معوقات
النهضـة:
تكلمنا عن
التخلف وأسبابه في
مقالات سابقة، لكن التخلف له علاج كما حاولت أوروبا ونجحت عبر عصور أن تحقق
التنمية والتطور بغض النظر عن التفاصيل والمآل الحالي، بيد أننا وعند النظر إلى
مجتمعنا نجد انطباعات متأثرة بالغرب زُرعت لكن نحن من نسقيها وننميها لتكون أدغالا
تسد طريق التنمية والنهضة؛ لأننا لم نصمم كشركاء وإنما مستهلكين سنجد نمو القشور
وغياب الفاعلية الإيجابية.
أوتاد
خيمة التخلف:
تغييرات أثرت في
مسارات الاجتهاد والتجديد في منطقتنا، كما ظهر جوهر هذه التغيرات في أوروبا، فعلى
سبيل المثال كان الوقف يمثل تكاملا والمجتمع عندما يقر علماء الدين بقبول الاجتهاد
المشجع لتنمية الأوقاف من حيث الإدارة ومن يدير وكيفية استثماره، بينما يجمد عندما
لا يباح استثمار وتنمية أوقاف المسلمين. وكان يدخل في تفاصيل حياة الناس مثلا
استخدام ذهب الأوقاف للعرائس أثناء الزفاف ومراسم الزواج، هذا نموذج من تكافل
المؤسسات وكذلك الزكاة والصدقات التي تترك أثرا نفسيا إيجابيا عند المحسِن والمحسَن
إليه. الدولة تقوم بهذا الأمر في الحداثة فهي تجمع الضرائب وغيرها وتدير عملية
رعاية اجتماعية في احتياجات الناس من البقاء، ونجد نظام التأمين والضمان الصحي
وغيرها مما لا يوجد عندنا بشكل عملي ونافع ليؤدي الغرض في احترام كرامة الإنسان؛
لأنه كغيره من النظم الرأسمالية الليبرالية منقول بلا حيثياته ولا غضاضة في الآلية
ما لم يطَلها فساد.
إبان زمن
النهضة
الأوروبية تحرك رأس المال ليغزو بلاد المواد الأولية ومنها منطقتنا، وعند هذه
النقطة نشأت الحداثة. لم يك الاحتلال الذي سلك أسلوبَ استعمار المناطق والناس
وتطبيق الوصاية عليهم وإذلالهم لدرجة إقناعهم بهذه المهانة والتفوق حتى نجد اليوم
تقديسا صامتا، لكنه يظهر في سلوك الناس تجاه القوى المجددة وتحييدها أو إحباطها.
فالاستعمار بنى فكرا كما يريد وثقافة كما يريد، وباختصار نفسية وعقلية عبيد عند
مجموعة من النخبة، ومن تركهم بعده يحكمون المنطقة كانوا نوعا من القادة لا تذكرهم
الكتب الحديثة بلا رؤية، مقفلين يمثلون حالة من الهلامية والضيق في الأفق وحجاب
أمام النهضة الحقيقية. فهم ليسوا مديرين لمنظومة الحكم ولا قادة رجال دولة يفكرون
في رقي بلدانهم، ولا أصحاب مشاريع حقيقية، بل يستدعون الصراعات الوهمية من أجل
استغلالها في قمع المخالف وإذلاله.
الحركات
المعارضة:
عندما قامت
الحركات المعارضة للنظم لم تك تحمل رؤية، فهي من ذات المدرسة التي تطمح إلى السلطة،
وعندما تصل للسلطة تتحول إلى القمع والتنكيل بمن سيظهر كمعارض. وأخذت أشكالا قيمية
من القيم الرفيعة للأمة، لكنها شوهت هذه القيم فأضرت بالأمة حين تلبست بقيمها.
الإسلاميون ظهرت
أفكارهم عند تداعي الدولة العثمانية، فكانت أفكارا برد الفعل وليس الفعل الحقيقي
المدروس وله منهج يقابل التحديات والتشوهات الفكرية والاجتماعية وإدارة عملية
الإصلاح بلا مشاكل، فنجد أن هنالك من وضع الجهاد في غير موضعه، وهنالك من وضع فكرة
السلم في غير موضعها، فكانت الحالتان مهلهلة مليئة بالفتحات كالغربال.
هنالك من فكر
باستئناف الحياة الإسلامية وكأنها توقفت قبل ساعة، وهنالك من اعتبر النموذج هو
نموذج الراشدين أو العباسيين أو الأمويين أو غيرهم، وسادت فكرة التغلب مع العجز
فأضحى الحكام الانقلابيون شرعيين، وأتى من لا يفهم في إدارة شؤون الناس لكن يجيد
قمعهم وجلدهم وتضييع النخب؛ بل تشويه مخرجات النخب الفكرية من شدة ألم التعذيب
والسجون.
الحركات بمجملها
كلما تقدم الزمن تخلفت عمليا ومارست القمع ضد أي تجديد من داخلها، فنتج عن ذلك ما
نراه اليوم من انحرافات في الحكم وفساد لدى
العلمانيين والإسلاميين، والنتيجة دمار
عملي عندما تتوسع الشقة بين منطقتنا والتطور المدني لنصبح مستهلكين مع هذه العقلية
العدمية؛ فلا مراكز دراسات ولا رؤية وإنما انجرار نحو هاوية التخلف.
تقليد
الحداثة المشوه:
نتيجة التطور
المدني في الصناعة والاقتصاد والاختراعات التي تواكب التطور كانت فكرة براءة
الاختراع، وهي فكرة فرضها نظام يرتكز على النفعية؛ فله قوانين تكاملية، وقد تأثرت
النخب عندنا بطرق متعددة، كإخفاء المعلومة، واستغلال الاختصاص في امتصاص المال دون
النظر إلى الفقير، وهذا بغياب يد الدولة، فيقتل الناس بمرض وجوع والحياة عموما
بالعَوَز.
الدولة عندنا
سلطات ذكرنا ماهيتها، فهي ليست تتعامل مع تحصينات النظام الرأسمالي، والمنبهرون
بالرأسمالية يعتبرون تطبيق أي فكرة وكأنها انتصار نتيجة انغلاقهم؛ ولأن رؤيتهم
للنظام الرأسمالي انطباعية وليست عن فهم عميق. وهذا الذي لا يختلفون به عن
الإسلاميين الذين يعتبرون مثلا منع الخمر بالقوة نصرا وكلاهما لم يعالج الجوهر. التفكير
بنظم مقولبة لا يأتي بنظام تنمية، بل بنظام الربح فيه أهم من الإنسان، ودولة لا
تبني مثلا نظاما صحيا يجعل المسؤول مطمئنا أن يعالج نفسه به إن مرض.
شروط
النهضة:
إن
التقدم لا
يحصل إلا بفهم سنن الكون الاجتماعية بالذات، والتناغم بين الدولة والشعب، وهذا
يصعب في واقعنا وقلما يحصل بعمق اللهم إلا ظاهريا نتيجة الخوف أو النفاق، والخوف
لا يبني كما اللص لا يحافظ على المال ولا المنافق يهمه غيره.
تغيير النفوس
أولى معالم التغيير: لأنها تضبط قواعد السلوك والإحساس بأن
البلد بلدك وكل ما في الشارع هو ملك الأمة التي أنت جزء منها، وهذا يقود إلى ضرورة
وجود الحكم الرشيد الذي تثق به الأمة، شخصية الإنسان هي أهم شرط من شروط النهضة
وتفكيره انعكاس لإحساسه؛ فإحساسه بالرقي يعني النهضة وإحساسه بالدونية يعني أنه لا
يتوقع خيرا من محيطه فلا يهتم بتطويره إلا استيرادا وشكليا، وهو واقعنا اليوم.
الرؤية والقيادة الأخلاقية: وهنا
دور مهم للقيادة في وضع الرؤية الواضحة وكيفية إدارتها، وإحباط الزوائد العفنة
التي تحطم الإنجاز وتثبيط السلوكيات المنحرفة وتحجيم المعارضة للتغيير؛ سواء
الطبيعية أو من يحس بتضرره لتغيير مصالحه وإرساء القيم العليا عمليا ومن خلال
القدوة وأن يكون للأمة رسالة تحملها وتدافع عنها وتربط بين أفراد المجتمع
لتحقيقها.
المعايير العلمية
والدراسات: وهذا يعني التركيز على مسارات النهضة وإنشاء مراكز دراسات واختيار العاملين عن
دراسة ودراية، وليس عشوائيا، وإجراء الموازنات والميزانيات المالية والتخطيط
والرقابة والمتابعة عند التنفيذ.
علينا أن نعرّف وندرك دقائق ما
ندعو إليه، فأكثر زاعمي الليبرالية والعلمانية والناقدين لمجتمعهم لا يعرفون حقيقة
ولا تفاصيل ما يزعمونه، وهذا سيجعل القيادة بيد مسوخ قشرية.
كذلك قدسية الإسلام ببلوغ مقاصده وليس بتقليد
الأولين وتقديسهم، فنحن مكلفون كما هم كانوا مكلفين، والإسلام العمود الأساس لنهضة
الأمة بما حوت من أديان، فهو ليس دينا رعويا وإنما منهج إدارة حياة كقيم وثقافة
ينتمي لها الجميع وملك للجميع، وأن التقدم ليس بمسايرة الغرب والشرق وإنما بالتعاضد
للتعاون في صنع الحياة، فإسقاط تاريخي صنع نظما كالرأسمالية مثلا، سيكون مسخا إن
لم ينقل بكامله، ونقله بالكامل يحتاج إسقاطا تاريخيا ليس متاحا في مجتمعنا.
من أجل هذا علينا
بفهم جديد وقراءة جديدة لمثاني القرآن من أجل حياة تنتجها منظومة عقلية كما أرادها
الله؛ لا كما استعمرها التخلف وغرائز البشر.