ستحاول هذه العجالة أن تظهر أن مركزية مفهوم الكرامة في الثورات العربية وثيقة الصلة بنمط ممارسة السلطة في بلداننا كانتهاك للأجساد عبر التعذيب والقتل والاغتصاب ومختلف أشكال الترويع المنصبة في النهاية على أجساد النساء والرجال.
ليس بين الدول العربية ما هي ليست دولة تعذيب، يتعرض فيها المحكومون، مستقلو الضمير والمعترضون على الأوضاع القائمة بخاصة، لأشكال من التعنيف قد تشمل الاعتقال والضرب والإهانة من جانب سلطات عامة فلا تؤمن عاقبة الرد عليها، ويشيع أن يبلغ الأمر درجة التعذيب المنظم وربما القتل، وكذلك المجازر.
سوريا الأسد بطلة العرب في هذا الشأن. وسجلها خلال جيلين هو سجل من التعذيب وقتل الأفراد والمجازر. لكن في كل مكان تقوم السلطة في المآل الأخير على احتمال إيذاء الأجساد وتهديد الحياة. ليس هناك سلطة ليست كذلك. ما تدخله الديمقراطية هو ميل إلى استبعاد العنف المباشر، التعذيب والقتل لمصلحة السجن من جهة، ثم انضباط العقوبات بقواعد قانونية مطردة يمكن التنبؤ بها من جهة أخرى. في مجالنا تقوم السلطة على التحكم المباشر والتفضيلي بالأجساد، بما يجعل علاقة السلطة أساسا علاقة خوف من الموت أو من أذى شديد أو من إهانة لا ترد.
ويقترن الإيذاء الجسدي في بلداننا المنكوبة بعدم انضباطه بقواعد قانونية يمكن توقعها والانضباط بها. فأنت لا تأمن إن قمت بفعل احتجاجي أن تحبس لعام مثلاً أو لخمسة أعوام معلومة سلفاً. وحتى حين يحدث أن تقدم لمحكمة تقرر حبسك لخمس سنوات مثلاً، ليس هناك أي ضمانة أن يحترم هذا القرار، ولا يُضمن حتى استسلامك في المساومة الأمنية في سوريا أن يفرج عنك مع انتهاء الحكم المقرر، وهو ما يصح على «المناصحة» في الإمارات. المعتقل عبدالله الحلو في الإمارات أنهى حكماً بالسجن لثلاث سنوات منذ عام 2017، ولم يفرج عنه إلى اليوم. وهو ما يعني أن نظام السلطة في هذه البلدان أسوأ من عدالتها هي بالذات، أو أنه نظام لا يمكن أن ينضبط بأي قانون حتى لو وضعه النظام بنفسه. جذر الأمر ربما هو فائض من السلطة واعتياد على الجريمة والإفلات من العقاب وانعدام العدالة الدائم. لا يخاف حكامنا تحقق العدالة ضدهم، لا يخافون إلا من أن نتوقف عن الخوف منهم، وهم يمعنون في التعذيب والإذلال والانتقام لضمان أمن الخوف منهم.
وعلى هذا النحو يجتمع خطر الانتهاك المستمر مع استحالة توقع العواقب، ما يترك عموم المحكومين منكشفين لا يعلمون من أين تدهمهم المصائب. ومع الزمن يتجه تفضيل الأكثرية إلى عيش حياة حيوانية بلا خيارات أخلاقية حرة، أو حتى نباتية، نكتفي منها بالغذاء والحياة. ليس هناك جذر لانحدارنا الحضاري والأخلاقي أقوى من هذا الجذر.
ونميل عموماً إلى التركيز على ما ينال معتقلي الرأي والمعتقلين السياسيين من انتهاكات جسدية، لكن في هذا التحيز ما يخفي معاملة قاسية لعموم السكان، ومنها ربما بصورة خاصة انتهاك أجساد النساء، من قبل نخب السلطة والثروة، وعلى مستوى اجتماعي أوسع بوصفهن العنصر الأقل حماية والمعرض لانحيازات اجتماعية متصلبة ومترسخة اجتماعياً. ليست هناك دراسات كافية تكشف مستوى الانتهاك الجنسي للنساء على يد النظام وأجهزته وميليشياته في سوريا مثلاً، لكن ما نعرفه من قصص اغتصاب في
السجون، وبعضها موثقة جيداً، قد لا يكون غير الظاهر من نظام انتهاكات أوسع، تعامل فيها نساء سوريات كجوار.
وبعد «ثورة الكرامة» (كم يبدو هذا التعبير اليوم مؤلماً وبعيداً!) عملت الطغمة الأسدية على نزع كرامة وإذلال ما لا يحصى من السوريين والسوريات، وبألف صورة ممكنة، التعذيب والاغتصاب (اغتصاب النساء والرجال والأولاد) والإعدام وحرق الأجساد وطمرها، والمجازر عن قرب، والحصار والتجويع، خنق الأجساد بالسارين والكلور، أو تفتيتها بالبراميل المتفجرة، وسنوات السجن التي لا تنتهي، والتغييب، والتهجير وانفصال الناس عن بيئاتهم وملكياتهم وذكرياتهم. كأنما المقصود خلق منعكس شرطي يربط فكرة الكرامة بهذه المستويات العالية من الذل. المسألة بنيوية في الحكم الأسدي، فهو مشاد على انتهاك أجساد السوريين على نحو يحول بينهم وبين التفكير بالثورة والتمرد.
على أن المجموعات الإسلامية التي نبتت بعد الثورة أظهرت أنها تفضل تدوين سلطتها على أجساد المحكومين كذلك، أو بالاعتقال والتعذيب والقتل، أو بالجلد وقطع الرؤوس والأيدي المشهدي، أو بالتغييب مثل النظام، أو كذلك بتحجيب النساء وفرض مظهر قياسي عليهن بخاصة، وبقدر متفاوت على الرجال. هذا انتهاك لحرمة الجسد الإنساني ونازع للكرامة من صنف نزع الحجاب قسراً عن رؤوس نساء محجبات. ليس هناك اعتراض متسق أخلاقياً وفكرياً على نزع الحجاب لا يقوم على الأساس نفسه للاعتراض على فرض الحجاب: الكرامة الإنسانية. الفرض مثل النزع هو بمثابة تطفيل للناس، معاملتهم كأطفال قصر، وإشغال موقع أبوة سياسية قسرية لهم. يجمع بين الأسدية والإسلامية نمط لممارسة السلطة يشتغل مباشرة على الجسد ويجعل منه بيانه السياسي.
كانت فكرة الكرامة موجهة ضد انتهاك الأجساد السلطوي، وليس ضد انتهاكها الديني الذي ينتحل بالأحرى صفة الحشمة والحماية. لكنه اقترن في جميع الحالات بالانتهاك والقسوة، ويفرض تصورا للحشمة يحدده رجال قلما يكبحون شهواتهم للسلطة والجنس. من منظورهم يبدو خلع امرأة للحجاب جريمة، لكن ليس الجلد في ساحة عامة. هذا واقع يتعين تحديه وقلبه، إن كان للتطلع إلى الكرامة أن يكون متسقاً وغير متهافت. المسألة هي طي صفحة نمط ممارسة السلطة الذي يقوم مباشرة على التحكم بالأجساد عبر العنف.
نحن في منحدر أخلاقي وحضاري بفعل إباحة الأجساد لأصحاب السلطة، سلطة الدولة أو سلطة الدين. وقد يكون بدء خروجنا من المنحدر هو حرمة الأجساد، أجساد النساء وأجساد الرجال، فلا تضرب ولا تحبس بدون مسوغ قانوني ولأمد معلوم، ولا تجلد ولا تحجب ولا يفرض عليها لباس شرعي.
بالربط بين الكرامة وحرمة الجسد، نريد القول إن الكرامة ليست مبدأ حقوقياً أو مطلباً سياسياً، وإنما هي أساس وجودي للفرد البشري وللمجتمع. الأفراد المنتهكون لا يشكلون مجتمعاً.
ولعل في هذا ما يسعف في تبين حضيض أخلاقي، إفلاس شامل، ديني سياسي المنشأ، لاجتماعنا الحديث والمعاصر، على ما ظهر بقوة بعد الربيع العربي الذي هو ظاهرة تاريخية ذات قطبين: أشجع وأكثر مبادراتنا التاريخية طموحاً من أجل التغيير والكرامة، وأشدها كشفاً لضآلة الاحتياطيات الفكرية والروحية للكرامة في مجتمعاتنا. ولعل تغييراً معرفياً بات مطلوباً كذلك: النظر في تراكيبنا الاجتماعية المعاصرة كتراكيب دينية سياسية وسياسة دينية، أو لاهوتية سياسية بصورة مضاعفة، حيث مساحة تقاطع الديني السياسي هي الجسد البشري. الجسد العربي منتهك، ونحن في الحضيض لذلك. أنظمة العرب تعذيبية كلها بتفاوت وإسلاميوهم جسديون كلهم، يريدون تحجيب النساء في أقل تقدير، وقد رأينا نسخة منهم تنقب وتقطع الرؤوس وتسبي وتغتصب وتتاجر بالسبايا. لا نخرج من الحضيض دون التصدي لهذه التراكيب بتغيير جذري. فهي وإن لم تكن خلواً من التنازع بينها كما هو ظاهر، إلا أن هذا التنازع لا يحمل بعداً تحررياً من الجهة الدينية، ولا بعداً عقلانياً من الجهة الدولتية. الكرامة الإنسانية مهدورة هناك وهنا، وقيم الحرية والعدالة والمساواة كذلك.
القدس العربي اللندنية