تعود قصة
القضاء في
مصر إلى ما قبل الفتح العثماني، إذ كانت المحاكم
الشرعية التي ينتدب لها قاض لكل مذهب من المذاهب الأربعة. وأثناء الحكم العثماني
توحدت المحاكم وأصبحت محكمة واحدة، وانتشر
الفساد وتم إسناد مهام إدارية للقضاة
إلى جانب مهمتهم الأساسية وهي الفصل بين الناس في القضايا.
ومع قدوم الحملة الفرنسية على مصر عام 1798 سعى نابليون إلى تقليص القضاء
الشرعي، وانتهى الأمر بإنشاء محاكم جديدة تختص بالقضايا التجارية من بين محكمين أو
قضاة نصفهم من المسلمين والنصف الآخر من المسيحيين. ثم قام خليفة نابليون الجنرال جاك
فرانسوا مينو بإنشاء محاكم لكل طائفة من الطوائف وتُركت المحاكم الشرعية اختيارية
لمن يريد التحاكم إليها.
ثم كانت فترة حكم أسرة محمد علي، ولرغبته في الاستقلال عن الباب العالي
حاول محمد علي إنشاء نظام قضائي مستقل، وفي عام 1837 تأسست أول جمعية حقانية وهي
أول مؤسسة قضائية مصرية، ثم مجلس الأحكام فديوان الحقانية في 1863، ثم كانت نقطة
التحول الكبرى في دستور 1923 الذي نص على أن "القضاة مستقلون،
لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون، وليس لأية سلطة في الحكومة التدخل في
القضايا" (راجع مقال:
موجز تاريخ القضاء المصري من المحاكم
الشرعية إلى الاستثنائية- موقع
إضاءات).
لا يستقيم حكم الجنرالات مع وجود نظام قضائي سليم، فكما أنهم أعداء الحياة
المدنية بشكل عام فهم أعداء لكل قاض نزيه ومستقل وغير مسيّس، وهم خصوم لكل
الدساتير ولكافة التشريعات التي تضمن للوطن نظاما قضائيا وإجراءات قانونية سليمة،
لذا فما ينفك الجنرالات يعدلون الدساتير ويغيرون القوانين لكي تكون طوعا لهم، تشبع
رغباتهم في الثأر وتروي ظمأهم للانتقام من كل معارضيهم.
فيما يتعلق بالسياسة فلا يتمتع القضاء المصري بسمعة طيبة أو حتى مقبولة في
الأوساط الدولية المعنية بالقانون والقضاء والعدالة، خصوصا فيما يتعلق بحقوق
المتهمين ولا سيما إذا كانوا سياسيين، فهؤلاء بلا حقوق تقريبا ويمكن -وكما ذكرنا
في الجزء السابق عن الاختفاء القسري- تغييبهم لشهور دون معرفة أماكنهم وعند عرضهم
على النيابة تعتبرهم "واردا جديدا"، كما حدث مع أخي علاء فك الله أسره، إذ
حين مثل أمام وكيل النيابة سأله: بقى لك قد إيه محجوز؟ قال له: ستة أشهر، قال له
وكيل النيابة: ما تكذبش إنت لسه مقبوض عليك إمبارح.. هكذا ببساطة.
تنص المادة 95 من الدستور المعدل في 2019 على أن "العقوبة شخصية، ولا
جريمة ولا عقوبة إلا بناء على قانون، ولا توقع عقوبة إلا بحكم قضائي.."، ورغم
ذلك فقد
اعتقلت السلطات أبرياء كُثرا لأنهم أقارب لناشطين وسياسيين وإعلاميين
معارضين للنظام، كما حدث مع محمد ناصر ومعتز مطر وهيثم أبو خليل وعبد الله الشريف
والعبد الله، كما أن معظم هؤلاء المعتقلين من أقارب السياسيين مثل
الرئيس مرسي والدكتور البلتاجي وأقارب المئات من الناشطين؛ محبوسون لفترات طويلة
تجاوزت مدة الحبس الاحتياطي المنصوص عليها في الدستور الذي كتبوه بأيديهم.
تعتبر النيابة الذراع الأمني الجديد جنبا إلى جنب مع الشرطة والأمن الوطني،
فبمجرد عرض المتهم على النيابة يعامل نفس المعاملة التي يتلقاها أثناء الحجز في أقسام
الشرطة، حتى أنني سمعت الدكتور حسن نافعة، أستاذ العلوم السياسية والمناضل السياسي،
يقول في تصريحات منشورة له حديثا إنه تلقى إهانات من وكيل النيابة الذي يفترض أنه يمثل
سلطة التحقيق مع المتهم وليس معاقبته واستنطاقه من أجل إدانته.
ورغم أن الدستور المعدل في 2019 ينص في مادته (54) على ضرورة حضور محام مع
المتهم أثناء التحقيق معه (ولا يبدأ التحقيق معه إلا في حضور محاميه، فإن لم يكن
له محام، نُدب له محام، مع توفير المساعدة اللازمة لذوي الإعاقة، وفقاً للإجراءات
المقررة في القانون)، إلا أن ذلك لا يحدث، بل إن المحامين خصوصا المدافعين عن
النشطاء السياسيين يتعرضون للمطاردة والإهانة والتهديد والحبس، كما حدث مع المحامي
محمد الباقر، والمحامية
الأستاذة
هدى عبد المنعم التي أخفيت قسريا
ثم حبست احتياطيا لأكثر من أربع سنوات ثم صدر ضدها حكم بالسجن لخمس سنوات.
أما عن الحبس الاحتياطي فقد تحول إلى عقوبة في حد ذاته بعد أن أوكلت
التعديلات على القوانين هذا الأمر لسلطة النيابة وليس لقضاة الموضوع، ومنذ تلك
اللحظة أصبح بلا سقف ومن حق النيابة التجديد وحتى بدون تجديد، فمن حق السلطة
الاحتفاظ بالأشخاص لمدد مفتوحة حتى تقرر إما إخلاء سبيلهم أو تحويلهم إلى المحاكمة.
وللعلم فإن الحبس الاحتياطي يؤرق النظام عالميا ومحليا لذا فقد تقرر وضعه ضمن
أجندة ما يسمى بالحوار الوطني كما
كتب أحد المشاركين فيه، وهو الدكتور عمرو هاشم
ربيع، نائب رئيس مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية.
وفق
مشروع العدالة العالمية (WJP) فإن تصنيف
العدالة في مصر لعام 2022 في المرتبة 135 من بين 140 دولة حول العالم، وهي رقم 8
في الإقليم أي في ذيل القائمة، وتأتي العدالة في مصر متأخرة عن ميانمار ونيكاراجو
وبنجلاديش وزيمبابوي، وهي بلدان قد يظن المرء أنها متخلفة عن مصر بمراحل ولكن
الحقيقة أن العدالة في زمن القضاء باتت أكثر تخلفا من كل الدول التي كان من الممكن
وصفها بالتخلف الحضاري إذا ما قورنت بمصر.
للتاريخ، لم يكن انقلاب تموز/ يوليو 2013 فريدا من نوعه في استهدافه للقضاء
كمؤسسة يفترض أنها مستقلة وفقا لدستور مصر عام 1923 الذي نص على: "القضاة
مستقلون، لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون، وليس لأية سلطة في الحكومة
التدخل في القضايا"، فقد سبقه انقلاب تموز/ يوليو 1952 الذي لم يكتف باستهداف
العدالة ويلقي بها جانبا، بل قامت دولة الضباط
بالاعتداء على الفقيه الدستوري
والعلامة القانوني عبد الرزاق السنهوري في 29 آذار/ مارس 1954، بعد أن قدم لبلاده أفضل ما يمكن أن يقدمه فقيه
دستوري بعد وقوع الثورة أو الانقلاب أو الحركة المباركة. وكما قام نظام عبد الناصر
بترويع القضاة وعزل منهم 200 قاض بتهمة العداء للثورة في 31 آب/ أغسطس 1969، فقد
قام الجنرال
السيسي بترويعهم ثم ترويضهم على شاشات التلفزيون يوم تشييع جنازة النائب
العام هشام بركات في 30 حزيران/ يونيو 2015، حيث وقف السيسي مخاطبا القضاة من
زملاء الراحل قائلا: "مش دمه بس اللي في رقبتكم ولا ثأره بس اللي في رقبتكم،
احنا ما اتدخلناش خالص في شؤون القضاء وأنتم ما سمحتوش لنا بكده فسبنا الأمر عندكم
بقا لنا سنتين سايبينه عندكم والناس كلها في مصر بتقول ننفذ القانون وهننفذ
القانون، طيب فين يافندم من فضلكم من فضلكم.. يا فندم داحنا عايزين المحاكم
والقوانين الناجزة العادلة. خلوا بالكم
الكلام ده احنا ما بنخافش وما نتهزش ههه احنا مش بنقول كده غطرسة إحنا ربنا فوقنا،
خلوا بالكم مش هينفع إن احنا نعمل ونمشي كده احنا بنتكلم أكثر من سنتين لا
المحاكم بالطريقة دي في الظروف دي هتنفع ولا القوانين دي في الظروف دي هتنفع".
وقد
كرر السيسي نفس الكلام أثناء تقديم العزاء لأسرة هشام بركات وقال بوضوح
شديد لا لبس فيه: "إحنا هنعدل القوانين اللي تخلينا ننفذ القانون والعدالة في
أسرع وقت ممكن، سننفذ العدالة في أسرع وقت ممكن، خلال أيام تتعرض القوانين، قوانين
الإجراءات الجنائية المظبوطة اللي تجابه التطور اللي احنا بنقابله، احنا بنقابل إرهاب
يبقى فيه قوانين بتجابه ده، يبقى فيه محاكم تجابه ده احنا مش هنقعد خمس سنين وعشر
سنين نحاكم الناس اللي بتقتلنا، هما بيصدروا الأمر وهما في القفص وبيتنفذ الحكم
واحنا قاعدين بننفذ القانون، واحنا هنحترم القانون".
حجة السيسي التي يسردها في المحافل الأوروبية الناقدة بشدة للمحاكمات غير
النزيهة ولأحكام الإعدام التي لا تتوقف منذ توليه السلطة؛ هي "كل منطقة لها ظروفها الخاصة بها.. الأولوية في الدول الأوروبية هي
تحقيق الرفاهية لشعوبها والحفاظ عليها، الأولوية في بلادنا هي الحفاظ على بلادنا
ومنعها من السقوط والدمار والخراب كما ترون في دول"، أي وبلغة بسيطة "شعبي
وأنا حر فيه".
المحاكم
الجماعية أصبحت سمة من سمات القضاء في عصر الانقلاب، وذلك لرغبة الجنرال في مواجهة
شاملة مع كل الخصوم السياسيين والحكم عليهم حتى يتمكن من الزعم بأنه ليس لديه
معتقلون بل محكومون، وذلك بعد أن ارتفع صوت الانتقادات الدولية ضد انتهاك حقوق
المصريين وخصوصا معارضي الانقلاب.
ففي
25 آذار/ مارس 2014 وفي واقعة لم ولن تتكرر على ما يبدو لعقود قادمة، حكمت محكمة جنايات المنيا على
529 مصريا بالإعدام في جلسة واحدة فيما عرف بقضية اقتحام قسم شرطة مطاي بالمنيا.
المضحك المبكي أن القاضي استغرق 20 دقيقة ليقرر إنهاء حياة نصف ما يزيد عن 500 روح
بشرية دون تقديم أدلة أو براهين ودون إجراءات محاكمة عادلة تصل به إلى هذا الحكم
القاسي والعنيف، ولكن يبدو أنه كان متناغما مع رغبة الجنرال في القضاء على المعارضين
بطريقة أو بأخرى. وعلى هذا النهج من المحاكمات الجماعية فقد تمت
محاكمة 781 مصريا دفعة واحدة بتهمة واحدة وهي "أحداث العدوة بمحافظة المنيا" في صعيد مصر، وحكم على
المئات منهم بالمؤبد والسجن المشدد لفترات طويلة ما بين 10 و15 سنة، وكان من بينهم
مرشد الإخوان المسلمين الدكتور محمد بديع فك الله أسره.
وفي
السابع عشر من شباط/ فبراير 2016 حكم ضابط يجلس على منصة القضاء العسكري على 116
مصريا من بينهم طفل لا يتجاوز عمره أربع سنوات، متهما إياهم بالقيام بأعمال شغب
احتجزوا على إثرها منذ عام 2014. وثار الرأي العام إذ
كيف يحاكم طفل في الرابعة من
عمره بتهمة الشغب وكيف يحاكم أمام قاض عسكري؟ ولكن لا جديد، فقد تم التصرف في
الموضوع بطريقة مسرحية وتمت تبرئة الطفل أحمد منصور قرني بعد أن دوت الفضيحة في
أرجاء المعمورة، ولكن النظام تعامل وكأن شيئا لم يكن.
أما
عن الحكم بالإعدام فقد تخصص حفنة من القضاة وذاعت أسماؤهم وانتشرت أحكامهم في
الآفاق المصرية والعالمية، وعلى رأسهم المستشار
محمد ناجي شحاتة الذي أصدر وحده 236
حكما بالإعدام، والمستشار سعيد صبري الذي أصدر 220 حكما بالإعدام، والمستشار
شعبان الشامي الذي أصدر 160 حكما
بالإعدام، والمستشار
حسن فريد الذي أصدر 147 حكما بالإعدام، والمستشار شيرين فهمي والذي أصدر 46
حكما.. وهكذا بدا الأمر وكأنه سباق ماراثون بين هذه الحفنة من القضاة الذين وبلا
شك أكملوا رسم صورة الانقلاب الدموي؛ لأنه وبدون تلك الحفنة فربما ظن الناس أن
هناك عدالة حقيقية في مصر. وفي رأيي أن هؤلاء القضاة يجب أن يحاكموا يوما ما بتهمة
تشكيل عصابي لقتل الأبرياء، فقد أصدر هذا التشكيل العصابي المكون من 19 قاضيا
1056
حكما بالإعدام على مصريين معارضين للانقلاب في الفترة حتى 2019. طالع التقرير.
علاقة
السيسي بالقضاء والقضاة وصفها أحد العاملين في مجال حقوق الإنسان يوما ما بأنها "علاقة
امتطاء"، منذ أن قام بتعيين رئيس المحكمة الدستورية عدلي منصور رئيسا مؤقتا
حتى يتباهى بأن ما جرى ليس انقلابا، ومن بعدها تمكن السيسي من السيطرة على القضاة
سيطرة تامة وأصبح وفقا لآخر تعديلات دستورية (المادة 185) من حقه هو وحده تعيين
رؤساء الجهات والهيئات القضائية، كما يترأس المجلس الأعلى لهذه الجهات والهيئات
القضائية، ما يعني أن القضاء بأكمله أصبح ملك يمينه. يمكنكم مطالعة التعديلات الدستورية لعام 2019 هنا.
ووفقا
لهذه العلاقة الفوقية يعرف السيسي كيف يرخي الحبل مع القضاة بتعيين أبنائهم
وأحفادهم وبناتهم أو بزيادة مخصصاتهم، كما يعرف كيف يشد الحبل حين يغضب عليهم وذلك
من خلال محاكمة بعض القضاة الفاسدين الذين أيدوه وقاموا بإصدار أحكام جائرة على
معارضيه، مثل القاضي
سامي محمود عبد الرحيم، رئيس الدائرة الأولى بمحكمة جنايات بورسعيد الذي سبق له أن حكم على مرشد عام
الإخوان المسلمين بحكم المؤبد و11 قياديا إخوانيا آخرين بتهمة الشغب، كما أنه من
أصدر حكم إعدام عادل حبارة. وقد اتهم هذا القاضي في قضية رشوة وحكم عليه بالسجن
عشر سنوات.
مؤسسة
القضاء في مصر تعاني من فساد بعض رؤساء المحاكم ورؤساء النيابات، وكثيرا ما يتم
رصد حالات رشوة كبيرة من أجل إنقاذ متهمين في قضايا جنائية كبرى، مثل تجارة
المخدرات أو القتل أو سرقة وتهريب الآثار أو الاستيلاء على المال العام أو تقديم
رشاوى لمسؤولين حكوميين كبار لتمرير بعض القرارات المخالفة للقوانين؛ على النحو
الذي
جرى مع زوج وزيرة الصحة السابقة.
وللإنصاف،
فإن فريقا من القضاة الشرفاء قاموا بالتصدي ومنذ زمن مبارك المخلوع لفساد المنظومة
القضائية وحاولوا الوقوف في وجه التيار ورفضوا ممارسات السلطة وأسسوا تيارا للقضاة
المستقلين (قضاة من أجل مصر)، وقد وقع غالبية هؤلاء على بيان إدانة مجزرة رابعة. ورغم
أنهم قضاة إلا أنهم قد حظوا بمعاملة سيئة وتعسف وأحيلوا إلى
التحقيق وعُزل منهم
44 قاضيا بعد أن جرت محاولات من
السلطة لإجبارهم على إعلان الموافقة على ما جرى في 3 تموز/ يوليو مقابل استمرارهم
في السلك القضائي.
وقد
اعتقل المستشار محمود الخضيري على كبر سنه وشيخوخته، واعتقل المستشار أحمد سليمان، وزير العدل في حكومة الرئيس الشهيد محمد مرسي، ثم أفرج عنه
ووضع
تحت الإقامة الجبرية لاحقا، كما تعرض بعض
القضاة الشرفاء
الذين رفضوا رئاسة بعض الدوائر المخصصة للإرهاب أو لمحاكمة المعارضين إلى الفصل
التعسفي والملاحقة والحرمان من بعض الامتيازات، ونُقل بعضهم إلى وظائف إدارية،
وذلك لعدم استجابتهم لرغبة السلطة في ترؤس هذه الدوائر أو الحكم بدون أدلة على أبرياء
لم يرتكبوا أي جرائم.
القضاء
المصري يعاني وسوف يظل يعاني من تأثير العشرية السوداء على مسيرته؛ التي تلوثت
بممارسات غير قانونية وغير أخلاقية من داخل المنظومة قبل خارجها.