قصة إبراهيم أبو لغد وأرض البرتقال الحزين يافا

أسماء فلسطينية عديدة أكاديمية سطع نجمها في الغرب في مجالات الأدب والعلم والفكر والتاريخ، وفي مقدمة هؤلاء، إدوارد سعيد وهشام شرابي وإبراهيم أبو لغد، حيث كان لهم باع في خدمة الإنسانية بشكل عام ونصرة قضيتهم وترسيخ الهوية الوطنية الفلسطينية كل في مجاله الأكاديمي؛ فما هي قصة الراحل إبراهيم أبو لغد مع معشوقته يافا، أرض البرتقال الحزين؟

يافا البداية

ولد الراحل الدكتور إبراهيم أبو لغد في الخامس عشر من شباط / فبراير عام 1929، في حنايا حي المنشية العريق في مدينة يافا أرض البرتقال الحزين، كما جنبات فلسطين الأخرى الجميلة، وترعرع في أرض البرتقال الحزين؛ وبعد نكبة عام  1948، هاجر إلى الولايات المتحدة، التي حمل جنسيتها لاحقا، حيث التحق بجامعة إلينوي ليحصل على درجة البكالوريوس في الآداب سنة 1951، ثم الماجستير في الآداب، قبل أن يحصل على دكتوراه الفلسفة في دراسات الشرق الأوسط من جامعة برنستون سنة 1957

عقب ذلك، عمل أبو لغد خبيرا ميدانيّا لليونسكو في مصر لثلاث سنوات، حيث تولى إدارة قسم أبحاث العلوم الاجتماعية، ثم عمل مستشارا للأمم المتحدة. تولى أبو لغد التدريس في كلية سميث بولاية ماساتشوستس وفي جامعة مكغيل بمدينة مونتريال الكندية. وفي سنة 1967، التحق بهيئة تدريس جامعة نورثويسترن أستاذا للعلوم السياسية، ثم صار في الثمانينيات رئيسا لقسم العلوم السياسية بها. اشتهر أبو لغد في هذه المرحلة في الأوساط الأكاديمية الأمريكية، وربطته علاقات وثيقة مع نخبة من كبار الأساتذة والباحثين، من بينهم إدوارد سعيد.

في سنة 1992، قررّ أبو لغد مغادرة الولايات المتحدة إثر تعيينه نائبا للرئيس وأستاذا في جامعة بيرزيت، حيث أقام بمدينة رام الله القريبة حتى وفاته. نشط أبو لغد عدة سنوات محاضرا وكاتبا في الدفاع عن القضايا العربية، ولا سيما القضية الفلسطينية.

انتخب سنة 1977 عضوا بالمجلس الوطني الفلسطيني؛ وهو البرلمان الفلسطيني في الخارج؛ الذي يعتبر المؤسسة التشريعية لمنظمة التحرير الفلسطينية؛ وشرع أبو لغد بعد ذلك بوقت قصير في تنفيذ مشروع جامعة فلسطينية وطنية مفتوحة في بيروت تحت رعاية اليونسكو، غير أن المشروع لم ينفذ آنذاك بسبب الغزو الإسرائيلي للبنان. استقال في 1991 من المجلس الوطني الفلسطيني، وقد كان من أنشط الأكاديميين والعرب في المحافل السياسية الأمريكية بعد سنة 1967.

قال إدوارد سعيد: "عرّفني صديقي أبو لغد على فلسطين كموضوع وكتجربة معاشة، وكان يكبرني بسبع سنوات، ومعرفته في فترة حياة فلسطين الانتدابية راسخة في وجدانه بشكل أثار في نفسي وفي كثير ممّن حوله، الرغبة في استعادة ذكرياتنا المدفونة منذ أيامنا الأولى، قبل أن تغير النكبة كل شيء. كان لديه معرفة هائلة ومتراكمة بشكل واضح ومفصلي لتاريخنا، بالإضافة إلى ذاكرة حية عن المكان وكل ما ينتمي إليه من أشخاص أو أشياء، أين ذهبوا، وأين يعيشون الآن أو عندما اختفوا".

ساهم أبو لغد في تأسيس اللجنة المستقلة لحقوق المواطنين ومركز إصلاح المناهج الدراسية (الذي كان مديرا له من 1995 إلى 1997) و"مركز قطان الثقافي" في رام الله. وقد عارض أبو لغد بقوة، كصديقه الراحل إدوارد سعيد، اتفاقات أوسلو سنة 1993، مع أنه ظل متحمسا لبناء المؤسسات الفلسطينية، وخاصة في الميدانين الثقافي والتعليمي.

وإضافة إلى عمله الأكاديمي، ألف الدكتور الراحل إبراهيم أبو لغد وحرر عدة كتب من أهمها؛ المواجهة العربية الإسرائيلية في 1967، منظور عربي (1970)، وتهويد فلسطين (1972)، و"كتاب المقاومة والمنفى والعودة؛ وهو عبارة عن حوارية مع هشام أحمد فرارجة"، وقد صدر عام 2011 عن وحدة الهجرة القسرية واللاجئين في معهد إبراهيم أبو لغد للدراسات الدولية جامعة بيرزيت بيرزيت ـ فلسطين، وقد أجاب  الكتاب على أسئلة كبيرة حول العام 1948 والنكبة، بناء على التجربة المصغرة التي حصلت في أماكن محدودة وصغيرة، وليزيح بعض الجوانب الغائبة، ومشاهدة ما كانت تمثله يافا في تلك الفترة من حداثة ونهضة ثقافية؛ حيث دار للسينما، ومسارح وحفلات ومحطات للإذاعة واستضافة لمطربين أمثال أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب، وثمة إصدارات عديدة منها، "المشهد الفلسطيني" (إدوارد سعيد وآخرون)، وقدمّ لكتاب "الفلاحون الفلسطينيون من الاقتلاع إلى الثورة". وله أيضا العديد من البحوث والمقالات والرسائل والدراسات العلمية المنشورة باللغتين الإنجليزية والعربية، ركزت في معظمها على القضايا السياسية والتاريخية والتعليمية في فلسطين والعالم العربي.

شهادتان

تلخص شهادة المفكر الراحل إدوارد سعيد عن المفكر الراحل إبراهيم أبو لغد، التي نشرت في مقالة مرثية؛ تلخص سيرة ابن حي المنشية اليافوي إبراهيم أبو لغد، التي امتدت بين سلك التعليم والبحث؛ فضلا عن دخوله المعترك العام في الولايات المتحدة الأمريكية، عبر نشاط سياسي مشهود له بين العرب في أمريكا، بغرض توحيد قدراتهم لنصرة الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة.

وقد قال إدوارد سعيد: "عرّفني صديقي أبو لغد على فلسطين كموضوع وكتجربة معاشة، وكان يكبرني بسبع سنوات، ومعرفته في فترة حياة فلسطين الانتدابية راسخة في وجدانه بشكل أثار في نفسي وفي كثير ممّن حوله، الرغبة في استعادة ذكرياتنا المدفونة منذ أيامنا الأولى، قبل أن تغير النكبة كل شيء. كان لديه معرفة هائلة ومتراكمة بشكل واضح ومفصلي لتاريخنا، بالإضافة إلى ذاكرة حية عن المكان وكل ما ينتمي إليه من أشخاص أو أشياء، أين ذهبوا، وأين يعيشون الآن أو عندما اختفوا".

تلخص هذه الشهادة من قبل المفكر الراحل إدوارد سعيد؛ سيرة الدكتور الفلسطيني ابن حي المنشية اليافوي إبراهيم أبولغد، التي امتدت بين سلك التعليم والبحث؛ فضلا عن دخوله المعترك العام في الولايات المتحدة الأمريكية، عبر نشاط سياسي مشهود له بين العرب في أمريكا، بغرض توحيد قدراتهم لنصرة الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة. كما اعتبره المؤرخ الفلسطيني رشيد الخالدي "أول باحث عربي أمريكي يحدث تأثيرا جديا" في نظرة الأمريكيين والمختصين بالعلوم السياسية إلى الشرق الأوسط والقضية الفلسطينية.

توفي الدكتور إبراهيم  أبو لغد في مدينة رام الله في الضفة الغربية يوم الأربعاء 23 أيار/ مايو من عام  2001، وقبل وفاته كتب الراحل أبو لغد وصية بدفنه في حي العجمي، وإن لم يقدروا؛ فبحرق جثته ونثر رمادها فوق يافا، أو دفنها جانب ضريح أخيه؛ فرفضت ابنته ليلى إلا أن يدفن ضريحه في مقبرة حي العجمي في يافا. ومن المعروف أن المحتل الإسرائيلي يرفض دفن اللاجئين الفلسطينين في قراهم ومدنهم التي طردوا منها؛ لأن ذلك يعتبر بمنزلة حق العودة المرفوض إسرائيليا، فألبست ليلى أباها لباسا رسميا وهو مسجى، وأجلسته بداخل سيارة وقد ثبت برباط الأمان؛ منطلقة من رام الله إلى إحدى مشافي القدس المحتلة، قاطعة الحواجز الإسرائيلية لأنه يحمل جواز سفر أمريكي ويحتاج إلى إسعاف سريع، وأنزلته المشفى، واستطاعت الحصول على شهادة وفاة على أنه سائح وتوفاه الله قبل ساعات.

وبالتعاون والتنسيق مع عضو الكنيست الإسرائيلي آنذاك محمد ميعاري، استطاعت الوصول بجثمانه إلى يافا والتحضير لجنازة مهيبة بدعوة من ميعاري، وتمّ لف الجثمان بعلم فلسطين وإقامة صلاة الجنازة في جامع حي العجمي، ليدفن في مقبرة الكزخانة جانب أضرحة أخيه وأجداده على بعد كيلومترين من الجامع؛ وقد شيعه الآلاف مرفوعا على الأكتاف من مدينتي يافا والقدس مشيا على الأقدام،  لتكون أكبر جنازة في يافا منذ نكبة عام 1948، وكان في مقدمة المشيعين المفكر الراحل إدوارد السعيد، والراحل فيصل الحسيني، والدكتور أحمد الطيبي أمدّ الله في عمره ورعاه.

وبذلك، حققت ليلى ابنة الراحل المفكر إبراهيم أبو لغد وصية أبيها بالعودة إلى أرض البرتقال الحزين  يافا.. ويمكن الجزم بأن هناك أعدادا كبيرة من العلماء والأدباء والمفكرين والمؤرخين الفلسطينيين في الغرب، كانت فلسطين والهوية الوطنية حاضرة وبقوة في نتاجاتهم المختلفة.

*كاتب فلسطيني مقيم في هولندا