مرة جديدة، يُظهر مصطلح «الهيشَة» أو «الهوشَة» على ما حفظته لنا المدوّنة المعجميّة التراثية العربية كما في نموذج «لسان العرب» لابن منظور، نجاعَتَه في وصف الحراك الاحتجاجي الكثيف، لأحفاد المهاجرين الشمال أفريقيين في
فرنسا، على خلفية مقتل الشاب الفرنسي المتحدر من أصول جزائرية ومغربية، الذي لم يبلغ السن القانونية بعد، نائل مرزوق، وهو عامل توصيل «الدليفري» لطلبات البيتزا، على يد شرطي «أعدمه» بالرصاص الحي؛ لأنه لم يتوقف عند الإشارة المرورية الحمراء.
لمصطلح الهيشة أو الهوشة دلالات محاكية لنموذج
الاحتجاجات الحالية. هذا إن تخففنا من حكم القيمة عند استدعاء المصطلح.
فما يستفاد من حضور مصطلح الهيشَة أو الهوشة وهو واحد في «لسان» لابن منظور، ومن قبله في «صحاح» الجوهري، أنها ظاهرة محكومة من أوّلها بالتلاشي من بعد أوسع تصعيد. إنما يكشف انفلات الظاهرة في الوقت عينه حجم الصدع في المجتمع الذي تنفجر فيه قبل أن تُحاصَر فيه ثم تُخمَد أو تخبو.
و«الهيشَة» إذا ما أخذنا بالتقسيم الثلاثي لطبقات أو منازل المجتمع، في مرويات التراث الإسلامي، بين الطبقة الحاكمة وعساكرها، وبين طبقة علماء الدين، وبين مجاميع العامة، هي موجة غاضبة، متفلتة، سريعة النشوب والتمدّد، تنفجر في صفوف العامة، بخاصة في الأسواق في أثناء اختلاط القوم، من دون أن يكون لها أفق في الوقت نفسه، كي تنعقد عليها حيثية دينية أو مذهبية مثلا.
بهذا المعنى «الهيشَة» بلا أيديولوجيا. لا خطاب لها إلا ما يتأوله لها الخصوم أو المراقبون. وهكذا مثلا يخوض الإعلام الفرنسي في نقاش الظاهرة، أصلها وفصلها، و«أين الخطأ» وكيف لا تتمدّد ولا تتجدّد، وكيف لا يستفيد رهط من أشاوس اليمين المتطرف منها، دون أن يكون للمنخرطين في الهيشَة قول مسموع يدخل في هذا التداول بشكل فعليّ. النقاش في الهيشَة جزء من عملية إخمادها.
في الهيشة أو الهوشة كما حفظت رسمها كتب التراث، تبقى هذه الظاهرة الغضبية ضمن العامة ولا تخترق الحواجز في اتجاه الطبقة العلمائية (وما يرادفها في المجتمع الحديث من أنتلجنتسيا)، ولا في اتجاه التعبير عن انقسام ما ضمن الطبقة الحاكمة. هذا بخلاف «الفتنة» المرشّحة دائما وفقا لهذا المنطوق، بأن تبعثر الفواصل بين العوام وعلماء الدين، بل أن تحدث خرقا في الطبقة الحاكمة وعساكرها.
الفتنة يمكن أن تصعد بهذا المعنى من تحت إلى فوق، أو أن تنزل من فوق إلى تحت. أما الهوشة فليس بمستطاعها أن تنتقل من العوام إلى سواهم.
الفتنة تحدث عندما ينقاد نفر من العامة وراء طامح للرئاسة وهو على رأس جماعة من الجند، أو وراء شخصية أو مجموعة لها خطاب ديني مناقض للخطاب المتسيّد في المجتمع القائم. والفتنة بأية حال غير محكومة بأن تبقى محصورة بجزء من العامة. أما الهيشة فهي حبيسة العامة. أو هي عراك بين فئتين منهم.
و«الهَيشة» تحيل إلى تواطؤ الأصوات والمعاني بين «هاشَ» و«هاجَ» و«ماجَ». وليست بعيدة عن أنواع القلاقل والحركات الشعبية الساخطة التي جرت تسميتها بالعامية المصرية «الهوجة». بل إن حركة أحمد عرابي باشا في مصر هبّطها أخصامها فجعلوها «الهوجة» «هوجة عرابي».
فهل يُستفاد من ذلك أن كل هيشة هي عمل أهوج؟ العقل التراثي، «ما قبل الحداثي» كانت تستفزه كل أنواع الفتن والقلاقل، ويتعامل معها جميعها على أنها إفساد في الأرض.
والعقل الحداثي أيضا يقول ذلك بتصرّف عندما يتعلق الأمر بالهَيشة.
ذلك أن العقلَ الحداثيَّ، بخلاف سابقه، يميّز بين «ثورات» يعلي من شأنها، وهذه تُحدِثُ تحوّلا مجتمعيا شاملا، له ـ في تقديره ـ لبّ عقلاني مهما اختلط أو توارى وراء حيثيات لاعقلانية في مسار مخاضه وتحققه. في حين يُعامِل هذا العقل الحداثيّ «الرايوتس» بالإنكليزية، أو «الإيموت» بالفرنسية، على أنها أقرب إلى اللاعقل البحت، الذي لا يحيل على أي معقول، لا أمل له في شقلبة الأوضاع.
مصيبة العقل الحداثي، اليوم بالتحديد، تكمن هنا، في التعامل مع «هوجة نائل» – إذا ما استعنا بالعامية المصرية، وعلى غرار «هوجة عرابي» – على أنها ضرب من الجنون، يجري نهره وإخضاعه، بمزيج من هراوات «العقل» ومواعظه.
وهذه المصيبة تتبدى أكثر ما تتبدى في هيمنة سؤال واحد، وهو سؤال مضلّل إلى حد كبير. فكلما قامت بين هذا الشباب المتحدر من أصول شمال أفريقية، عربية وأمازيغية، في فرنسا قومة، وانخرط في «هيشة» أو «هوجة»، راح الاستفهام مباشرة: «كيف نقطع الطريق على اليمين المتطرّف كي لا يستفيد منها؟».
يتبختر هذا السؤال بين المواقع وقنوات التلفزة كما لو أنه محصّن من النقد. كما لو أنه سؤال «صاحب سيادة». ليس من يسائله، وليس لك أن تفككه. وهو في الواقع ليس بسؤال. إنه قمع لعالم الأسئلة. هو مصادرة تنطلق من أن غضب أبناء الضواحي، في الحالة الراهنة، هو بحد ذاته «شرّ» ينبغي النأي به عن إحداث شرّ آخر، من خلال تمكين اليمين المتطرف في المجتمع بعد أكثر. أي كما لو أن هذا اليمين المتطرف «على حق»، إنما ينبغي قطع الطريق على استفادته من حقه هذا، بما أن ذلك سيؤدي إلى تعميم البلاء والشطط.
والحال أن «استفادة اليمين المتطرف» من عدمها هي فزاعة تطيح بأي نقاش جدي لهذه الحوادث والنوبات التي تعصف بالمجتمع الفرنسي، وكل مرة بحدّية أكبر. لا يمكن فصل هذه «الهيشات» أو «الهوشات» ليس عن الماضي الكولونيالي لفرنسا (التي تجري المبالغة في إقحامه كيفما كان، و«خبط لصق» في حاضرها)، وإنما عن استمرار الآليات الكولونيالية في تعاطي الشرطة وأجهزة الأمن مع أبناء المهاجرين ومجتمعات الضواحي. ولا يمكن فصلها في الوقت نفسه عن مشكلة فعلية لا تتعلق فقط بتقادم آليات الاندماج الوطني، بل تقادم فكرة الاندماج الوطني نفسها. في هذا الشباب المنتفض، وهنا لا وجاهة في استمرار المكابرة على ذلك، مواطن رفض للاندماج غير متعلقة فقط بسوء الآليات المتبعة لتحفيزه أو تحقيقه، ولا بمدى ردم الهوة بين المساواة القانونية النظرية بين المواطنين وبين أشكال اللامساواة الفعلية بينهم، طبقية كانت أم إثنية. ثمة شعور عميق عند هؤلاء الشباب الذي ولد معظمهم في فرنسا أن مسقط رأسهم هذا أرض منفى، وأرض آبائهم وأجدادهم كذلك أرض منفى، والعالم بأسره أرض منفى. هذا التفكير لا يُعالج ولا حتى بأفضل أنواع الدمج. هذا التفكير ليس المفترض من الأساس أن يقابل بالبحث بتقنيات علاجية له، وإنما بالتفاعل وتحقيق التوازن معه. فعمق هذا التفكير الإنساني موجود في كل واحد منا. هذا الكوكب هو في آن موطننا ومنفانا.
كما أنه تفكير يظهر على نحو جليّ في الهوشة الحالية بالتحديد أنّ المسألة الإثنية أو العرقية، وليس فقط مسألة الاختلاف الديني، هي مسألة لم يتمكن العقل الجمهوري الفرنسي بعد من الخوض فيها على نحو مصارح، لذاته أولا، بأنه «لم يعتد بعد» على الاختلاف في السحنة، وفي اللهجة، مع أبناء المهاجرين، وليس فقط مع دينهم ونظراتهم لبلاد أسلافهم أو للماوراء. وهنا عتاة اليمين المتطرف أصدق تعبيرا من الماينستريم الجمهوري. فقد وصف هؤلاء «هوجة نائل» بأنها هجوم لعرق على عرقهم، وفي هذا انعكاس بشكل أو بآخر لعدم ارتباط النوبة الحالية من الاحتجاج بأي شبهة تشدّد ديني أو أي إحالة دينية من قريب أو بعيد. «فقط» عامل إيصال طلبات بيتزا الى المنازل أعدمه شرطي لأنه تجاوز قوانين المرور.
القدس العربي