الصراع بين الأشاعرة والسلفية.. استغراق في الخلافات العقدية وغياب عن الواقع

على وقع الصراع المحتدم بين الأشاعرة والسلفية بعد أن زالت دولة السلفيين، وتراجع حضورهم في كثير من الأوساط العربية والإسلامية، تُثار تساؤلات حول آلية معالجة تلك الصراعات والخلافات، فهل تعالج بالحوار الفكري والمناظرات العلمية، أم يتوسل كل طرف منهما بالسلطة لقمع مخالفه وإسكاته؟

المُنظر الأشعري الأردني المعروف، الدكتور سعيد فودة، في لقاء جمعه بتلاميذه ومحبيه في عيد الفطر الفائت، أعلن معارضته لاجتثاث الفكر السلفي (الوهابي) عن طريق السلطة، مؤكدا أن من واجب الأشاعرة مواجهة ما يرونه انحرافا وضلالا في فكر السلفية بالحوار والجدل والمناظرات العلمية، مؤكدا أن الفكر يواجه بالفكر، والحجة تقابل بالحجة، والدليل يدفع بالدليل..


                                           سعيد فودة، منظر ومتكلم أشعري

الخلافات السلفية الأشعرية خلافات قديمة، تتمحور في معظمها حول جملة من قضايا الاعتقاد، من أبرزها منهجية الاستدلال على العقائد وتقريرها، فالأشاعرة يعطون للعقل دورا مركزيا في الاستدلال على العقائد، وهي من المذاهب الإسلامية التي اهتمت كثيرا بعلمي المنطق وعلم الكلام تأليفا وتدريسا، على عكس المدرسة السلفية التي حذرت من علم الكلام ونهت عن دراسته وتدريسه في تقرير العقائد وتدريسها.

منهجية التعامل مع الصفات الإلهية هي كذلك من مواضع الاختلاف الرئيسية بين الطرفين، ففي الوقت الذي يرى فيه الأشاعرة أن النصوص الواردة في الصفات الإلهية الخبرية (كالوجه واليد والعين والساق والنزول والاستواء..) لا يمكن حملها على الظاهر، إذ لا بد من صرفها عن ظاهرها، إما بتفويض علمها إلى عالمها، أو تأويلها بتأويلات سائغة من جهة اللغة وفق رؤيتهم، يعتقد السلفيون وجوب حمل تلك النصوص على ظاهرها، وفهمها على مقتضى معناها في لسان العرب، من غير تحريف ولا تأويل ولا تكييف ولا تمثيل.

ووفقا لباحثين فإن تلك الخلافات التراثية المتجددة في واقعنا، لا يمكن حسمها، ولا يتأتى ذلك لأي طرف من الأطراف، ما يضع تلك الأطراف أمام تحديات إدارة تلك الخلافات، والتعايش معها بعيدا عن مسالك قمع المخالف وإسكاته، أو سعي أي من الطرفين لدى السلطة السياسة لاجتثاث من يراه ضالا مبتدعا في العقائد، ما يستوجب كفه عن نشر باطله، وإشاعة ضلاله في العقائد حسب من يرى ذلك ويقرره ويدافع عنه.

في هذا السياق وصف الباحث في العقائد ومقارنة الأديان، محمد هنداوي الأزهري تلك الخلافات بأنها خلافات تراثية قديمة، وهي حاضرة فينا وممتدة في زماننا، وستبقى كذلك إلى ما شاء الله، ولا يمكن التقليل من شأنها أو تجاوزها بأي حال، فهي تدور حول قضايا منهجية وعقائدية تختلف بشأنها أفهام وتقريرات الطرفين.


                              محمد هنداوي الأزهري، باحث في العقائد ومقارنة الأديان

وواصل حديثه لـ"عربي21" بالقول: "لكن من الحكمة، معرفة الواقع الذي نعيشه، وإدراك طبيعة التحديات المفروضة علينا، وهو ما يستوجب على الأشاعرة والسلفيين إدارة خلافاتهم عبر الحوار العلمي، والجدل الفكري، مع ضرورة التقائهم وتعاونهم في ما يشكل تحديات مشتركة لهم جميعا، كمواجهة التيارات اللادينية والعلمانية المتوحشة، وتيارات التغريب وتفكيك الأخلاق، وإشاعة الفجور والفسق في المجتمعات الإسلامية".

وانتقد الأزهري مسالك من يروم من الطرفين قمع الآخر، أو إسكاته بالقوة، فهذا مما لا ينبغي لأصحاب الديانة فعله أو الإقدام عليه، وهو ما يوجب على العقلاء من الطرفين بحث مواضع الاتفاق، والتعاون على إنجاز تلك القضايا، وإبقاء الخلافات الأشعرية السلفية في إطارها الضيق، وعدم الاستغراق في الانشغال بها، ما يصرف الجهود عما هو أهم وأولى، ويبددها في تلك الخلافات، ما يعود بالضعف على الحالة الإسلامية بعمومها.

من جهته لاحظ الباحث والداعية السلفي المغربي، حسن الكتاني أن "طبيعة الخلافات بين السلفية والأشاعرة شديدة وعنيفة جدا، خاصة أولئك الذين جعلوا من تلك الخلافات العقدية قضيتهم المركزية، في الوقت الذي يتسامح فيه بعض الأشاعرة والسلفية (الحركيين.. الذين يتحركون بالدعوة وينشغلون بها) مع تلك الخلافات، فلا يعدونها قضيتهم  المركزية انشغالا بما أهم وأوجب حسب ترتيب الأولويات لديهم".

وأضاف: "والواقع يخبرنا أن السلفيين والأشاعرة الذين جعلوا الخلافات المركزية قضيتهم الأولى، لا يتورعون عن الاستعانة بالسلطة إن كانت تتبنى ما هم عليه، أو تميل إليه، لقمع المخالف العقائدي، وهذا مشاهد هنا وهناك ومن الطرفين، وهو واضح هذه الأيام بعد أن تغلب الأشاعرة فباتوا يتوسلون بالسلطة لقمع مخالفيهم من السلفيين، وقد كان بعض السلفيين من قبل يتوسلون بالسلطة لقمع مخالفيهم من الأشاعرة والصوفية".


                                       حسن الكتاني، داعية وباحث سلفي مغربي

وتابع لـ"عربي21": "في تقديري أن إدارة تلك الخلافات، إن صحت النيات، وكان الإخلاص حاضرا، وسادت أجواء الأخوة الإيمانية بين مختلف الأطراف، يمكن لكثير من تلك الخلافات أن تُناقش بهدوء وبمنهجية علمية، وبروح أخوية، بعيدا عن مسالك التهييج والاستعداء وتأليب كل طرف على الآخر".

وحذر الكتاني من "إشغال الشباب بتلك الخلافات، والمبالغة في تصوير الخصم على أنه عدو لدود، وترتيب الأولويات بناء على ذلك" واصفا ذلك بـ"الطريقة الخاطئة في الدعوة والتعليم، لأن الاستغراق في تلك الخلافات، وتبديد الجهود والطاقات فيها، يصرف عامة المسلمين عن واجبات ومهمات أهم، فالإسلام اليوم مستهدف، وهو يحارب نهارا جهارا، فواجب الجميع التصدي لذلك، والدفاع عن الإسلام العظيم".

وأردف: "فوجود بعض التيارات الاستئصالية التي تستهدف الأحكام الشرعية وتسعى لاجتثاثها من حياة المسلمين، وتسعى في الوقت نفسه لاستئصال كل من يدعو للشريعة الإسلامية، يوجب على المسلمين، أشاعرة وسلفية.. التنبه لذلك الخطر المحدق بهم جميعا، فهم جميعا في بؤرة الاستهداف، والشريعة كلها مستهدفة كذلك"، متسائلا: "هل يستقيم مع كل تلك التحديات الخطيرة أن ينشغل بعض المسلمين بإثارة الخلافات العقائدية بينهم، وإشعال فتيل الصدامات والصراعات بينهم، والانشغال عن الخطر الداهم المستهدف لهم جميعا؟".

وانتقد الكتاني مسالك تلك الاتجاهات التي "تنشط وتشتد في غمرة إفساح السلطات السياسية لها مجال الحركة والعمل، في مهاجمة المخالف العقائدي لها، متوهمة أن الدولة ستمكنها من نشر أفكارها وعقائدها، مع أنها في الواقع لا تعمل إلا في إطار ضيق ومحدد لها" واصفا ذلك بأنه "من تلبيس إبليس على تلك الاتجاهات" بحسب قوله.

وفي ذات الإطار رأى أستاذ التفسير وعلوم القرآن بجامعة العلوم الإسلامية العالمية في الأردن، الدكتور جمال أبو حسان أن "قضية التمذهب قضية قديمة قدم المذاهب الفقهية والعقدية، وكان كل متمذهب ملتزم بمذهبه الفقهي والعقدي، يحاول الدفاع عنه وتسويغ قضاياه، دون التفات إلى تحطيم خصومه واستعدائهم، وهذا في الغالب بين المتمذهبين، إلا ما كان من بعض المتعصبين الذين يرون ما هم عليه الصواب لا غير، فاشتغلوا في تحطيم الخصوم واستعدائهم".


                        جمال أبو حسان، أستاذ التفسير وعلوم القرآن بالجامعات الأردنية

وتابع في منشور له على "فيسبوك"، اطلعت "عربي21" عليه: "ولم يحفل التاريخ بهذه القلة المتعصبة، نعم ذكر أحوالهم وما صنعوا ومضوا، وتركهم لخالقهم هو من يحاسبهم، وكان الفقهاء المتمذهبون وأصحاب الفكر العقدي بينهم في ساحات العلم سجالات لا تحصى، ولم تمنعهم تلك السجالات من أن يؤدوا حق الأخوة والإسلام لخصومهم من المسلمين الذين اختلفوا معهم في الأفكار والآراء، ومضى التاريخ بعجره وبجره".

ولفت أبو حسان إلى أن "تلك السجالات كانت قائمة على أصول معرفية يحتكم إليها الخصوم، وكنت مع ذلك ترى هؤلاء المختصمين لا تصدهم تلك الخصومات عن واقع الأمة الإسلامية في سائر أقطارها، فيتحدثون أمام الظلمة، وينكرون المنكر ويأمرون بالمعروف لا يحول بينهم وبين تطبيق الأحكام الشرعية حائل، فذكرهم التاريخ بكل خير على الرغم من تلك الخصومات والسجالات".

وأبدى أبو حسان أسفه على ما آل إليه واقع حال أتباع تلك الاتجاهات الدينية قائلا: "غير أننا ابتلينا اليوم بطوائف من المتخاصمين فاقوا ما كنا نلاحظه من قراءتنا في التاريخ، وهم يدعون انتماءهم إلى المذاهب الفقهية أو المذاهب العقدية، وخصوصا من يسمون أنفسهم بالأشاعرة أو السلفيين، فتجد كثيرا من المتمذهبين فقهيا لا هم لأحدهم إلا تحطيم المذهب الذي لا ينتمون إليه، حتى ليخيّل للناظر أن المذاهب الأخرى لم تشم رائحة الإسلام".

وأردف: "ولا يقبل أمثال هؤلاء ممن يخاصمونهم أن يدافعوا عن آرائهم أو يبينوا وجهة نظرهم في تلك المسائل، بل عليهم أن يستسلموا لخصومهم ويقروا بما يقولون حتى ينقلب السجال إلى مودة مصطنعة، وقد سرى هذا البلاء إلى داخل أروقة المدارس والجامعات والمعاهد والمساجد بطريقة تنذر بالخطر الشديد، دون أن يجد الناس ناصحا أمينا يتقبلون نصحه، أو بالأحرى لا يريدون سماع تلك النصيحة الخالصة".

وذكر أبو حسان أن التمذهب العقدي أشد وأخطر فأنت "واجد السلفي ليس له هدف سوى الطعن بالأشاعرة، وتشويه علمائهم وأنهم لا يفهمون في العقيدة فهمَ هؤلاء الأشاوس، مع أن التاريخ يذكر هؤلاء العلماء الأعلام بكل خير، ويبين جهادهم لنشر الإسلام وتبيين قضاياه، وتجد من يسمون بالأشاعرة لا هم لهم إلا الطعن في ابن تيمية وابن القيم وأضرابها، ومحاولة إخراجهم من دائرة العلم، بل قد تتعدى إلى إخراجهم من الإسلام، ويظنون أن هذا هو الدين الذي نصبهم الله للدعوة إليه".

وتابع منتقدا ذلك المسلك: "ونسوا أننا في هذه الدنيا دعاة لا قضاة، وأن من مات وكان مخطئا فحسابه على الله تعالى، وأنا في هذه الدنيا نناقش الأفكار من حيث هي بغض النظر عن القائلين بها، فنعرف قربها من الصواب بالنظر والاجتهاد ليس إلا، وقد يتعدى هذا إلى ما هو أعظم من ذلك، فلا نصر هؤلاء ولا أولئك دين الإسلام ولا احترموا علماءه".

وتعجب أبو حسان من حال أولئك المنشغلين بتلك الخلافات، مع عدم مبالاتهم بما يحدث للمسلمين "في العالم من بلايا وقهر، فلا ينبس أحدهم ببنت شفة، ويرون المنكرات في بلدانهم ويمرون عليها كأنهم لم يروا شيئا، ويشاهدون المفسدين من المسؤولين ومن هم دونهم فلا تسمع لهم همسا، مغيبون عن الواقع بكل ما فيه من مآس، لا يألمون لآلام المسلمين، ولا يستمعون لشكاياتهم، وأقرب ما نشاهد في دنيانا ما يحدث لأهلنا في فلسطين من تعامي العالم الجائر عن قضيتنا وأقصانا، دون أن تسمع لكبرائهم ولا لصغارهم أنينا، ولو بمقال صحفي، يعبرون فيه عن تآلفهم مع إخوانهم في قضاياهم".