أبدى العديد من
المسؤولين والقيادات العسكرية والسياسية والأمنية
الإسرائيلية مؤخرا، مخاوف كثيرة
حول مستقبل إسرائيل في ظل متغيرات إقليمية ودولية وظروف داخلية يمر بها المجتمع
الإسرائيلي، ولإدارك طبيعة المخاوف الإسرائيلية في هذا الوقت، يجب الإشارة إلى أنّ "النظام العالمي" شهد تغيّرات كبيرة في بداية التسعينيات من القرن
الماضي، وذلك عقب انهيار الاتحاد السوفييتي وتحوّل الولايات المتحدة إلى قطب منفرد
في العالم، وهو ما شكّل فترة ذهبيّة لإسرائيل.
لكن ترافق مع هذه
التغييرات صعود صينيّ تدريجيّ، أدى مؤخرا إلى تغيير حقيقي في موازين القوى الدوليّة، إلى درجة الحديث عن نشوء أقطاب ومحاور دولية جديدة، تجلّى بعض ذلك في نشوء وتطور منظمة
شنغهاي للتعاون ومنظمة بريكس، وتشكيلات سياسية أخرى لها آثار متفاوتة على النسق
الدولي السائد، تهدّد بنهاية انفراد الولايات المتحدة بالهيمنة على العالم وسقوط
زمن الدولار الأمريكي.
شكّلت الحرب
الروسية الأوكرانية محطة مهمة أخرى في التغيرات على صعيد السياسة الدولية، وأثّرت
بشكل شبه مباشر على السياسية الإسرائيلية، التي اعتادت أن تلعب لعبة التوازنات مع
القوى الكبرى، فتستفيد منها جميعا، دون أن يؤدي ذلك إلى تضارب مصالح بينها أو
قطيعة مع أي منها. لم يعد بالإمكان أن تستمر هذه المعادلة الصعبة، فخلافا لكثير
من الدول التي اختارت أن تبقى على الحياد، كان على إسرائيل أن تختار بين أن ترضي
روسيا أو تنحاز بالكامل إلى المعسكر الغربي بدعمها الكامل لأوكرانيا. حاولت
إسرائيل في بداية الحرب إمساك العصا من المنتصف، لكنها لم تستطع الاستمرار في تلك
السياسة، وشهدنا توترا معلنا في العلاقة الإسرائيليّة- الأوكرانية
والإسرائيلية- الروسيّة، ومن المتوقع أن يستمر هذا التوتر مع روسيا ويتطور.
شكّلت الحرب الروسية الأوكرانية محطة مهمة أخرى في التغيرات على صعيد السياسة الدولية، وأثّرت بشكل شبه مباشر على السياسية الإسرائيلية، التي اعتادت أن تلعب لعبة التوازنات مع القوى الكبرى، فتستفيد منها جميعا، دون أن يؤدي ذلك إلى تضارب مصالح بينها أو قطيعة مع أي منها. لم يعد بالإمكان أن تستمر هذه المعادلة الصعبة، فخلافا لكثير من الدول التي اختارت أن تبقى على الحياد، كان على إسرائيل أن تختار بين أن ترضي روسيا أو تنحاز بالكامل إلى المعسكر الغربي بدعمها الكامل لأوكرانيا.
أمّا فيما يتعلق
بالصعود الصيني، فقد استفادت بكين من العلاقة مع إسرائيل في مجال تقليص الفجوة
التكنولوجية بينها وبين القوى الغربية، وجعلت من الشراكة مع إسرائيل مدخلا للوصول
للتكنولوجيا الغربية المحظورة عليها، وشراء بعض التقنيات والأجهزة منها، والاستفادة
من بعض المشاريع الإسرائيلية التي هي في المقام الأول مبنية على تكنولوجيا غربية،
لمحاكاتها وتكرار صناعتها، تحت ما يُعرف بالهندسة العكسية.
استثمرت الصين في
إسرائيل في مشاريع بمليارات الدولارات، وربما كانت الصين تأمل في الوصول لتفاهمات
مع الولايات المتحدة، تجنّب البلدين المواجهة المباشرة واستمرار علاقة من هذه النوع
مع إسرائيل، لكن بات واضحا أنّ واشنطن اتخذت خيار المواجهة والتصعيد التدريجي مع
الصين، وليس خيار التقاء المصالح كما أملت الصين وبعض المفكرين الأمريكيين الكبار،
ورأت بعينها ما الذي يحدث في أوكرانيا وكيف استخدمت الولايات المتحدة حلفاءها
والأدوات الاقتصادية والسياسية والإعلامية لمحاولة هزيمة روسيا.
ولا شك أنّ الصين
تدرك طبيعة إسرائيل وحدود العلاقة معها، ولا تستبعد أنّ تتحول العلاقات الصينية
الإسرائيلية إلى حالة من الشك والفتور، وربما المواجهة في حال ضغطت واشنطن على تل
أبيب لتحجيم علاقتها مع بكين.
أما على صعيد
التهديد الإقليمي، فهناك مهدّدات تقليدية لـ"دولة إسرائيل" من وجهة النظر الإسرائيليّة، تتمثل بالقوى
الإقليمية في المنطقة مثل
تركيا، وإيران، ومصر، وكل هذه الدول كانت إمبراطوريات
كبرى فيما مضى، وتركت آثارا دائمة على ثقافة المنطقة والديموغرافيا فيها. وقد أثمرت
محاولات هذه الدول الخلاص من الهيمنة الغربية كليا أو جزئيا، في السنوات
الأخيرة، خصوصا
إيران وتركيا، وذلك من خلال بناء مناعة وقوة ذاتيّة كافية، مكّنتها
من أن تستعيد جانبا من تأثيرها التاريخي والطبيعي في محطيها، الذي فُرضت عليه
إسرائيل بالقوة الاستعماريّة القاهرة.
فقد استطاعت إيران
-رغم الحصار الدولي المرهق-، أن تطوّر قوة عسكرية مرهوبة الجانب، وبدأت تحاول مدّ
أجنحتها على الإقليم. أمّا تركيا، فكانت تصعد دون الضجيج الذي ترافق مع الصعود
الإيراني، هو صعود كان متوقعا في الغرب لأسباب موضوعية وتاريخيّة، لكنّه جاء
تدريجيّا، إلى درجة أصبح لتركيا اليوم وجود في كثير من الدول في الإقليم. ومع
تراجع الدور المصري، تحوّلت تركيا عمليا إلى أكبر قوة في حوض البحر الأبيض المتوسط
وأكبرها تأثيرا، وسيزداد هذا التأثير -على الأرجح- أكثر مع مرور الوقت، وسينعكس ذلك
سلبا على إسرائيل التي سيتراجع دورها المهيمن، حتى ولو لم يكن لدى أنقرة نوايا
عدوانية تجاهها.
رغم أنّ الحضور الإقليمي لإيران يبدو أكثر إثارة للانتباه، وخصوصا في كل من العراق وسوريا ولبنان واليمن، إلّا أنّ لدى تركيا حظوظا أكبر في بالمنطقة، مقارنة بإيران، لعوامل كثيرة، أهمها الجغرافيا السياسيّة لكلا البلدين؛ باعتبار تركيا في قلب المنطقة لا على أطرافها، وكذلك لطبيعة علاقات البلدين بالمنظومة الدوليّة، ولبنية تركيا السياسيّة، ولوجود قبول أكبر لها في العالم الإسلامي والعربي، لأسباب تاريخية وثقافية.
أصبح لدى تركيا اليوم
حالة من الاستقرار، بعد فترة طويلة من هيمنة الجيش على
الدولة والتدخل الخارجي وعدم الاستقرار الداخلي، وتراجَع التهديد الإرهابي المتمثل
بالحالة الانفصالية الكردية وتنظيم الدولة، وأصبحت هناك طفرة في القوة، خاصة
الاقتصادية والعسكرية منها. فها نحن نرى افتتاح المحطة النووية "آق
قويو"، وحاملة طائرات "أناضول"، والطائرة التركية المقاتلة
"حرّ جت"، والدبابة المتطورة "ألتاي"، وطائرة الهليكوبتر
المقاتلة "أتاك" والصواريخ بأنواعها، والطائرات المسيّرة بأنواعها كـ"عنقاء"
و"آق صنقور" و"قيزل إلما"، وأنظمة الدفاع الجوي المتطورة
والرادارات.
أمّا على الصعيد
الاقتصادي، فرغم تعرض الاقتصاد التركي لتحديات جديّة انعكست آثارها على القدرة
الشرائية للمواطن وتذبذب سعر الليرة التركية، إلّا أنّ تركيا استطاعت أن تخطو
خطوات واسعة نحو تحولها إلى واحدة من أكبر عشرة اقتصادات في العالم، وخفض نسبة
البطالة، ورفع دخل المواطن لينافس الدول الأوروبية. وقد أسهم اكتشاف الغاز والنفط
والذهب والمعادن النادرة، في تعزيز الثقة بهذا الاقتصاد، فضلا عن تطوير قطاعات الإنشاءات
والسياحة والزراعة وصناعة السيارات والصناعة بأنواعها، وعلى رأسها الصناعة
العسكرية التي ستحدث المحطة النووية المفتتحة حديثا طفرة مضافة فيها، في جهود تسعى
إلى تخفيض فاتورة المدفوعات الخارجية وزيادة الواردات بالعملة الصعبة، يرفد ذلك
كله ارتباط ثقافي وحضاري لتركيا مع دول المنطقة والعالم الإسلامي، ما يتيح لها
آفاقا غير محدودة للنمو والتوسع.
ورغم أنّ الحضور
الإقليمي لإيران يبدو أكثر إثارة للانتباه، وخصوصا في كلٍ من العراق وسوريا
ولبنان واليمن، إلّا أنّ لدى تركيا حظوظا أكبر في بالمنطقة، مقارنة بإيران،
لعوامل كثيرة أهمها الجغرافيا السياسيّة لكلا البلدين؛ باعتبار تركيا في قلب
المنطقة لا على أطرافها، وكذلك لطبيعة علاقات البلدين بالمنظومة الدوليّة، ولبنية
تركيا السياسيّة، ولوجود قبول أكبر لها في العالم الإسلامي والعربي لأسباب تاريخية
وثقافية، وهو ما سهّل لتركيا حضورا في كل من سوريا والعراق والصومال وليبيا، وأهم
من ذلك في قطر عند حدوث الأزمة الخليجية.
مع أهمية العامل الخارجي في المعادلة الإسرائيليّة، خصوصا ونحن نرى اليوم قيادة هزيلة في الولايات المتحدة الأمريكية، جعلت قدرتها على التأثير في الإقليم وباقي مناطق العالم أقل من المعتاد، إلّا أنّ العوامل الذاتية والداخلية المرتبطة بالمجتمع الإسرائيلي وعلاقاته مع النخبة اليهودية والصهيونية الداعمة في الولايات المتحدة وأوروبا، ستكون هي الأكثر تأثيرا على وجود دولة إسرائيل ومستقبلها.
ونحن بين يدي الانتخابات
التركية، فلا بد من التأكيد أن هذه الدورة من الانتخابات البرلمانية والرئاسية،
سيكون لها تأثير بالغ الأهمية والخطورة على المشهد الإسرائيلي المستقبلي؛ لأنّ
بقاء الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في الحكم، يعني تصاعد زخم مشروعه الإصلاحي ومشروع
حزب العدالة والتنمية وزيادة طموحه في التمدد في المنطقة، وقدرة تركيا أكبر على
مزاحمة القوى الإقليمية بل والدولية. ولا شك أن خططه الرامية إلى جعل بلاده تتفوق
على القوى الاستعمارية التقليدية كفرنسا وبريطانيا وألمانيا، سيعني ضمنيا تخطّيها
لإسرائيل بمراحل.
أمّا فوز
المعارضة التركية، فيمكن أن تعقبه حالة عدم استقرار؛ لأنّ تحالف المعارضة مختلف
التوجهات والأيديولوجيات، ليس لديه برنامج موحّد ولا يجمعه سوى هدف واحد، هو إسقاط
التحالف الحاكم بقيادة أردوغان، وفي حال تحقيق هذا الهدف وفاز بالانتخابات، فقد تدخل
البلاد في حالة عدم الاستقرار إلى حين تشكّل قوة جديدة تهيمن على المشهد السياسي من
جديد. وربما يأخذ ذلك سنوات عدة إن حصل، وسيساهم بتراجع الصعود التركي ودوره في
المنطقة، وكل ذلك سيصب في مصلحة إسرائيل في حال حصوله.
ومع أهمية العامل
الخارجي في المعادلة الإسرائيليّة، خصوصا ونحن نرى اليوم قيادة هزيلة في الولايات
المتحدة الأمريكية، جعلت قدرتها على التأثير في الإقليم وباقي مناطق العالم أقل من
المعتاد، إلّا أنّ العوامل الذاتية والداخلية المرتبطة بالمجتمع الإسرائيلي وعلاقاته
مع النخبة اليهودية والصهيونية الداعمة في الولايات المتحدة وأوروبا، ستكون هي الأكثر
تأثيرا على وجود دولة إسرائيل ومستقبلها، وهو ما سيجعل مستقبل إسرائيل أكثر حلكة، وسيمنح
فرصة سانحة لجميع القوى الإقليمية الراغبة في الصعود لأخذ دور أكبر بالمنطقة، وعلى
رأس تلك القوى تركيا.