من جملة
السمات التي تتسم بها جمهورية السيسي الجديدة المزعومة أن يتخذ ظهيرا دينيا يشكل
له دعما في حقيقة الأمر، خاصة مع اعتماده في خطابه على خصومة أبدية مع جماعة
الإخوان المسلمين، متخذا من هؤلاء مساحة وقناة ليسرّب ضمن خطابه رؤيتَه حول الدين
وفاعلياته في المجال العام. كما أنه يتخذ من هؤلاء الشيوخ إلى جانب زبانيته من
الإعلاميين في إطار اختطافه للمؤسسات الإعلامية الرسمي منها وغير الرسمي؛ يقدم
بذلك استراتيجية شبه متكاملة لتأميم الخطاب الديني.
وقد
ذكرنا فيما سبق كلاما عن المؤسسات الرسمية والكيفية التي تتعلق باختطافها وتطويعها
وتطبيعها، وفي حقيقة الأمر فإن مشايخ السلطان -مثلهم مثل
دكاترة السلطان- بات لهم
دور في ترويج خطاب الطاغية المستبد من غير أي اعتبار يتعلق بالشعب ومصلحته، بل هم
في النهاية طائفة من المبررين، والمروجين، وبائعي الوهم والتخدير. وهي وظائف يقوم
بها هؤلاء على نحو خطير خاصة حينما يلبسونها بآيات وأحاديث، وأحكام ومواقف، إلا
أنه في حقيقة الأمر أن بعض هؤلاء يقوم بصورة فجة وفاضحة بخطاب تحريضي يكرس صناعة
الكراهية ويؤسس لكل ما يتعلق بتأليه المستبد والطاغية؛ الذي في عرفهم لا يأتيه
الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
طائفة من المبررين، والمروجين، وبائعي الوهم والتخدير. وهي وظائف يقوم بها هؤلاء على نحو خطير خاصة حينما يلبسونها بآيات وأحاديث، وأحكام ومواقف، إلا أنه في حقيقة الأمر أن بعض هؤلاء يقوم بصورة فجة وفاضحة بخطاب تحريضي يكرس صناعة الكراهية ويؤسس لكل ما يتعلق بتأليه المستبد والطاغية؛ الذي في عرفهم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه
وكنت
قد اكتفيت بمقال سابق لي عن
المؤسسة الدينية واختطافها، إلا أنه استجد جديد، عجبت
له وأصابني بغرابة شديدة، واستنفرت لا لأن الأمر يخصني، ولكن لأن الأمر في حقيقته
يتعلق بثورة يناير وانقلاب الثالث من تموز/ يوليو، وهو أمر أخطر ما يكون فيحترف
هؤلاء المشايخ وظيفة الأبواق التي تردد كلمات الطاغية حول وصف هذه الثورة وغايتها
وأهدافها. بل هم في غالب أمرهم لا يعتبرونها ثورة أو نداء للتغيير أو حتى احتجاجا
شعبيا، ولكن هي في عرف المستبد وعرفهم فتنة تنال من الأمن والاستقرار، من دون أي
فهم لحقيقة الأمن الإنساني الذي تدل عليه الآية القرآنية الكريمة "الَّذِي
أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ" (قريش:4)، ويقومون بأدوار
خسيسة ودنيئة في تبرير الفقر، وتسويغه، كما يقومون بتبرير فعل الطاغية في الترويع
والتفزيع ويلبسونه زورا ثوب الأمن والتأمين، وهذا لعمري فرية كبرى يمارسونها في
خطابهم الديني؛ وقد وصل حال
مصر إلى ما نعرف وتعرفون.
ومن
المهم أيضا أن أؤكد، وبعد هذا الموقف المريب
من "الشيخ علي جمعة" قبل
وبعد الانقلاب، واعتباره الثورة فتنة وأن هؤلاء الموجودين في ميدان التحرير ليسوا
إلا "لعب عيال" على حد تعبيره، أن سبب إمساكي سابقا ألا أدخل في مهاترات
لشيخ كنا في يوم من الأيام نكن له احتراما، ولكن فوجئت بحديث له في أحد البرامج
التلفزيونية المصرية حول شهادته بشأن الانقلاب، وقد ذكر أسماء قليلة أهمها الشهيد
الدكتور محمد مرسي الذي كال له الأكاذيب والافتراءات، وذكرني تحديدا في شهادته تلك،
طالبا مني باعتباره من مشايخ السلطان والطاغية أن أتوب بين يدي الله، ذلك أنني
خالفت الشريعة مخالفة صريحة بمواقفي تلك، وأدان ما اعتبرتُه انقلابا (ما حدث في
الثالث من يوليو)، مدلسا بما أسماه "
ثورة 30 يونيو".
وهنا
وجب علي أن أشتبك مع بعض ما قال، وأن أوضح بعض ما قرر، وأبين كثيرا مما افترى،
فأنا الآن في حل، بعد صمت طيلة هذه الفترة لأؤكد أن أمر الشيخ قد عرفه القاصي
والداني، خاصة بعد خطابه التحريضي لإراقة الدماء، وهو يدلس عليّ، ويقول إنني خرجت
على الشريعة لأنني أبحتُ الدماء في الفتنة. وقد كذب والله، فلم أكن أبدا محرضا على
عنف أو إراقة دماء، بل إن أحد أهم الأسباب لتقديم استقالتي من مستشارية رئاسة
الجمهورية للدكتور الشهيد محمد مرسي هو سقوط بعض المصريين وإراقة دمائهم في عهد
كان يجب أن يخلو من ذلك، وليس كما أشار هو؛ فقد كان ما أشار إليه سببا هامشيا لا
أصليا.
فبحمد
الله تعالى أعرف المسؤولية في التحرز في الدماء، لا أحرّض عليها، أو أدعو لإراقتها،
أو أشجع على إزهاق النفوس بغير حق، بل هو من قام بذلك "ناس ريحتها نتنة، اضرب
في المليان، اضربوهم حيث وجدتموهم، وأنتم مأجورون".
من متناقضاته في هذا الشأن أنه يسمي ثورة يناير فتنة، ويسمي 30 يونيو وانقلاب 3 يوليو إصلاحا وتأمينا، ويحرّم خروجا هنا ويبيح خروجا هناك للحشد والتأييد للطاغية وقاطع الطريق على مسار ديمقراطي
ومن
متناقضاته في هذا الشأن أنه يسمي ثورة يناير فتنة، ويسمي
30 يونيو وانقلاب 3 يوليو
إصلاحا وتأمينا، ويحرّم خروجا هنا ويبيح خروجا هناك للحشد والتأييد للطاغية وقاطع
الطريق على مسار ديمقراطي: "وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ
قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ
وَلَٰكِن لَّا يَشْعُرُونَ" (البقرة11-12).
تلك
المعايير المختلة لدى شيوخ السلطان إنما تعبر في حقيقة الأمر عن أن هؤلاء قد
اشتروا بكتاب الله ثمنا قليلا. وهنا لا بد وأن أذكر وأذكّر بأنني بعد خطابه المفعم
بصناعة الكراهية والتحريض على القتل؛ كتبت له رسالة قلت له فيها "لا سامحك
الله"، فرد علي من فوره، وما زالت الرسالة في حوزتي وعلى هاتفي: "رضيتَ
أن تكون من كلاب النار"، معتبرا إياي من الخوارج المارقين.
وهنا
أنا مضطر للرد عليه في هذا الأمر؛ لا بشقشقات لفظية ولا بمواقف قبلية، ولكن أرد
عليه أنه من جنس هذا الذي أشار إليه القرآن: "وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ
الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ
فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُ
أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن
تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّٰلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ
الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ"
(الأعراف: 175-176). ولعل
علي جمعة داخل في نموذج "بلعام بن باعوراء"،
ذلك الحَبر اليهودي على عهد سيدنا موسى عليه السلام الذي خاب وضل بعد أن كان مقدما
في بني وطنه وأهله.
ومن
متناقضاته أيضا وافتراءاته أنه ألزمني بقول خطّأت فيه الإمام مالك، وفي حقيقة
الأمر لست أنا من يعلّمه أمرا يتعلق بالإمام مالك الذي أفتى بعد أن كان بعض
السلاطين والخلفاء يأخذون البيعة بالأيمان، وحينما سئل عن ذلك أفتى فتواه الحرة
التي تكتب بماء الذهب: "ليس لمستكره يمين"، رافضا إدخال الخطاب السياسي
السلطاني في شأن خاص يتعلق بالزواج والطلاق، فاعتبر ذلك إكراها.
أظنه أيضا يعلم مقام الهجرة عند التمسك بالحق كعمل مشروع وجليل أوصى به القرآن الكريم الذين ظُلموا وأرادوا أن يفروا للقيام بواجب الشهادة بالحق وللحق، فإن اعتبر ذلك هروبا، فلم يكن في حقيقته إلا إصرارا على التمسك لا فرارا وهربا، والتزاما بمقتضيات كلمة التوحيد التي بدأت بـ"لا" في الشهادة الأولى؛ فكل البشر قد يُحسنون قول "نعم"، أما كلمة "لا" هذه فأنت لا تعرف ثمنها، ولا كم تساوي
وفي
حقيقة الأمر أن تلك المقولة التي تلجلج فيها علي جمعة "سلطان غشوم خير من
فتنة تدوم"؛ قد قمت على تفكيكها توثيقا وتحقيقا وتدقيقا في أحد مقالاتي التي
نشرت حول "هوامش على الظاهرة الاستبدادية"، وبينتُ فيها أن تلك المقولة نُسبت
زورا إلى الإمام علي والبعض ادعى أنها حديث شريف أو نسبها للإمام مالك. وقد أوضحتُ
في هذا الإطار "أن تراثنا السياسي الإسلامي مفعم بالحديث عن الإمام العادل
الذي يعد خصب الزمان، وأن المقولة الحقيقية التي تتعلق بهذا الشأن هي أن "السلطان
الغشوم هو الفتنة التي تدوم"، وعلى من يريد أن يستوثق أن يعود للمقال في
مظانه.
ومن
تناقضاته أيضا أنه يعايرني بهجرتي من وطني في مواجهة الطاغية الذي قتل وطارد
واعتقل، ويتشفّى في حالي "تفرق في البلاد وخد الجنسية"، أتعرف لماذا
حصلت على الجنسية، لأن طاغيتك منعني من أوراقي الثبوتية، فلا تركن للذين ظلموا
فتمسك النار، كما رميتني من قبل أنني "من كلاب النار"، وأظنه أيضا يعلم
مقام الهجرة عند التمسك بالحق كعمل مشروع وجليل أوصى به القرآن الكريم الذين ظُلموا
وأرادوا أن يفروا للقيام بواجب الشهادة بالحق وللحق، فإن اعتبر ذلك هروبا، فلم يكن
في حقيقته إلا إصرارا على التمسك لا فرارا وهربا، والتزاما بمقتضيات كلمة التوحيد
التي بدأت بـ"لا" في الشهادة الأولى؛ فكل البشر قد يُحسنون قول
"نعم"، أما كلمة "لا" هذه فأنت لا تعرف ثمنها، ولا كم تساوي،
وقد ضللت الطريق واشتريت بآيات الله ثمنا قليلا.
يا
هذا دعك مني ومن توبتي فأنت أحق بالتوبة مما اقترفت، وبما قمتَ به وحرضتَ.. هنيئا
لك بجمهوريتك الجديدة، وهنيئا لك بأن كنت شيخا للطاغية، هذا حساب الدنيا وسأختصمك لدى
العادل الحق في الآخرة.
twitter.com/Saif_abdelfatah