قضايا وآراء

مارد الطغيان

محمد صالح البدراني
CC0
CC0
الطغيان منهج

في منظومة تنمية التخلف التي نحن بيئتها، في داخل كل منّا مارد طغيان رهيب ينطلق إلى الطغيان عندما يجد له تمكينا، فحبنا للظلم هو منهج عرفه الجهاز المعرفي كتطبيق للتمكين، فكلنا يحاول أن يقوم بعمل الفايروس المختلط؛ من فايروس حصان طروادة والديدان عندما يتمكن من جهاز الحاسوب ليحوّل كل الملفات إلى نوع واحد لا يقرأ ولا يفهم، هو هذا تماما ما يُحدثه اختصار الأفكار العظيمة بجزئية فكرية؛ سيان تشوه فكري أو مصلحة شخصية أو معاناة في مجتمع يراد لها حل، ولكن بلا مشروع يحمل الحل أو تضحيات من أجل الحل، فتجد الضبابية هذه لنكون كقطيع أيل ضخم بعدده لكن لا صلة بين أيل وأيل حقيقية.

في مجتمع كهذا تُرْكَبُ القيم ولا تُحْمَل، لأنها ليست للتبني فالغاية تافهة وليس الفكر؛ تمثل حالة الفوضى غير المسيطر عليها فتسيطر هي على شخصية الأفراد وإن تباينت تلك المحتويات للناس فهي تبدو متشابهة لكن محتوياتها معطوبة. سيقول البعض إن الطغاة نصّبهم الاحتلال، نعم هم استثمروا في هذا الخلل المنهجي ويقاومون أي خروج عنه ولو جزئيا بكل وسيلة إن تماثل للشفاء أحد الحكّام وميّز بين الخط الرفيع الذي يفصل الحزم والطغيان، لا أدري صواب تقييمي كباحث ولكن ما يحضرنا كنموذج لتلك الحرب بين الفايروس ومضاد الفايروس هو الصراع المتخفي بين الغرب وأرودغان، والواسطة المحاربة له هي التفاهة والسطحية بلا رؤية أو هدف غير السلطة، وإلا الطغاة لم يُستوردوا، ولم يكونوا قبل طغيانهم إلا أناسا بسطاء في مظهرهم وربما في طروحاتهم لكن يتحرر المارد عند التمكين وعندما يفرك الإبريق كفوف المصفقين وحناجر المنافقين.

المضاد الملوث:

عندما نتحدث عن الجهاز المعرفي فإننا نتحدث عن أجهزة متداخلة في الحقيقة، فأفكار كثيرة نُقلت للمنطقة لغايات متعددة، ولم تنقل كاملة كنظم، ففُهمت من عامة الناس بسطحية الانطباع والمظهر، لم تدقَق ولم تراجَع وإنما يُحكم بها، وبالتالي ستكون ملايين الأفهام معايير للاختلاف، وقد تتطابق جزئيا لكن لا تتطابق مع الباحثين بعمق وإنما بسطحية التوصيف كما بسطحية التشخيص، لهذا عندما فسح المجال في الميديا نجد أن الناس يتهافتون بالتأييد للكلام السطحي المنقطع، الذي يثبّت القناعات السطحية عند القارئ ولا يكلفه جهدا في الفهم والعمل وإنما القناعة بالتخلف وأن النهضة صعبة بل مستحيلة "لان الشعب متخلف ولا يريد أن يعمل".

هذه القناعة عند الكثرة، فمن هو الشعب ومن هو الذي يمكن أن ينهض به؟ لا جواب في هذا الجو السفسطائي بلا عقلية راجحة أو نفسية تستطيب لها، تقطر تفاهة، يقتنع بأنه على حق وغيره الباطل، عقلية تولد رفض الإيجابية من التنوع وتقليص الفوارق عندما نناقش أنفسنا ونجعل التنوع في المدنية وليس بأفكار مقولبة غير قابلة للمناقشة أو التطبيق العملي، سواء كانت بواجهة إسلامية أو علمانية أو أي من الأشكال المطروحة والمسميات. إذن الأدوات نفسها معطوبة، لا تحاول التعاون للوصول إلى الهدف بل تمنع بعضها من الوصول إليه حتى في فهم التنافس المهني، ولطالما حُيدت عبقريات وكفاءات من أناس أدعياء خصوصا وأن الكفاءات أعجز الناس في الدفاع عن نفسها ما لم تُدعم بتمكين.

إن الأفكار نشأت وتطورت عبر الزمان والمكان، هنالك ضرورة لتفعيل الاجتهاد في الفكر الإسلامي كون الإسلام يمثل حالة الدولة والدين ومنهج حياة وحكم لكن.. بأي فهم؟ كذلك الشيوعية التي لم تتجاوز مرحلة الاشتراكية، والحداثة والرأسمالية التي طورت آلياتها وهي تتعرض لامتحان اليوم كما تتعرض أي منظومة لامتحان الاستمرار والوجود.. ويأتيك أي من حَمَلة هذه الأفكار بشكل انطباعي أو تقليدي ليأخذ النظام كقالب ويريد أن يحشر المجتمع فيه، ويُجهّلك الجاهل ويُكفّرك من قفل تفكيره وهو مكلف أن يبقيه مفتوحا.

ألم ترَ ما يحدث لكتلة جامدة عند حشرها في قالب ضيق أو فضفاض، فما بالك بكتلة متحركة! لا يُنظر إلى أن النظام استقر فكريا عند مرحلة ما، ولكن هذه تحتاج مراجعة لتكون مدبرة لعصرنا، ولا يُنظر إلى الزمن والإسقاطات التاريخية التي ولدت العلمانية، ولا الإرهاصات والمشاكل التي قادت النظام الحداثي لنراه اليوم وهو يؤسس لقوانين غريبة عجيبة لكنها وفق منهج لم يراجَع منذ مدة أيضا، لغلبة السطحية وإبعاد النظرة الفلسفية عن التقويم.

فالرأسمالية التاريخية الغربية فرضها الاقتصاد، لكن الحداثة والدولة في الولايات المتحدة تقدمت فلسفيا لغاية منتصف القرن الماضي وتجمّدت لتمتد المعالجات وفق مفاهيم تحتاج لمصطلحات تحتاج تطويرا ولم تُطوَّر، فكانت التشوهات نتيجة جمود تعريف كاللذة والرفاهية لنصل إلى الشذوذ القانوني، وهو ما تبنته حتى الحداثة في أوربا وما يعرف عند الجميع بالليبرالية الجديدة التي تحتاج أن تُهذَّب لكن مع ضياع المسلمين ستبقى مسببة لشقاء الآدمية.

واقعنا كأمة في مفرق طرق، فلا الدولة التاريخية تنفع ولا الحديثة تنفع ولا سلطات التغلب والأفق الأحادي الضيق سواء من منظور ديني أو قومي أو توجه منقوص كما يرى البعض من العلمانية والليبرالية، وهما آليتان وليستا أيديولوجيا، ولا الرأسمالية التي نشأت الدولة الحديثة لحمايتها

الدولــة:

الدولة مرت في التاريخ بحالة من التطور، من منظومة العشيرة إلى المدن والمناطق، وتعددت أنواع الإدارات، ولم تك الدولة تدخل كل تفاصيل حياة المواطن حتى أتت الدولة الحديثة ليكون المواطن صناعة الدولة والمتحرر بالعبودية لها.

واقعنا كأمة في مفرق طرق، فلا الدولة التاريخية تنفع ولا الحديثة تنفع ولا سلطات التغلب والأفق الأحادي الضيق سواء من منظور ديني أو قومي أو توجه منقوص كما يرى البعض من العلمانية والليبرالية، وهما آليتان وليستا أيديولوجيا، ولا الرأسمالية التي نشأت الدولة الحديثة لحمايتها.

خلاصة: لإقامة دولة ونموذج إداري وفكري لا بد من إعادة النظر في استقراء واقعنا، واستنباط فكر يفهم الغاية من الخلق وليس فكرا متمحور حول السلطة فحسب، ولا على الإخضاع الأسبرطي والإجبار الكهنوتي أو إجبار الناس أن يكونوا على رأي واحد، بينما رب العباد يقول في القرآن إن المؤمنين أقلية (الرعد)، وإنما هذا التنوع ليس يديره بعدل مثل الفهم الصائب للإسلام عندما لا يتقيد بمعنى الدولة الحداثية؛ وإنما الدولة الراعية لمصالح الأمة والشعب في الداخل والخارج، وإن كانت الأفكار المشوهة والسلبية والتي رُسخت في عقل الخاصة قبل العامة صعب تغييرها، وتحول الخاصة إلى الفهم الصواب ، فبلا تغيير كهذا يصبح التمني سيد الموقف وحديث مجالس وخطب لا واقعا له أو آلية تمكين؛ وتبقى العدالة والآدمية محض تجارة للمصالح وسوق أوهام للمارد الطاغية داخلنا.
التعليقات (1)
مقداد الجواري
الأحد، 14-05-2023 06:21 ص
تقرير يرقى للتحف الفنية! احسنتم استاذنا الغالي! اعجبني كثيرا مقارنة الفايروس مع حصان طروادة في تخريب ترتيب الملفات وجعلها ملف لايقرأ! احسنت الوصف العميق!

خبر عاجل