بعدما اكتملت الصورة الهزلية في
لبنان، بإخضاعه بشكل
كامل للعبثية السياسية، وتعطيل استحقاقاته الداخلية بدءا برئاسة الجمهورية، ومن
ثم تشكيل حكومة، وصولا إلى ما كان متوقعا حصوله لجهة الإطاحة بالانتخابات
البلدية، وكذلك بتعريته من كل ما يحصّنه أمام العواصف المالية والاقتصادية
والاجتماعية، بات لبنان في تموضع سياسي يوصله إلى حافة احتمالات وسيناريوهات
ومخاطر شديدة الكلفة على كل المستويات الوطنية.
والنظرة السياسية على المشهد اللبناني وتطوراته
المتسارعة، تعزز الخشية من أن يكون لبنان مقبلا على
أزمات غير متوقعة. فبالتوازي
مع استعصاء الاستحقاق الرئاسي، وتموضع مكونات الصراع السياسي في خنادق التعطيل،
وإحباط كل مسعى للخروج من النفق المظلم، وخفوت وتيرة حركة الاتصالات الخارجية حول
الملف الرئاسي، فإن مجموعة عوامل تكدست في الآونة الآخيرة، إلى جانب الانهيار العضوي
للدولة، وأعباء الأزمة والضغوطات الهائلة ماليا واقتصاديا واجتماعيا، توحي
وكأنّ امرا ما، صدر من جهة ما، لبدء قرع طبول الفوضى الشاملة في الداخل اللبناني، وخاصة بعد إطلاق الصواريخ من الجنوب باتجاه شمال الأراضي المحتلة.
وهذه الرسائل المشفرة الإقليمية من الجنوب، أعادت ترتيب الحسابات السياسية؛ انطلاقا من ضرورة السير بالاستحقاق
الرئاسي المستعصي، مع محاولات جارية للجم سعر صرف العملة، مع تنبؤات من أن نهاية
فترة الأعياد، ستطلق مرحلة تفاوض جديد للملف الرئاسي، وخاصة أن المبادرة الفرنسية
للمقايضة بين سليمان فرنجية ونواف سلام، أُعدمت في مهدها بعد زيارة الموفد القطري،
والعقوبات التي فرضت على الأخوين رحمة، والتي اعتبرت رسالة لفرنجية، ما يؤسس لإطلاق
مبادرة تقودها الدوحة وتحظى بمظلة وإحاطة سعودية وأمريكية.
هذه الرسائل المشفرة الإقليمية من الجنوب، أعادت ترتيب الحسابات السياسية؛ انطلاقا من ضرورة السير بالاستحقاق الرئاسي المستعصي، مع محاولات جارية للجم سعر صرف العملة، مع تنبؤات من أن نهاية فترة الأعياد، ستطلق مرحلة تفاوض جديد للملف الرئاسي.
والجولة الاستكشافية للموفد القطري الوزير محمد بن عبد
العزيز الخليفي، ستتبعها زيارة مرتقبة بعد عيد الفطر وقبيل القمة العربية، على أن
تكون هذه المرة مترافقة مع خطوات وبنود واضحة، وما بين الزيارتين ثمة تطورات
ومستجدات إقليمية، من المفترض أن تشكّل عامل مساعدة للمسعى القطري.
وهذه الخطوات ليست ببعيدة عن مآلات المصالحة السعودية-
الإيرانية، والمقصود عبر إنهاء الحرب اليمنية والشروع في إعادة تَبادل البعثات
الديبلوماسية بين طهران والرياض، وهو ما يعني فتح الحوار الجدي حول لبنان وسوريا.
وهذا ما جرى من خلال زيارة وزير الخارجية السوري فيصل المقداد إلى الرياض، قبيل
أيام من اجتماعات دول عربية؛ لمناقشة إمكانية إعادة النظام إلى الحظيرة العربية، وتزامنا مع انعقاد القمة العربية المنتظرة في السعودية.
لكن، هناك ما هو أهم ويحصل في الكواليس الديبلوماسية، وهو
الاتفاق النووي الإيراني، وعلى الرغم من حالة الاشتباك والتصعيد المدروس بين
واشنطن وطهران في
سوريا، لكن هذا الأداء بات يُوحي بأن ما يحصل إنما يدخل في إطار
التفاوض، لا الخروج من الخطوط الحمراء في المواجهة القائمة.
لذا؛ فإن إدارة جو بايدن أعادت تواصلها مع إيران عبر
وسطاء في الملف النووي، وتحديدا قطر وسلطنة عمان، عبر طرح مجموعة حلول على الجانب
الإيراني، أهمها إعادة فتح أسواق النفط لطهران بكميات أكبر، في مقابل إعادة تشغيل
الكاميرات وتبطيء مستوى تخصيب اليورانيوم. ولا يمكن إغفال فكرة أن تكون الولايات
المتحدة باتت ترى بأن الظروف الحالية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وباتت
جاهزة لجهة المصالحة السعودية- الإيرانية أو لناحية اشتعال الأزمة في الداخل
الإسرائيلي،
وهو ما يجعل الظروف مواتية للاتفاق مع إيران، ما سيسمح بانخفاض أسعار النفط في
العالم، الأمر الذي سيدفع بايدن للتركيز على حملته الانتخابية، في ظل الأزمة التي
منيت بها أجنحة الحزب الجمهوري جراء فضائح ترامب.
وعليه، فإن الفشل بإبرام أي اتفاق نووي سيعزز فرضيات
التصعيد الإقليمي بين إيران وأذرعها وبين إسرائيل، وقد تكون الساحة اللبنانية إحدى
ساحات الصراع المحتمل، وسيرفع من منسوب الفوضى والانهيار. وثمة من يعتقد أن رسائل
الصواريخ من لبنان وسوريا، هي إشارة تجريبية لشكل الصراع، من خلال قول حزب الله
للجانبين الأمريكي والإسرائيلي؛ إنه يتحكم بقواعد اللعبة.
والاتصالات التي جرت من خلال قطر ومصر لمنع الانزلاق
في حرب أو تصعيد، يوضح أسباب الاندفاعة القطرية باتجاه لبنان، أولا من خلال
المشاركة القطرية في اتفاق الترسيم عبر دورها كوسيط فاعل، وثانيا من خلال حضورها
على الطاولة الخماسية بعد سنوات الانكفاء من لبنان، وكذلك عبر الزيارات
الاستكشافية للمسؤولين القطريين واللقاءات المتواصلة مع الأطراف اللبنانية
والأطراف الإقليمية المؤثرة في لبنان، وتحديدا إيران والسعودية.
لكن ثمة تغيرا جذريا بدأ يتمظهر، وهناك اعتقاد متقاطع بين دول عدة، تشير إلى أن إنجاز التسوية في لبنان سيفتح الباب على حلول في سوريا، باعتبار أن الواقع السوري أكثر تعقيدا، وخاصة في وجود تشدد في العقوبات الأمريكية- الأوروبية باتجاه النظام السوري، بالإضافة إلى تهيئة ظروف عودة اللاجئين السوريين إلى مدنهم وقراهم، وإعادة ترتيب الديموغرافيا التي دمرتها إيران، مع خلق لمظلة حوار بين النظام والمعارضة.
وهذا المسار، سمعه نواب التغيير منذ يومين في لقائهم
الافتراضي في السفارة القطرية ببيروت مع الوزير الخليفي؛ الذي سمع منهم مواقف
تتطابق مع النظرة القطرية للإصلاح في لبنان، الأمر الذي يؤكد إمكانية تحقيق خرق
رئاسي عقب القمة العربية، من خلال انسحاب فرنجية وترشيح شخصية وسطية والمضي
بالتصويت لها. ولا يمكن إغفال فكرة رئيسية تقول؛ إن الدول العربية تتنظر مفاعيل 15
أيار/ مايو في تركيا وانتخاباتها المصيرية، التي بطبيعة الحال ستلقي بظلالها على
سوريا، وكذلك القمة العربية التي تريدها السعودية مناسبة لإعلان زعامتها العربية
من جديد.
وربطا بهذا المسار، كانت التصورات الإقليمية السابقة
أن الحلول اللبنانية تبدأ عقب الحلول السورية، لكن ثمة تغيرا جذريا بدأ يتمظهر،
وهناك اعتقاد متقاطع بين دول عدة، تشير إلى أن إنجاز التسوية في لبنان سيفتح الباب
على حلول في سوريا، باعتبار أن الواقع السوري أكثر تعقيدا، وخاصة في وجود تشدد في
العقوبات الأمريكية- الأوروبية باتجاه النظام السوري، بالإضافة إلى تهيئة ظروف عودة
اللاجئين السوريين إلى مدنهم وقراهم، وإعادة ترتيب الديموغرافيا التي دمرتها إيران،
مع خلق لمظلة حوار بين النظام والمعارضة على أسس واضحة تضمن المشاركة في السلطة،
وهذا الموقف باتت تلتقي عليه دول كمصر وقطر والكويت.
وهذا التحول الاستراتيجي عبر تبادل الفوائد بين إيران
والسعودية، قد يكون قابلا للانسحاب على مساحات أخرى بمعزل عن اليمن، تقابله تفاهمات
إيرانية مع الإمارات وتطور متسارع بالعلاقة مع سلطنة عُمان وقطر، وترتيبات لإنجاز
تفاهمات مع البحرين ومن ثم مع الأردن ومصر، استكمالا للمباحثات المباشرة التي استضافتها
بغداد السنة الماضية، بين أجهزة المخابرات الإيرانية والمصرية والأردنية، وكانت
نتيجتها إيجابية على المستوى الثلاثي.