسساتها كافة إلى إقطاعيات للفاعلين السياسيين
المفارقة هنا أن قانون الإدارة المالية والدّين العام رقم 94 لسنة 2004، والذي كان يفترض أن يحكم موازنات الأعوام 2005 ـ 2018، قد نص على أن يقدم وزير المالية إعداد الحسابات الختامية السنوية إلى ديوان الرقابة المالية يوم 15 نيسان من السنة التالية لسنة إقرار الموازنة العامة، والذي بدوره يقوم بإعداد تقرير رقابي بشأن هذه الحسابات الختامية في 15 حزيران، ثم لتقوم الحكومة بتقديمهما معا إلى مجلس النواب في 30 حزيران! وأن يجب نشر الحسابات الختامية بعد إقرارها في مجلس النواب في الجريدة الرسمية ويتاح للجمهور الاطلاع عليها، وهو ما لم يحدث مطلقا!
كما أن القانون البديل، وهو قانون الإدارة المالية الاتحادية رقم 6 لسنة 2019، والذي كان يفترض أن يحكم الموازنات العامة للأعوام 2019 ـ 2021، كان قد نص أيضا على أن يقدم وزير المالية البيانات المالية الاتحادية في موعد أقصاه نهاية شهر آذار من السنة اللاحقة إلى ديوان الرقابة المالية، وعلى الديوان تقديم تقريره في الخامس عشر من شهر أيلول، وأن يعرض على مجلس النواب قبل الثلاثين من شهر أيلول لمناقشته وإقراره، وعلى أن ينشر التقرير المقر من مجلس النواب بالجريدة الرسمية وعلى المواقع الرسمية لوزارة المالية ومجلس الوزراء!
لكن مراجعة الصحيفة الرسمية تكشف أنه لم تنشر أية حسابات ختامية لأي سنة!
وتكشف مراجعة الحسابات الختامية لوزارة المالية أيضا أن آخر سنة نشرت فيها حساباتها الختامية، كانت سنة 2013! ويكشف موقع مجلس الوزراء كذلك أنه لا وجود لأية حسابات ختامية منشورة!
وضمن مهازل الدولة في هذا السياق، نشر مجلس النواب بتاريخ 19 شباط 2013 خبرا مفاده: «أنجز المجلس القراءة الأولى لمشروع قانون إقرار البيانات المالية للسنة المالية المنتهية لسنة 2014 والمقدم من اللجنة المالية) مع العلم أن الموازنة العامة لم تُقر في هذه السنة من الأصل (بلغ حجم مشروع الموازنة العامة لعام 2014 الذي لم يمرر في مجلس النواب أكثر من 150 مليار دولار)! وهذا يعني أن السلطة التشريعية لا تعرف كيف صرفت عشرات مليارات الدولارات قبل ثمان سنوات كاملة أي عام 2014!
إن «تصميم» قانون الموازنة العامة الاتحادية في العراق، يخضع لعلاقات القوة، وقواعد الاستثمار في
المال العام، بسبب تحول سلطات الدولة ومؤسساتها كافة إلى إقطاعيات للفاعلين السياسيين، بداية من لحظة إعدادها في وزارتي المالية والتخطيط، وانتهاء بلحظة إقرارها في مجلس النواب، وهو ما يفسر مخالفة مشروع قانون الموازنة لعام 2023 لما اتفق عليه العراق مع صندوق النقد الدولي، ونُشر في بيان رسمي في 7 كانون الأول 2022 فيما يتعلق بتخفيض فاتورة الأجور الحكومية، وذلك بزيادة هذه الفاتورة بشكل قياسي! وهو أيضا ما يفسر الصراع الذي ظهر صريحا وعلنيا بين رئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء في الأسبوع الأخير بشأن الموازنة العامة، وهو صراع سينتهي بالضرورة وفق المبدأ العراقي التقليدي «بوس عمك بوس خالك».
ومن خلال الاتفاق التي ينتهي بتمريرها مع عجز قياسي بلغ أكثر من 20٪ من الناتج المحلي الإجمالي لعام 2021 البالغ 207.9 مليار دولار (لا وجود لأرقام رسمية عن الناتج المحلي الإجمالي لعام 2022، وآخر رقم منشور في موقع وزارة التخطيط العراقية هو لعام 2020!) ولن يلتفت أحد كالعادة إلى ما يقرره القانون في أن لا يزيد العجز عن 3٪ من الناتج المحلي الإجمالي، فالقوانين في العراق لا تصمد أمام الصفقات السياسية!